ما الذي يتغير من حولنا في سوق العمل والمهارات؟ وكيف سيبدو شكل الشركات والمدن والدول، مع هذا المشهد الذي بات واقعاً نعيشه بشكل متسارع؟
أصبحت القاعدة العامة عند قرار التوظيف في الشركات هي: هل نحتاج فعلاً هذا الموظف في مقر الشركة أو المؤسسة فعلاً، ولماذا؟ هل نحن بحاجة لهذا الموظف من البلد الذي تعمل فيه الشركة، أم يمكننا التعاقد مع صاحب مهارات ربما بكفاءة أفضل وبتكلفة أقل للعمل عن بعد من بلد عربي أو من الهند أو بلد آخر؟ هل نحتاج إلى هذا الموظف بدوام كامل أم بدوام جزئي؟ هل نحن بحاجة إلى هذا الموظف للعمل بعقد ثابت أم للعمل على مشروع واحد فقط، أي التعاقد معه كمستقل عبر المنصات المعروفة مثل "أب وورك" و"مستقل" وغيرها؟
وعلى صعيد المهارات والقوى العاملة، بات السؤال أيضاً يطرح بشكل معاكس؛ هل أنا بحاجة إلى قبول عمل بدوام كامل أم بعمل جزئي يتيح لي العمل على مشاريعي الجانبية الريادية؟ هل الأفضل لي كصاحب مهارة أن أعمل بدوام كامل أو جزئي أم اكتفي بالتعاقد الحر المستقل بناء على المشروع، وهو ما يضمن لي قيمة أكبر عند التعاقد ويتيح لي حرية التحكم بوقتي وبرنامجي اليومي؟
ما نتحدث عنه عبر هذه الأسئلة ربما سمعتم عنه من قبل، لكنه اليوم يتسارع بشكل لا يخطر على البال. فقد باتت الشركات العالمية وشركات عربية تنفذ ذلك بسرعة مذهلة، لدرجة أن كثيراً من الشركات صارت تنفذها بحماس وكأنها تعوض عن شعورها بالذنب من الأخطاء التي كانت ترتكبها قبل أزمة كورونا. فقد باتت الشركات تتساءل حرفياً: كيف يمكن أن أوظف لهذا العمل شخصاً في مقر الشركة، بينما كان بإمكاني التعاقد مع شخص ذي مهارة ربما مماثلة أو أفضل بتكلفة أقل من مصر أو لبنان أو الهند للعمل عن بعد؟ وتساؤلات أخرى من قبيل: لماذا كنت بحاجة إلى استئجار مكتب الشركة بهذا الحجم الكبير وفي هذه المنطقة مرتفعة الأسعار؟ ما الحاجة إلى مكتب أصلاً سوى عقد بعض الاجتماعات الضرورية، ما دام معظم العمل ومعظم الموظفين يمكنهم العمل والإنجاز من المنزل؟ وهكذا تسمعون وترون اليوم كيف تسارع عشرات الشركات في العالم والمنطقة إلى خفض كوادرها للنصف ربما -وليس ذلك بسبب الأزمة فقط بالمناسبة- بل هو قرار استراتيجي جديد جاء بعد صحوة هذه التساؤلات المذكورة آنفاً. لذا، فإنكم ترون اليوم تقليص عدد العمالة وتقليص عدد المكاتب، بل إن كثيراً من الشركات باتت تتساءل بجدية عما إذا كانت بحاجة فعلاً إلى مكاتب.
ستترك هذه التغييرات آثارها الواضحة على شكل الشركات والمدن بشكل واضح، وسنبدأ نشعر بذلك بدءاً من هذا العام، فستتقلص المكاتب وستنسحب من أوساط المدن الكبرى نحو الأطراف والمدن الأقل مركزية، وسيتجه كثير من الموظفين إلى العمل من بلدانهم الأصلية ومدنهم وقراهم وحيث يشعرون بالراحة. وهنا، فإن على منظمي التشريعات الانتباه إلى أن هذه الحركة هي بمثابة تطور تاريخي سيحصل مهما كنا نشعر بالغرابة تجاهه، والأدوات التي يمتلكها المشرّعون القانونيون لتنظيم قطاع الأعمال اليوم، لن تصلح لهذا الواقع الجديد، بل عليهم ابتكار محفزات جديدة تناسب هذا التطور لجذب الشركات والاستثمارات والمهارات إلى داخل البلد.
أدى تطور وسائل التواصل والاتصال في البداية إلى خلق عولمة الشركات وجعل ممارسة النشاط التجاري أسهل عبر الحدود، واليوم مع تطور الإنترنت وتقنياتها المتسارعة حصل عمل الشركات عبر الحدود على دفعة قوية، وظهر مفهوم "الموظفين بلا حدود" كحقيقة واقعة.