فيما يتعلق بفهم وتيرة التطور الرقمي العالمي، لا يخبرنا النمو الرقمي للبلدان المتقدّمة الكثير عن المستقبل الرقمي للبدان النامية. يؤثر هذا الأمر كثيراً على الأعمال وروّاد الأعمال والمبتكرين الذين يسعون للنموّ خارج أسواقهم، فلا يوجد تطبيق أو نهج يناسب الجميع للتوسّع في الاقتصاد الرقمي العالمي. ولكن إذا أراد بلد ما أن يُصبح جذاباً للمستثمرين الجدد، ويعرف كيف تواكب الدول الرقمنة والتطور، عليه أن يتعلّم المزيد من نظرائه الأكثر اتصالاً بالإنترنت، وأن يحاول اللحاق بركب هذه الدول.
منذ أن نُشر بحثنا، (الذي أجريناه بدعم من "ماستركارد" MasterCard) حول "مؤشر التطور الرقمي" (Digital Evolution Index)، تحدثنا مع عدد من رواد الأعمال والمدراء التنفيذيين وصنّاع السياسات المهتمين بتسريع التطور الرقمي في بلدانهم. يتطلب تعزيز المكانة الرقمية لبلد ما وضع مجموعة من الأمور في الاعتبار، مثل إتاحة إنترنت النطاق العريض، وانتشار شبكة الهاتف المحمول وجودتها، والحريات وإمكانية الوصول إلى الإنترنت، وإمكانية الوصول إلى الخدمات المالية والحصول على بطاقات الائتمان وامتلاك قدرات الدفع الإلكتروني.
لذلك، ننصح خلال النقاشات باتّباع نهج قائم على المقارنة المعيارية (benchmarking): اختر دولة لتكون معياراً، عادة ما تكون دولة جارة أو دولة يُنظر إليها على أنها نموذج يُحتذى، أو حتى يُنظر إليها كمنافس، واطرح السؤال التالي: ما الذي ينبغي لنا فعله حالياً لكي نلحق بركب الدولة المقياس؟ ثم اطرح السؤال التالي: ما هي الدعامات الأساسية الموجودة لدينا، والتي تساعدنا على سد الفجوة الرقمية، وكيف نقارن هذه الدعامات من ناحية تأثيرها؟ تُساعد هذه الأسئلة في تحديد الموارد التي ينبغي وضعها ضمن الأولويات وتُسهّل التنسيق بين العاملين في القطاعات العامة والخاصة والاجتماعية، وهو ما نأمل أن يؤدي إلى تحسينات حقيقية.
دراسة حالة تشرح كيف تواكب الدول الرقمنة في الآسيان
تُعدّ منطقة رابطة دول جنوب شرق آسيا - الآسيان (ASEAN) مثالاً على كيفية عمل المقارنة المعيارية. فقد وجدنا في "مؤشر التطور الرقمي" أنّ الدول الستة الأبرز من دول الآسيان هي من بين أسرع الدول التي تتقدم رقمياً (أنظر الرسم البياني أدناه). أما استخدام مثال الآسيان في هذا التحليل فيعود إلى خطط المنطقة لتأسيس مجتمع اقتصادي مشترك بحلول عام 2025 والتي تنصّ على إنجازات رئيسة ينبغي تحقيقها بحلول نهاية عام 2016.
اقرأ أيضاً: ما هو مفتاح النجاح في عصر الأتمتة؟
يُتوقعّ أن يتضاعف عدد الأسر المستهلكة (تلك التي يفوق دخلها السنوي 7500 دولار أميركي من تعادل القدرة الشرائية (PPP)) في المنطقة إلى 125 مليون أسرة بحلول عام 2025، بحسب تقرير نشرته "ماكنزي" (McKinsey) عام 2014، إضافة إلى أنّ الاقتصاد الرقمي لهذه الدول يسلك مساراً واعداً كنتيجة طبيعية لصعود الطبقة الوسطى. ويُتوقع أن تؤدي الزيادة في اشتراكات إنترنت النطاق العريض في المنطقة، مدفوعةً بسهولة الاتصال بواسطة الهاتف المحمول عالمياً، إلى زيادة انتشار الإنترنت من 32% (199 مليون مستخدم) في عام 2014 إلى 48% (294 مليون مستخدم) عام 2017.
تحتلّ سنغافورة، إحدى دول الآسيان، المرتبة الأولى في مستوى التقدّم الرقمي، ويعود ذلك جزئياً إلى البنية التحتية الرقمية ذات المستوى العالمي في البلاد. وتضمّ هذه الدولة الصغيرة مستهلكين محليين متطورين تتوفّر لهم إمكانية الوصول إلى خدمات الإنترنت بسهولة، وكذلك استخدام وسائل الدفع الإلكتروني، مثل البطاقات المصرفية. وفي هذا الإطار، من الشائع أن يتّخذ المدراء التنفيذيون وصنّاع السياسات في الدول الخمس الأخرى - ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وفيتنام وتايلاند - سنغافورة معياراً ليقيّموا دولهم مقارنة بها. إذا أراد صنّاع السياسات والمبتكرون في منطقة الآسيان مواكبة التطور الرقمي وسدّ الفجوة بين بلدانهم وسنغافورة، هل يستطيعون ذلك؟
دعونا أولاً نستعرض بعض التحديات؛ على الرغم من التوجهات الإيجابية في المنطقة، لا يزال عدد كبير من سكانها يعانون من صعوبة في الوصول إلى الخدمات المصرفية وخدمات الإنترنت، فقد سُجّل، عام 2015، أن ثلاثة أخماس السكان يعيشون بأقل من 4 دولارات يومياً (تعادل القدرة الشرائية)، وفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن العدد المطلق للذين يعيشون بأقل من 4 دولارات يومياً (تعادل القدرة الشرائية) قد انخفضت نسبته من 80% في العقد الماضي، مع انخفاض ملحوظ في العدد المطلق للذين يعيشون بأقل من دولارين يومياً (تعادل القدرة الشرائية)، فإنّ ثمة الكثير من الأمور التي لم تُحقّق بعد بسبب معدلات الزيادة في الإدماج المالي والإدماج الرقمي.
توجد فجوة كبيرة بين سنغافورة وبقية دول الآسيان فيما يتعلق بالتطور الرقمي؛ فالمواطنون السنغافوريون يمتلكون في المتوسط 3.8 بطاقات دفع و 1.6 اشتراك في الإنترنت عبر الهاتف المحمول، وهذان المعدلان يفوق كلاهما المتوسط في دول الآسيان الثلاثة التالية مجتمعة. إضافة إلى ذلك، توجد فجوة واضحة فيما يخص التجارة الإلكترونية (أي عدد المستخدمين الذين لا يتسوقون عبر الإنترنت) بين سنغافورة ودول الآسيان الخمسة التالية، فيوجد في هذه الدول عدد كبير من مستخدمي الإنترنت إلّا أنّهم لا يستخدمون هذه التكنولوجيا للتسوق أو القيام بالأعمال التجارية.
في هذا السياق،لفهم كيف تواكب الدول الرقمنة والتطور، طرحنا ثلاثة أسئلة بحثية ركّزت على أفضل خمس دول في رابطة الآسيان إلى جانب سنغافورة - ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وتايلاند وفيتنام - واستخدمنا سنغافورة معياراً رقمياً:
- كم من الوقت يستغرق البلد "X" بحسب مساره الحالي وسرعته للوصول إلى التطور الرقمي الذي بلغته سنغافورة؟
- بالنظر إلى مجموعتي الدعامات الرئيسيتين اللتين يمكن للمدراء التنفيذيين والمبتكرين الرقميين استخدامهما (زيادة إمكانية الوصول إلى الإنترنت وتعزيز القدرة على إجراء المعاملات المالية الإلكترونية)، أيّ منهما يُعتبر فعالاً أكثر في سد الفجوة؟
- إذا كان ينبغي تحديد إطار زمني كهدف لمواكبة سنغافورة رقمياً، ما هو التغيير الذي يجب أن يحدث؟
اخترنا 9 مؤشرات من أصل 83 مؤشراً مستخدماً في "مؤشر التطور الرقمي" يمكنها المساعدة في تعزيز مجموعتي الدعامات الرئيسيتين، ليمكن لمجمل المجموعتين أن توفرا لنا قياساً لمسار "الإدماج الرقمي". إليكم كيف يبدو الأمر:
ما هي قدرة الدول على توفير الاتصال بالإنترنت؟ هل يستطيع الناس الوصول إلى الإنترنت؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال تحديد نسبة السكان الذين يستخدمون الإنترنت باستخدام الكمبيوتر، واشتراكات إنترنت النطاق العريض السلكية، والذين يستخدمون شبكات المحمول واشتراكات الهاتف الخلوي والإنترنت.
ما هي القدرة على إجراء المعاملات التجارية عبر الإنترنت؟ هل يمكن للسكان الوصول إلى الشبكات المالية التي تتيح إجراء المعاملات غير النقدية؟ ما هي نسبة السكان الذين يمتلكون حساباً في المؤسسات المالية، وما هي نسبة السكان الذين يمتلكون بطاقات دفع أو بطاقات ائتمان أو بطاقات سحب؟
نظراً إلى المسار الحالي والسرعة الحالية، تحتاج إندونيسيا نحو 13 عاماً، والفلبين إلى 12 عاماً، وفيتنام إلى 10 أعوام، وتايلاند إلى 9 أعوام، وماليزيا إلى 8 أعوام، للوصول إلى مستويات التطور الرقمي في سنغافورة. وبحسب أهداف عام 2025 المنقحة الموضوعة للمنطقة، يشير التحليل الذي أجريناه إلى أنّ تحقيق أهداف التطور الرقمي هذه يشكّل تحدياً كبيراً.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أتمتة وظيفة أحد أعضاء مجلس الإدارة؟
أردنا بعد ذلك أن نفهم ما إذا كانت إتاحة الوصول إلى الإنترنت أو توفير القدرات المالية الإلكترونية يؤثران تفاضلياً على مقياس "اللحاق بسنغافورة"، فوجدنا أنّ إتاحة الوصول إلى الإنترنت لعدد معين من الأشخاص أفضل من تمكين العدد نفسه من إجراء المعاملات المالية. على سبيل المثال، إذا أردنا في حالة الفلبين توفير إمكانية الوصول إلى الإنترنت لـ 25 مليون مستخدم إضافي، ستحتاج البلاد إلى 9 سنوات للوصول إلى مستوى التطور الرقمي الحالي في سنغافورة. وإذا مكّنّا العدد نفسه من المستخدمين البالغ عددهم 25 مليوناً من إجراء المعاملات المالية، من خلال تطبيق الإطار التحليلي للإدماج الرقمي المذكور أعلاه، ستحتاج الفلبين إلى 11 عاماً للوصول إلى مستوى سنغافورة.
ماذا يحدث إذا قسمنا الفارق؟ ما الذي ينبغي لأي بلد أن يفعله من أجل الوصول إلى مستوى الدولة المعيار، سنغافورة في هذه الحالة، في غضون 10 سنوات؟ حللنا البيانات واختبرنا هذه الفكرة في عدد من النقاشات مع عدد من المدراء التنفيذيين وصنّاع السياسات في الفلبين من أربعة قطاعات مختلفة: الاتصالات، وتجارة التجزئة، والخدمات اللوجستية، والخدمات المالية. يوضح الرسم البياني أدناه مجموعة من العوامل التي يمكن أن تكون ضرورية لكي تصل الفلبين إلى مستوى التطور الرقمي في سنغافورة في غضون 10 سنوات.
توفر تجربتنا مع منطقة الآسيان رؤى يمكن لأي دولة تريد مواكبة التطور الرقمي أن تعتمدها:
يشتمل الإدماج الرقمي على عنصرين رئيسين: عوامل الوصول إلى الإنترنت، وعوامل القدرة على إجراء المعاملات المالية الإلكترونية. يُعدّ تحسين عوامل الوصول إلى الإنترنت (مثل إنترنت النطاق العريض الثابت والإنترنت عبر الهاتف المحمول) أو عوامل القدرة على إجراء المعاملات الإلكترونية (مثل بطاقات الدفع) وسيلة قوية لتعزيز الفرص الاقتصادية والتطور الرقمي.
وفي حين يؤثّر تحسين عوامل الوصول إلى الإنترنت على التطور الرقمي أكثر من تحسين عوامل القدرة على إجراء المعاملات المالية الإلكترونية، ينبغي من الناحية المثالية التأسيس لهاتين الدعامتين ونشرهما مجتمعتين.
من أجل إحراز تقدم على المستوى الوطني، ومعرفة كيف تواكب الدول الرقمنة والتطور، ينبغي لصنّاع السياسات وقادة الأعمال أن ينسقوا فيما بينهم لوضع هدف يعتمد بلداً ما معياراً مناسباً لبلدهم بطريقة أو بأخرى - مثل هدف "اللحاق بسنغافورة" - وأن يفكروا بشكل عكسي لتحديد مقدار التغيير المطلوب في العوامل الفردية وتحديد اللاعبين الاقتصاديين (الحكومة/صناع السياسات، شركات الاتصالات، شركات الخدمات المالية، وغيرها) الذين ينبغي لهم اتخاذ الإجراءات المناسبة، وذلك قبل وضع أهداف أو التزامات فردية وفقًا لذلك.
اقرأ أيضاً: هل تؤثر الأتمتة على العمال ذوي المهارات العالية أم ذوي المهارات المنخفضة؟