ميزة العراقة الاستراتيجية

12 دقيقة
العراقة الاستراتيجية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كيف تطلق الشركات العنان لقوة التعقيد والثقة والالتزام؟

عملنا قبل بضع سنوات مع عدد من كبرى الشركات العريقة، وأنشأنا آنذاك مُجسَّماً لمقبرة مليئة بشواهد القبور التي تحمل أسماء عمالقة الصناعة الذين أشهروا إفلاسهم مبكراً أو اضطروا إلى تصفية أعمالهم وبيع منتجاتهم بأسعار مخفضة للغاية. تضمنت المقبرة شركات كانت تُعتبَر في السابق رموزاً أيقونية في عالم قطاع الأعمال، مثل “كوداك” و”بلوك باستر” و”ديجيتال إكويبمنت كوربوريشن” و”بان أميركان” و”بوردرز” و”آتش إم في” و”نورتل نتوركس” و”ساب”. كان الهدف من هذا التمرين هو مطالبة قادة الشركات بالتفكير في السؤال التالي: هل الانهيار البطيء أمرٌ لا مفر منه لأي شركة قائمة؟

راح الكثير من قادة الشركات على مدى العقدين الماضيين يركزون، ربما بصورة أكثر من اللازم، على هذا السؤال الوجودي. فقد كان الجميع خلال معظم فترات القرن العشرين ينظرون بإعجاب إلى الشركة التي تواصل ممارسة أعمالها التجارية لسنوات عديدة وتستحوذ على حصة سوقية ضخمة وتمتلك قاعدة كبيرة من الموظفين. وكانوا ينظرون إلى الحجم باعتباره أحد أصول الشركة، وليس إحدى مسؤولياتها. ولكن في أوائل التسعينيات، بدأت الشركات المهيمنة على الأسواق لفترات طويلة من الزمن، مثل “آي بي إم” و”جنرال موتورز”، تتكبد خسائر فادحة.

وفي وقت لاحق من ذلك العقد، أصبحت نظرية كلايتون كريستنسن للابتكار المزعزع التي تصف كيفية وقوع الشركات العريقة ضحية نجاحها، مفهوماً شائعاً في الاستراتيجية. وتسبب هذا في حدوث تحوّل مهم في العقلية السائدة، فغالباً ما يُنظر اليوم إلى تاريخ الشركة وحجمها باعتبارهما نقاط ضعف، وعادة ما يتم تشبيه الشركات “العريقة” بالعملاق الضخم الذي سيلقى هزيمة نكراء في النهاية على يد شركات ناشئة أصغر حجماً وأكثر رشاقة. وتسبّب هذا الفكر السائد في تشجيع الكثير من قادة السوق على اتخاذ موقف دفاعي، مستسلمين للفكرة القائلة بأن زعزعة الشركات وانهيارها أمر حتميّ لا مفر منه. وقد يتسبب هذا الفكر في شيوع جوٍّ من اليأس يحبط جهود الابتكار والتحوّل داخل هذه الشركات.

غير أننا نرى الأمر بطريقة مختلفة تماماً. إذ يجب على الشركات القائمة عدم اتخاذ موقف دفاعي، وأن تحرص بدلاً من ذلك على تبني عقلية ومجموعة من السلوكيات التي نسميها “العراقة الاستراتيجية”. ونحن نعرّف “العراقة الاستراتيجية” بأنها قدرة الشركة القائمة على تحويل تاريخها وحجمها وتقاليدها إلى مزايا رئيسية تتجسّد في القوة السوقية والعلاقات الوثيقة والرؤى الثاقبة. وإذا تمت إدارة هذا التحوّل بشكل جيد، فسيتيح للشركات القائمة القدرة على إعادة ابتكار نفسها واستراتيجياتها ونماذج عملها وخلق فرص جديدة ودرء خطر الشركات الناشئة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف تفعل ذلك؟ وما هي الخطوات التي يمكن للشركات القائمة الناجحة اتخاذها لتجاوز الظروف الصعبة؟ وما هي مؤهلاتها التي تميزها عن الشركات الأخرى في هذا السياق؟ وما أهم المزالق التي يجب عليها تجنبها؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، أجرينا دراسة استمرت لمدة 3 سنوات وشملت عدداً من الشركات القائمة العالمية التي تعمل في قطاعات متنوعة. وبدأنا بالشركات المدرجة على قائمة “غلوبال 500” وغيرها من الشركات التي عملنا معها، وطبّقنا 6 معايير (التاريخ والحصة السوقية والأداء المالي خلال فترات الركود والقدرة على تكييف الأعمال الأساسية والقدرة على إنشاء محرك ثانٍ للنمو والقدرة على التحمل في مواجهة الأحداث السلبية)، وذلك لاختيار 38 شركة استطاعت التصدي للتحديات ولا تزال مزدهرة. وقد درسنا أوضاع هذه الشركات بشكل مفصَّل خلال الفترة من 1995 إلى 2019، وأجرينا عشرات المقابلات الشخصية مع قادتها من أصحاب المناصب التنفيذية العليا للتعرّف على كيفية نجاح مؤسساتهم في الاحتفاظ بتفوقها.

وعلى الرغم من سجل إنجازاتها الحافل بالنجاحات، فإن الشركات التي درسناها تقاوم إغراء قبول الوضع الراهن. وبدلاً من وضع افتراضات سلبية، فإنها تتساءل بقوة عمّا إذا كانت احتياجات العملاء لا تزال كما هي دون أن يطرأ عليها تغيير، وعمّا إذا كان بالإمكان تحديد المنافسين بوضوح، وعمّا إذا كان الاسم الرنّان للعلامة التجارية يوفر لها الحماية الكافية. فهي تتساءل، كيف تتغير احتياجات العملاء؟ وكيف تتسبب شركات غير تقليدية في ظهور مخاطر تنافسية؟ وما هي العوامل التي قد تتسبب في تدمير الولاء للعلامة التجارية بهذه السرعة، ما يسمح للعلامات التجارية المتمردة بالاستيلاء على حصتها السوقية؟

كما أنها تستغل عراقتها لصالحها. وقد استطعنا من خلال بحثنا تحديد 3 قدرات تمنحها مزايا تنافسية: القدرة على إدارة التعقيد، والقدرة على الحفاظ على تركيزها على النتائج بعيدة المدى، والقدرة على الاستفادة من علاقاتها مع العملاء للتوسع في السوق. وسنتناول في هذه المقالة بالتفصيل التحركات التنافسية لثلاث شركات استغلت نقاط القوة الثلاث المشار إليها أعلاه.

تسخير التعقيد

على الرغم من المدلول السلبي لمصطلح التعقيد، فإن له جوانب محمودة وأخرى مذمومة. وتندرج الإجراءات البيروقراطية التي تسهم في إبطاء عملية صناعة القرار وتغذّي ألاعيب السلطة داخلياً وتثقل كاهل المؤسسة بالأعباء “المهدِرة للوقت” تحت بند التعقيد المذموم.

وأي شيء يسهم في تعزيز صافي المبيعات أو النتائج النهائية ويغذي حالة التوافق والشعور بالطاقة والتركيز يندرج تحت بند التعقيد المحمود. وتحرص الشركات التي تعتمد أسلوب “العراقة الاستراتيجية” على التخلص بشكل منهجي من التعقيد المذموم وزيادة التعقيد المحمود بشكل فاعل، غالباً عن طريق تلبية مجموعة واسعة من احتياجات العملاء بطرق لا يستطيع صغار المنافسين محاكاتها.

ومن أبرز الأمثلة على القيمة المضافة للتعقيد شركة “هندوستان يونيليفر ليمتد” (HUL) الهندية التابعة لشركة “يونيليفر” الأنجلو هولندية متعددة الجنسيات. فعندما تولى سانجيف ميهتا منصب الرئيس التنفيذي للمؤسسة التي كان تاريخها يصل آنذاك، أي في عام 2013، إلى 80 عاماً، كان عليه التصدي للميول الداخلية السائدة حينذاك التي كانت ترى أن فرص النمو محدودة أمام أكبر شركة في البلاد للسلع الاستهلاكية سريعة التداول. ولمجابهة هذا التصور، طرح سؤالاً بسيطاً: “ما هي هوية المستهلك الهندي؟”.

لم تكن هناك إجابة واحدة في دولة يتجاوز عدد سكانها المليار نسمة، وتتغير فيها اللغة والثقافة والأذواق والتفضيلات كل بضع مئات من الكيلومترات. وبدلاً من التعامل مع السوق الهندية ككتلة واحدة، ابتكر ميهتا وفريقه استراتيجية تسمى “الفوز في مختلف أنحاء الهند”. حيث عملوا أولاً على تقسيم الدولة إلى 14 شريحة استهلاكية استناداً إلى أنماط الاستهلاك ومرحلة النمو الاقتصادي. ثم حددوا طرقاً لاستخدام استراتيجية التوطين ودفع عجلة النمو، ليس فقط من خلال تكييف المنتجات بما يناسب الأذواق المحلية، ولكن أيضاً من خلال تنويع استراتيجيات التوزيع وسلاسل التوريد بما يناسب كل منطقة. ولتحسين مستوى المرونة في مؤسسته، شكّل ميهتا 15 فريقاً نوعياً يهتم كل منها بفئة معينة من المنتجات، مثل منتجات العناية بالمنزل وغسيل الملابس والعناية بالشعر والعناية بالبشرة والمنتجات الطبيعية والمنتجات الغذائية. وتم إدارة كل فريق بشكل مستقل من قبل مجلس إدارة مصغَّر يرأسه مدير عام مُطالب بتحقيق مستهدف معين من الأرباح وسقف محدّد من الخسائر لا يمكنه تجاوزه. وساعد هذا الهيكل التنظيمي اللامركزي شركة “هندوستان يونيليفر” على استثمار الموارد بطريقة تمكّنها من الحصول على أعلى العوائد من خلال تلبية مختلف الاحتياجات والأذواق في كل منطقة. على سبيل المثال، استخدمت الشركة رؤى المستهلكين المستمَّدة من مختلف المناطق لصنع أنواع مختلفة من توليفات الشاي وصنع مستحضرات التجميل بمجموعة واسعة من الأصباغ المناسبة للون البشرة في المناطق المحلية. وقد تم توضيح مدى تعقيد الاستراتيجية من خلال مصفوفة مكوّنة من 14 خانة × 15 خانة، حيث تمثل كل خانة أسلوباً لتسويق فئة معينة في إحدى الأسواق المحلية المميزة بالهند. وسمح حجم شركة “هندوستان يونيليفر” ومواردها، أي عراقتها، بتنفيذ عدد كبير من الأساليب في وقت واحد، في حين أن أي شركة ناشئة لا يمكنها أن تحلم بتوطين هذا الكم من المنتجات في هذا العدد من المناطق.

فكم عدد الفرق القيادية التي تجرأت على إجراء تغيير هيكلي بهذا الحجم في شركة ناجحة بهذا الشكل في تلك الحقبة؟ كانت الطريقة الوحيدة المتاحة أمام ميهتا لوضع شركة “هندوستان يونيليفر” على طريق النمو في المرحلة التالية هي تحقيق التواؤم بين الهيكل التشغيلي للشركة وحالة التباين في دولة بحجم الهند. فقد أوضح للمستثمرين قائلاً: “لقد أضاف [الهيكل الجديد] عنصر التعقيد إلى أعمالنا التجارية، لكنه يشبه الكوليسترول المفيد، فهو تعقيد مُرحَّب به وتعقيد نستطيع إدارته”. وأدت جهود شركة “هندوستان يونيليفر” إلى نمو الإيرادات بنسبة 41% خلال الفترة من 2013 إلى 2019، بالإضافة إلى مضاعفة الأرباح قبل الضرائب وتحسين هوامش الربح بمعدلات ثابتة. وقد كافأ المستثمرون الشركة، حيث وصلت القيمة السوقية لشركة “هندوستان يونيليفر” في أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى 60 مليار دولار، ما جعلها واحدة من أكثر شركات السلع الاستهلاكية سريعة التداول قيمة في العالم، متفوقة على شركات “كولجيت بالموليف” و”كرافت هاينز” و”ريكيت بينكيزر”.

غالباً ما تنظر الشركات القائمة بعين الحسد إلى المنافسين الجدد الذين يمتلكون المرونة ولا يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعامل مع عبء الأنظمة القديمة. لكن ذلك يعميها عن إدراك ميزتها الأساسية.

الحفاظ على التركيز على النتائج بعيدة المدى

أظهرت الشركات القائمة الناجحة في دراستنا قدرة استثنائية على الالتزام بالاستراتيجية الرامية إلى تحقيق النتائج بعيدة المدى. ففي حين أن الشركات القائمة التي تتخذ مواقف سلبية تنشغل بمستوى الأداء ربع السنوي، فإن الشركات التي تعتمد أسلوب “العراقة الاستراتيجية” تسعى جاهدة لتحقيق التوازن بين تحقيق نتائج إيجابية في الوقت الحاضر والاستعداد للمستقبل. وقد أوضح الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات التي درسناها، قائلاً: “تعتبر المقاييس قصيرة الأجل بمثابة بطاقة خارجية لقياس الأداء، ولكنك تحتاج أيضاً إلى بطاقة داخلية لقياس الأداء تراعي الإسهامات التي تقدمها للموظفين والعملاء والمجتمع على المدى البعيد”. ونجد أن مستوى الالتزام من جانب الرئيس التنفيذي والإشراف النشط من جانب مجلس الإدارة هما مفتاح التركيز الحقيقي المطلوب.

انظر مثلاً إلى شركة “دير آند كومباني” (Deere and Company) الشهيرة التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، والتي تعمل في صناعة المعدات الزراعية، وهو قطاع يمر بدورة تقلبات عنيفة. ويتمثل أحد أهم أسباب نجاة الشركة من كثير من فترات الركود الكارثية واستمرارها عقداً بعد آخر في رؤسائها التنفيذيين الذين استمروا في مناصبهم لفترة طويلة. فلم يمر عليها سوى 10 رؤساء تنفيذيين فقط طوال تاريخها البالغ 183 عاماً. وكان صمويل ألين، الرئيس التنفيذي لشركة “دير” خلال الفترة من 2009 إلى 2019، يعمل مع الشركة طوال حياته المهنية التي امتدت 45 عاماً. وكانت شركة “دير” قد شهدت خلال الفترة التي قضاها في القيادة أسوأ دورة انكماش خلال نصف قرن من الزمان. فقد انخفضت أسعار المحاصيل الزراعية الرئيسية في الفترة من عام 2014 إلى عام 2016، وتراجع دخل المزارعين في الولايات المتحدة، ما اضطرهم إلى تأجيل شراء معدات جديدة. وأبدى خبراء تحليل أداء القطاع شكوكهم بشأن فرص نجاح شركة “دير” في ظل تراجع المبيعات. لكن ألين ظل وفياً لاستراتيجية الشركة التي تركّز على النتائج بعيدة المدى من منطلق ريادتها في مجال الزراعة الدقيقة، التي تمزج بين استخدام المعدات والتكنولوجيا الزراعية لمساعدة المزارعين على زيادة غلة المحاصيل وزيادة الربحية بطريقة فاعلة وصديقة للبيئة، وهو هدف أرساه أسلافه في التسعينيات. فقد أبدى تمسكه بالمنهج الصارم لترشيد التكلفة من أجل إدارة الضغوط المالية الفورية، لكنه واصل في الوقت نفسه تنفيذ عمليات الاستحواذ والاستثمار في عمليات البحث والتطوير بنحو 4% إلى 6% من المبيعات السنوية لبناء القدرات الرقمية، حتى في أصعب السنوات.

وفي حين اتبعت شركة “دير” هذه الاستراتيجية، أتاحت لها عراقتها مجموعة من المزايا، ممثَّلةً في قاعدة المستخدمين الهائلة وسمعتها الحسنة التي تمتد لأكثر من 100 عام. وتعتبر الزراعة من الأعمال التجارية متعددة الأجيال، لذلك يعرف العملاء أن “دير” هي الشركة التي تقف وراء صناعة المحراث الفولاذي الذي حوَّل الغرب الأوسط في الولايات المتحدة إلى واحدة من أهم المناطق الزراعية. وقد استثمرت شركة “دير” في تعزيز هذا الإرث من الابتكار لتحديث عرض القيمة الذي تقدمه. ومن خلال تجهيز منتجاتها بتكنولوجيا الأتمتة والتحكم عن بُعد والرؤية الحاسوبية ونظام تحديد المواقع العالمي وأجهزة الاستشعار، ساعدت المزارعين على زيادة الإنتاج وخفض التكاليف ورفع مستوى الكفاءة وزيادة ربحيتهم ونموهم. وبدأت شركة “دير” مطلع عام 2010 التركيز على التكنولوجيا الرقمية الثورية، مثل الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة التي تتخذ القرارات الزراعية على مستوى كل نبتة بصورة فورية. على سبيل المثال، استحوذت شركة “دير” مؤخراً على شركة “بلو ريفر تكنولوجي” (Blue River Technology) ومقرها كاليفورنيا، وذلك لدمج الرؤية الحاسوبية وتعلم الآلة بغرض تمكين المزارعين من رش المبيدات على الحشائش الضارة فقط.

ولكن تسويق التقنيات التكنولوجية الجديدة للمزارعين ليس بالأمر السهل. فالمزارع معروف بتحفظه وحبه للاقتصاد في النفقة. وعلى الرغم من ذلك، فقد ثابرت شركة “دير”، مستغلة معرفتها العميقة بالعملاء لاستهداف المزارع الرائدة وتشجيعها على استخدام التكنولوجيا المبتكرة في البداية وإثبات مزايا هذه التكنولوجيا في مساعدتها على العمل بكفاءة أكبر، ومن ثم تسويق هذه التقنيات لبقية المزارع. لكن شركة “دير” سعت إلى القيام بأكثر من مجرد تحسين المدخلات وزيادة إنتاجية المزارعين. إذ ينصبُّ دافعها الأكبر على الواقع العالمي: فنظراً لأنه من المتوقع أن يرتفع عدد سكان العالم إلى 9.7 مليار نسمة بحلول عام 2050، فيجب أن تتضاعف غلة المحاصيل الزراعية لإنتاج ما يكفي من الغذاء لتلبية الطلب المتزايد مع ثبات مساحة الأراضي الصالحة للزراعة المستخدمة اليوم. ومن هنا كانت الزراعة الدقيقة ليست مجرد استراتيجية إنتاجية، ولكنها طريقة لتأمين الغذاء لجيل المستقبل.

الاستفادة من العلاقات الوثيقة مع العملاء للتوسع في القطاعات المتجاورة

لاحظنا أن الثقة المتبادلة هي أحد أهم العوامل المؤثرة في إعادة صياغة ميدان المنافسة. وبإمكان الشركات التي تعتمد أسلوب “العراقة الاستراتيجية” استغلال علاقاتها المتينة لإجراء محادثات معمّقة مع أصحاب المصلحة حول كيفية تطور احتياجاتهم والمشكلات الحساسة التي يجب معالجتها في المستقبل والمصالح المشتركة بينهم وبين الشركة.

ومن أبرز الشركات التي استغلت هذه الميزة شركة “أيه بي مولر-ميرسك” (A.P. Møller-Maersk). حيث تتزين سفن الشحن في كافة أنحاء العالم بشعار الشركة التي يرجع تاريخها إلى 117 عاماً. (وقد جذب حادث اختطاف ميرسك ألاباما اهتمام العالم عندما استولى قراصنة صوماليون على السفينة عام 2009، وهو الحدث الذي أصبح موضوعاً لفيلم من بطولة توم هانكس). وعندما تولى سورين سكو منصب الرئيس التنفيذي للشركة عام 2016، تم تكليفه بتولي الإشراف على أحد أكبر التحوّلات في قطاع الأعمال بأوروبا. فقد عمل على تخلي شركة “ميرسك” عن أعمال النفط والطاقة من أجل التركيز على قطاعين أساسيين، الشحن البحري والخدمات اللوجستية البرية.

عرف العملاق الدنماركي أن عليه حماية تفوقه في مجال الشحن الذي يمثل قلب الشركة وروحها. فقد كانت شركة “ميرسك” تحتل مكانة رائدة في مجال شحن الحاويات الضخمة في السبعينيات، ونجحت مراراً وتكراراً في تسجيل الأرقام القياسية العالمية وتحطيمها بتشغيل سفن حاويات أكبر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من ذلك، فقد ابتلي قطاع الشحن البحري بظاهرة التسليع والتقلبات الاقتصادية والاندماج وانخفاض هوامش الربح، بالإضافة إلى أطول فترة ركود خلال 6 عقود (من 2008 إلى 2016). وكانت استراتيجية سكو في ظل هذه الأحداث تقوم على خلق قيمة مضافة للعملاء من خلال ربط سلاسل التوريد العالمية وتبسيطها، بدلاً من الاكتفاء بنقل الحاويات من ميناء إلى آخر. كانت الفرصة هائلة لأن شركة “ميرسك” كانت تهيمن على خُمس الشحنات المنقولة بحراً، ولكنها كانت تبيع منتجات الخدمات اللوجستية البرية لأقل من 20% من عملائها في مجال الشحن البحري.

لكن القدرات التقليدية للشركة في مجال الشحن لم تكن تكفي وحدها لتقديم عروض قيمة جديدة. لذا لجأت شركة “ميرسك” إلى تعيين مواهب جديدة، وأعادت هيكلة ذراع الخدمات اللوجستية، واستثمرت في عمليات الاندماج والاستحواذ لبناء قدراتها في هذا المجال. ونجحت الشركة في إحداث تحول كبير من أسلوب العمل القائم على العرض (بمعنى تقديم منتجات جاهزة إلى العملاء) إلى أسلوب عمل يقوم على الطلب، ما أتاح لها تقديم عروض تلبي احتياجات العملاء وتعالج المشكلات المستعصية. يقول فنسنت كليرك، رئيس قطاع الأعمال البحرية والخدمات اللوجستية بشركة “ميرسك”: “نحرص على تطبيق نموذج الحلول الذي يضع حاجة العميل في صميم عروضنا. حيث نزيل المتاعب ونجمع بين المنتجات المختلفة المتعلقة بالأعمال البحرية والبرية، ونعمل على نجاحها، ونتحمل مسؤولية النتائج المتحققة”. لكن ما الذي يمنح “ميرسك” القدرة على الفوز؟ يكمن جزء من ميزتها في ملكية الأصول التي تُترجم إلى سيطرة على النتائج التي تعد بها العملاء وقدرتها على تنسيق الظهور الشامل من خلال مجموعة واسعة من البيانات، مثل ظهور المعلومات عن الشحنات الواردة والصادرة في الوقت الحقيقي وتتبع الشحنات والمعوقات وتأثير الطقس على مسارات الشحن ومواعيد التسليم.

كانت التكنولوجيا عنصراً أساسياً في تحقيق هذا التحوّل. فقد بدأت الشركة في الاستعانة بالابتكارات الرقمية التي سمحت للعملاء بزيارة موقع الشركة (Maersk.com) للتعرّف على الأسعار وإجراء الحجوزات واستيفاء المستندات ودفع الرسوم المقررة.

وغالباً ما تنظر الشركات القائمة بعين الحسد إلى المنافسين الجدد الذين يمتلكون المرونة ولا يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعامل مع عبء الأنظمة القديمة. لكن ذلك يعميها عن إدراك ميزتها الأساسية. غير أن شركة “ميرسك” لم تسلك هذا المسلك. فقد رأت أن تاريخها الطويل في أعمال الشحن وعلاقاتها الوطيدة مع آلاف العملاء يمنحانها ميزة تنافسية هائلة تمكنها من التوسع في مجال النقل البري، واستطاعت خلال فترة قصيرة لا تتجاوز 4 سنوات إعادة صياغة عرض القيمة المقدم لعملائها والانتقال إلى سوق جديدة.

غالباً ما تنظر الشركات القائمة بعين الحسد إلى المنافسين الجدد الذين يمتلكون المرونة ولا يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعامل مع عبء الأنظمة القديمة. لكن ذلك يعميها عن إدراك ميزتها الأساسية.

فلماذا يتخذ الكثير من الشركات موقفاً دفاعياً؟

وما الذي يوقع الشركات والقادة في مستنقع اتخاذ موقف سلبي يحرمهم من الاستفادة من مزايا “العراقة الاستراتيجية”؟ لقد لاحظنا 5 متلازمات تعرقل الجهود المبذولة لاتخاذ موقف أكثر إيجابية:

رفض كبار القادة معالجة أسباب القصور الذاتي (وغالباً ما ينكرونه إنكاراً تاماً)، ويرجع ذلك في الأساس إلى أن معالجة أسباب القصور الذاتي تستلزم تفكيك البنى التنظيمية التي أقاموها بدقة متناهية. على سبيل المثال: كانت إحدى شركات المنتجات الاستهلاكية العالمية التي عملنا معها تعاني بطء النمو في الاقتصاديات الناشئة، لأنها كانت تعتمد كلياً على مرافقها الصناعية عالية التكلفة، التي لا يمكنها تقديم المنتجات بأسعار مقبولة في هذه الأسواق. وبدلاً من التركيز على التصنيع المشترك والتعبئة والتغليف المشترك مع شركاء محليين، راح قادة الشركة يدافعون عن التكلفة الغارقة في منشآتها وجادلوا بأن الشراكات المحلية ستتسبب في ضعف جودة المُنتَج.

ترسخ عقلية “التشاحن” عندما تعمل الإدارة العليا على إخراج الأفراد من مناطق راحتهم. وإذا مارس القادة ضغوطهم أكثر من اللازم، فقد يتسببون في تثبيط همم مرؤوسيهم.

عندما تبدأ جهود التغيير، فإنها غالباً ما تفقد الزخم فجأة. لذا يجب على القادة تقييم هذه الجهود في منتصف الطريق، كما يفعل المدربون في الفاصل بين شوطي المباراة، ويسألون: هل نحن في سبيلنا إلى الفوز أم الخسارة؟ وإذا رأت المؤسسة أنها قد باتت متخلفة عن الركب، فهذا يعني أن عليها تغيير أساليبها أو تغيير سرعتها أو تغيير الجهات الفاعلة.

توجيه الشركات أكبر قدر من الاهتمام إلى “التطوير” في عمليات البحث والتطوير، أي التحسين المتزايد للمنتج. في المقابل، تحرص الشركات التي تعتمد أسلوب “العراقة الاستراتيجية” على الاستثمار بشكل كبير في مختلف عروض القيمة أو نماذج العمل، أي المشاريع التي تتطلب استثمارات بحثية أكثر جوهرية. وقد يكون تأمين التمويل اللازم لمثل هذه الأفكار بعيدة المدى أمراً عسيراً لصعوبة إثبات نتائجها من خلال دراسات الجدوى ولأن المخاطر المرتبطة بها أعلى بكثير. وغالباً ما يؤدي تجنب المخاطر إلى الانتظار والترقب أو توزيع ميزانية البحث والتطوير على الكثير من المشاريع، ما يتسبب في انعدام جدواها.

حتى عندما توجّه الشركات طاقاتها ومواردها لجهود إعادة الابتكار الجريئة، فإن أغلبيتها الكاسحة تفصل نتائج هذه الجهود عن أعمالها الأساسية. إذ تحرص على إنشاء وحدات جديدة مخصصة لمواجهة الزعزعة في مكان بعيد وذات هيكل مرن وتحت رئاسة قائد جديد، ثم تزودها بمواهب جديدة وتمنحها مقاييس أداء مختلفة (مثل عدد الأفكار الجديدة المنفِّذة أو المفاهيم الجديدة المثبتة أو الشراكات التي تم تشكيلها مع الشركات الناشئة). وتدعي الشركات أن السبب في هذا الفصل هو حماية المشاريع الوليدة من الانهيار إذا تم التعامل معها بالعقليات ونماذج العمل وعمليات التشغيل الحالية. لكن هذا النهج يسلّط الضوء بقوة على مدى تمسك الشركات بأساليب العمل القديمة. وتتضح عيوب الفصل دائماً عندما تحاول الشركات توسيع نطاق ابتكاراتها من خلال دمج الوحدة الجديدة في الأعمال الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، فإن أغلبية الشركات التي تعتمد أسلوب “العراقة الاستراتيجية” التي درسناها تتجنب تحويل محفزات التغيير وجهود الابتكار إلى بيئة عمل خاصة بعيدة عن مركز الشركة وتحرص على إبقائها متكاملة مع أعمالها الأساسية.

تستطيع الشركات المتصلة بعملائها التوصل إلى رؤى ثاقبة تساعدها على الإسهام في تشكيل مستقبل قطاعاتها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ستستطيع هذه الشركات التغلب على القصور الذاتي، بحيث تتمكن من التحرك في الوقت المناسب؟ يعتبر دور القائد حاسماً هنا في تشجيع المؤسسة على التخلي عن مواقفها السلبية واتخاذ موقف إيجابي. إذ يجب على القادة طرح الأسئلة والبحث باستمرار خارج قطاعاتها بغية التعرّف على نماذج النمو الناجحة ومتابعة المسارات الجديدة بجدية وعزيمة لا تلين. ويجب أن يتحملوا مسؤولية استغلال الإمكانات القديمة، وليس فقط ابتكار أفكار جديدة، وصولاً إلى تحقيق التطابق الاستراتيجي بين الاثنين في النهاية.

وعلى الرغم من الروح السائدة بأن الزعزعة هي مصيرها الحتمي، فإن كبرى الشركات العريقة ليست مضطرة إلى الانزواء بعيداً عن الأضواء والانهيار في صمت. وعليها أن تتعلم بدلاً من ذلك كيفية الاستفادة من نقاط قوتها المتأصلة فيها والتصرف مثل الشركات التي تعتمد أسلوب “العراقة الاستراتيجية”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .