ربما يكون هذا العام هو عام نتفلكس المميز؛ ففي 22 يناير/كانون الثاني، أصبحت الشركة التي كانت في بداياتها تؤجر أقراص الديفيدي العضو السابع في جمعية السينما الأميركية، فضلاً عن أنها تلقت في اليوم نفسه 14 ترشيحاً لجوائز الأوسكار، ما يزيد عن مجمل الترشيحات التي تلقتها في تاريخها. وكانت ليلة الأوسكار أكبر ليلة في تاريخها على الإطلاق، إذ فازت بأربع جوائز أوسكار لتنال المركز الأول في عدد جوائز الأوسكار التي ينالها استديو إنتاج سينمائي في عام 2019 مناصفة مع كل من والت ديزني وفوكس ويونيفرسال. كما عززت نتفلكس موقعها في العالم السينمائي بكل شكل ممكن وفي غضون شهر واحد.
إلا أنه لا يزال أمام نتفلكس خطوة واحدة لم تقم بها حتى الآن، ألا وهي "إطلاق" أفلامها في دور العرض.
يمكنك بالتأكيد في بعض الأحيان مشاهدة فيلم نتفلكس في عرض محدود في دار سينما قريبة منك، لكن حتى عند قيامها بذلك، لا تطبق نتفلكس معايير الصناعة التقليدية. فبدل قيامها بإطلاق ذاك العرض السينمائي المحدود بشكل عرض حصري، توفر الفيلم دائماً على منصتها في اليوم نفسه الذي تطلقه فيه ضمن دور العرض. وفي حالات نادرة، تعرض أفلامها أولاً في دور العرض لبضعة أسابيع فحسب قبل العرض لاحقاً على منصتها على الإنترنت في فترة هي أقل من فترة 90 يوماً التي تستخدمها بشكل قياسي كل استيديوهات هوليوود الكبرى الأخرى.
ويثير ما سبق سؤالاً مهماً حول كيف يمكن لنتفلكس أن تحقق نجاحاً كبيراً مع رفضها في الوقت ذاته لأهم جزء من مجال الأعمال هذا وهو الإصدار في دور العرض السينمائية؟
وإذ أردنا الإجابة عن هذا السؤال، من المهم لنا أن نفهم لماذا استخدمت استوديوهات هوليوود منذ عقود نموذج "الفترة الحصرية" لإطلاق أفلامها. لقد بدأ ذلك من فكرة مهمة مفادها أنّ قيمة كل فيلم تختلف بين مشاهد وآخر، فقد يرى البعض مثلاً أنّ الفيلم يستحق دفع 15 دولاراً لمشاهدته ويستحق أن يشاهد في دور السينما حال صدوره، في حين يرى البعض الآخر أن الفيلم يستحق فقط 5 دولارات ويقرر مشاهدته لاحقاً عند إطلاقه على أقراص الديفيدي. ومن الواضح أن الاستوديوهات تريد بدورها تحقيق أكبر مبلغ ممكن من المال من أفلامها مع إرضاء جميع الأطراف في الوقت ذاته.
ولقد اكتشفت الاستوديوهات منذ وقت طويل أنّ الطريقة الأكثر ربحية لتحقيق هذا الهدف تكمن في تقديمها بشكل استراتيجي لاختلافات في التوقيت والجودة وسهولة الاستخدام لأفلامها، بحيث يدفع المستهلكون الذي يرون أنّ الفيلم الذي يملك قيمة مرتفعة مبالغ أكبر مقارنة بالمستهلكين الآخرين الذين يرونه بشكل أدنى من ذلك. وكان العرض السينمائي العامل الأساس لجعل هذه الاستراتيجية التسعيرية ناجحة، إذ سمح إتاحة الفيلم حصرياً على "شاشة دار العرض" تقسيم الاستوديوهات لعملائها إلى فئتين وهما: أصحاب القيمة العالية (غير الصبورين والذي يفضلون أعلى جودة ممكنة)، وباقي المشاهدين. ويفسر ذلك سبب قيام شخص ما بدفع 15 دولاراً مقابل تذكرة دار عرض في مقابل استئجار نفس الفيلم مقابل 4.99 دولارات بعد بضعة أسابيع.
وقد كان الوضع مثالياً للغاية لدور العرض تلك، لكن لماذا قررت نتفلكس إطلاق أفلامها في دور العرض في نفس اليوم الذي توفر الفيلم ذاته "مجاناً" على منصتها على الإنترنت؟ تكمن الإجابة هنا في أنّ نتفلكس تتبع نموذج عمل مختلف تماماً عن باقي الاستديوهات.
لا تقوم نتفلكس ببيع أفلام فردية إلى عملاء مختلفين، بل تقوم بدلاً من ذلك ببيع أفلام مختلفة إلى عملاء فرديين. وتقوم نتفلكس بذلك عبر تجميع تلك الأفلام في باقات، الأمر الذي يسمح لها باتباع طريقة تسعير مختلفة عما تفعله استوديوهات الأفلام. فبالنسبة لنتفلكس، لا تحتاج إلى معرفة مدى تقدير المستهلك لأي فيلم على حدة في الخدمة التي تقدمها، بل تجعل المشترك يقوم بشراء كامل الباقة، وهو ما يحقق لها الأرباح.
ويعمل نظام التجميع في باقات بطريقة مثيرة للانتباه. ولقد كتبنا عن هذا الأمر في كتابنا الذي حمل عنوان "البث عبر الإنترنت، والمشاركة، والسرقة" (Streaming, Sharing, Stealing) والذي صدر عام 2016 ويتحدث عن الطبيعة المتغيرة لصناعة الترفيه. باختصار، كلما زادت المنتجات التي يمكن للبائع تقديمها للمستهلكين في باقة، زادت قدرة البائع على التنبؤ بمتوسط قيمة الباقة للمستهلكين المختلفين. فلن يقوم كل مستهلك برؤية الأفلام الفردية في الباقة بالطريقة ذاتها، وهو أمر لن يهم كثيراً في حال كانت الباقة شاملة بما يكفي لإرضاء كل الأذواق. وإذا تمكن المورد من التنبؤ بمتوسط القيمة التي يرغب المشترك في دفعها مقابل كل الأفلام في الحزمة بشكل دقيق، سيمكنه تحديد سعر أقل بقليل من تلك القيمة واستخراج أقصى قيمة ممكنة من جمهوره.
وكما نلاحظ في كتابنا، يفسّر ذلك سبب قيام منصات البث عبر الإنترنت، مثل نتفلكس، باتباع استراتيجيات غير تقليدية خلال إطلاقها لأفلامها في دور العرض مقارنة بالاستوديوهات الأخرى، وذلك على اعتبار أن لديها القليل جداً لتخسره. ففي نموذج العمل التقليدي، يؤدي أي خلل في فترة إصدار دور العرض السينمائي المحدودة إلى تعريض الأرباح للخطر. لكن ترى نتفلكس الأشياء بشكل مختلف. فإذا كانت الشركة تستطيع كسب بعض المال أو الفوز ببعض الجوائز من خلال إطلاق أفلامها في دور العرض، فهذا أمر رائع. ولكنها لا تحتاج إلى إصدار خاص بدور العرض لتوليد الأرباح من أفلامها.
وتكمن المشكلة في أن قطاع الأعمال الحالي يجد صعوبة في فهم استراتيجية نتفلكس. ففي نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، انتقد جون فيانتيان، رئيس الرابطة الوطنية لمالكي دور العرض نتفلكس، متسائلاً: "ألن تكسب نتفلكس أموالاً أكثر وتنشئ حواراً ثقافياً أعمق بكثير إن قامت بتقديم عرض سينمائي حقيقي وقوي أولاً، ثم تقديم عروض حصرية لمشتركيها في وقت لاحق؟".
مع كل الاحترام الواجب، فإننا نعتقد أنّ السيد فيثيان يطرح فكرته بشكل معكوس. فالسؤال هنا هو "ألن تكسب الاستوديوهات مالاً أكثر إن تبنت النموذج نفسه الذي تستخدمه نتفلكس؟".
وفي الواقع، هذا ما بدأت تلك الاستديوهات فعله تماماً، إذ كان الاندماج بين ديزني وفوكس واستحواذ آي تي أن تي على وارنر براذرز يهدفان إلى مواجهة استراتيجية نتفلكس في تجميع الأفلام في باقات. ومع تبني المزيد من الاستوديوهات لنموذج العمل الجديد هذا، نؤمن بأنهم سيدركون كيف يفيد التجميع في باقات كل من أعمالهم وجمهورهم.
لكن يحمل التجميع في باقات أيضاً فائدة أخرى مهمة، إذ يسمح للفنانين العظام برواية قصص رائعة، كما هو الحال في فيلم ألفونسو كوارون الحائز على جائزة الأوسكار الذي يحمل عنوان "روما"، وقد وضح كوارون في مقابلة أُجريت معه الشهر الماضي كيف سمحت له نتفلكس بإنتاج فيلم لم يكن من الممكن إطلاقه في عرض دور سينما تقليدي، حيث قال: "لقد صنعت فيلماً يبدو على الورق مستبعداً للغاية وصعباً جداً. إنه فيلم درامي لا يمكن اعتباره أنه ينتمي إلى فئة أفلام معينة، وباللونين الأسود والأبيض وباللغة الإسبانية ولغة سكان المكسيك الأصليين. وعندما تم عرضه، لم يكن ممثلوه معروفون. كان لينتهي المطاف به في دار عرض واحدة في لوس أنجلوس، وأخرى في نيويورك، ودور متفرقة هنا وهناك في مدن العالم المختلفة".
يجب أن تفخر نتفلكس بما قدمته لكوارون ليحقق ما حقق، ويجب أن تفخر بالجوائز التي فازت بها في ليلة الأوسكار. ولكن ما يجب أن تفخر به حقاً، وما جعلها حقاً من رواد صناعة الترفيه، هو أنها توصلت إلى طرق معاصرة فعالة ومربحة لإعادة تعريف ما كان يُنظر إليه على أنه النجاح في صناعة الترفيه: استخدام التقنيات الجديدة لإنشاء قصص جذابة، واستخدام نماذج الأعمال المناسبة لجلب هذه القصص للجمهور.