تعاونت مع اثنين من المقاولين الذين لعبوا أدواراً رئيسة في مجال خدمات العملاء في شركتي عندما كانت ناشئة. ومع تطور الشركة وتحديد قيمها الجوهرية – اختيار المساءلة لتكون أولوية قصوى - أصبح من الجلي أن هؤلاء المقاولين لم يرتقوا إلى معاييرنا الجديدة. فقد كان من الصعب الاتصال بهم، ولا يلتزمون بالمواعيد النهائية، وفهمنا أن أسلوبهم في العمل يميل إلى الشكل الفردي أكثر من ميله إلى العمل بأسلوب الفريق.
صبرت على سلكوهم هذا نظراً لأدائهم القوي وإعجاب العملاء بالتعامل معهم. لكنني أدركت أنني سمحت لهذا الوضع بالاستمرار أكثر من اللازم عندما أشار بقية الأعضاء إلى المعايير المزدوجة المتعلقة بالتوقعات المستقبلية، مما تسبب في وضع المدراء في موقف لا جدوى منه. فقررنا في نهاية المطاف قطع علاقاتنا مع المقاولين، لا بسبب تراجع أدائهم بل لأن معاييرهم لا تتماشى مع قيمنا المأمولة.
عندما تتطور الشركات بوتيرة سريعة، يعجز الناس في كثير من الأحيان عن مواكبة ذلك التطور. حيث تضعف ملاءمة بعض الأفراد لشركتنا مقارنةً بما كانوا عليه في البداية. ولربما كانوا قد واجهوا صعوبات في مواكبة معدل نمو الشركة ومتطلبات أدوارهم المتطورة باستمرار.
وغالباً ما كنت أراهن على مناصب هشة محاولاً إبقاء الموظف على رأس عمله، لأنني لم أدرك مقدار الضرر الذي قد تلحقه الملاءمة الوظيفية الخاطئة، خاصةً في حال كان الشخص قد رافقنا فترة طويلة.
اقرأ أيضا: فوائد التعلم مدى الحياة.
كيف نحدد "الملاءمة" الوظيفية؟
ترفض الشركات يومياً أشخاصاً موهوبين عندما تكون ملاءمتهم الوظيفية غير مناسبة. فوفقاً لتقرير شركة "جوب فايت" الوطني للتوظيف عام 2016 (Jobvite Recruiter Nation Report)، قال 60% من متعهدي التوظيف إن للملاءمة الثقافية أهمية قصوى في قرارات التوظيف. حيث يمكن للملاءمة الخاطئة أن تكون كارثية، ولكن عندما يلائم الموظف مركزه المناسب تماماً، سيعود النفع على الفريق بأكمله.
وتفترض الكثير من محاور النقاش المتعلقة بالملاءمة الوظيفية للشركة أنها مفهوم ثابت: بمعنى أن الأوتاد الأسطوانية ستدخل في ثقوب دائرية، وحال عثورها على المكان الصحيح، ستثبت فيه. لكن لسوء الحظ ليس الأمر بهذه البساطة، فماذا لو تطور ذلك الوتد الأسطواني وصارت لديه زوايا حادة، أو ماذا لو اتسعت تلك الثقوب الدائرية مع مرور الوقت؟
فالأشخاص يتطورون باستمرار وتتطور معهم الاحتياجات التي يلبونها، وخاصة في تلك الشركات الصغيرة التي تنمو بسرعة كبيرة. ولذلك فالملاءمة الجيدة لا تتعلق بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب فحسب، بل بوضعه هناك في الوقت المناسب أيضاً.
وهنا تكون القدرة على إدراك تشتت هذه العوامل الثلاثة إحدى السمات التي تميز القادة الجيدين عن القادة العظماء، لا سيما في حالة الموظف المخلص على المدى الطويل.
كيفية السيطرة على الملاءمة الوظيفية
لستَ مضطراً للجلوس على الهامش ومشاهدة ثقافة شركتك تتطور مبتعدة عن أفضل موظفيك. بل يمكنك الحفاظ على أداء الموظفين العالي دون التضحية بثقافة الشركة من خلال اتباع العمليات الصحيحة في توظيف المواهب وتطويرها.
يمكن أن تساعدك الاستراتيجيات الثلاث التالية على تهيئة بيئة إيجابية وتطوير الموظفين للنجاح في محيطها.
إجراء الاختبارات الشخصية لاكتشاف الغايات: ليس هنالك من اختبار قادر على اكتشاف كل ما يتعلق بالفرد، لكن معرفة دوافعه قد تساعدك في اكتشاف مكانه الملائم في شركتك.
صُمم أحد الاختبارات التي نستخدمها في شركة "أكسليريشن بارتنرز" (Acceleration Partners) لاكتشاف "دافع" الفرد، أي هدفه الأساسي في حياته المهنية. عندما بدأنا في إجراء الاختبارات الشخصية أول مرة، اكتشفنا أن أحد المدراء عيّن فريقاً بأكمله من أشخاص يمتلكون أهدافاً مطابقة لأهدافه. وأدى هذا التحيز غير المقصود في عملية التوظيف إلى تشكيل فريق تتخبط فيه نقاط الضعف والقوة، ويكمن السبب وراء هذا التخبط في الاعتماد على الثقة بدلاً من الاعتماد على نظرة شمولية في مقدرة ذلك الشخص على أداء دور محدد.
ولتجنب هذا الموقف، نتوخى الحذر الآن عندما يدعم زملاؤنا مرشحين حصلوا على درجات متقاربة في اختبارات الشخصية. وعلى الرغم من عدم وجود أنواع صحيحة أو خاطئة بالمطلق، فإن وجود العديد من الأشخاص الذين يتمتعون بشخصيات متشابهة يميل إلى خلق المشاكل والانقياد إلى ما يشبه "عقلية القطيع". ولذلك يعتبر تقسيم أنواع الشخصيات المختلفة وتوزيعها على لجان التوظيف طريقة جيدة في استنباط تقييمات للمرشحين بدقة أكبر، إضافة إلى أنها تحد من تأثير التحيز الشخصي.
إعادة التفكير في تطور الموظفين وإنهاء خدماتهم: نادراً ما تكون خسارة الموظف أمراً إيجابياً، ولكن يمكن لعملية إنهاء الخدمة أن تتسم بالانفتاح والاحترام المتبادل. فبدلاً من الشعور بالإهانة الشخصية عند مغادرة أحد الموظفين، عليك أن تدرك أن أفضل الموظفين ليسوا أفراداً يتمتعون بقدرات فردية خارقة، بل لا يعدوا الأمر أنهم الأشخاص المناسبون في الأمكنة المناسبة وفي الزمان المناسب.
يتكرر هذا الموقف كثيراً في رياضات المحترفين. حيث تتحول هيكلية الفريق، ليصبح اللاعب الذي ظل في الفريق فترة طويلة لا يلائم قالب المنظمة الجديد، أو النظام الذي وضعه المدرب الجديد. وهنا يدرك كل من اللاعب والمدربين التغييرات في الملاءمة، فينتقل اللاعب إلى فريق جديد، وتنتقل المنظمة إلى اتجاه مختلف، ليطغى الود تجاه هذه التغييرات.
ولذلك، بدلاً من التعامل مع مغادرة الموظفين على أنها من المحرمات، نتبنى مفهوماً نطلق عليه الانتقال الواعي. وفيه نشجع الموظفين على مناقشة أهدافهم وخططهم المستقبلية مع مدرائهم بانفتاح، حتى وإن كانت هذه الخطط لا تتماشى مع أدوارهم الحالية أو لا تتضمن بقاءهم في الشركة نفسها. فوفقاً لشركة إدارة المعلومات التعاونية على الإنترنت "آي سي آي إم إس" (iCIMS)، يغادر معظم الموظفين لشعورهم بمحدودية فرص النمو. ولذلك يساعدنا الحث على النقاشات الصادقة على تحديد مجالات الفرص التي كنا سنضيعها، والتخطيط للمستقبل في حال كان الموظف لا ينوي البقاء على المدى الطويل.
استخدام عملية الانتقال الواعي التي وضعناها في التعامل مع المغادرين من شأنه أن ينشر تأثير شركتنا إلى صناعات أخرى. فعندما يرغب موظف قديم في تولي دور جديد لم يكن ضمن شركتنا آنذاك، نساعده على الانتقال إلى شركة مختلفة يمكنها الاستفادة من مهاراته هناك. فلو حاولنا إجباره على الاستمرار معنا، لشعر بالملل وفتور العزيمة. ومن ناحية أخرى، لم يترك ذلك التسهيل في مغادرته انطباعاً إيجابياً لدى الجميع فحسب، بل كان بمثابة تنصيب سفير لثقافتنا في شركة أخرى، كما يعتبر إضافة جيدة لمجموعة من الموظفين السابقين المؤيدين لنا في السوق.
عليك أن تدرك أن الخبرة لا تساوي الملاءمة: وفقاً لمارك ميرفي المؤسس والرئيس التنفيذي لمنظمة "ليدرشيب آي كيو" (Leadership IQ)، فإن 89% من الفشل في عمليات التوظيف الجديدة يُعزى إلى السلوك، بينما 11% فقط يُعزى إلى قلة المهارة. ومن الواضح ضرورة امتلاك جميع المرشحين الحد الأدنى من المهارات الفنية التي تساعدهم على النجاح، ولكن أفضل المرشحين يتمتعون بخبرات متعددة وتتوافق سماتهم الجوهرية بشكل طبيعي مع قيم شركتك.
أما فيما يتعلق بقيمنا الجوهرية "فالامتياز والتطور" هو واحد منها، ولذلك نبحث عن المرشحين الذين يؤمنون بالتطور المستمر والذين يتمتعون بالتزام واضح تجاه التعلم مدى الحياة. وفي حال كان لديهم إدراك للذات وأظهروا حبهم لتعلم أشياء جديدة، فيمكننا تدريبهم بشكل استراتيجي على تفاصيل ذلك العمل.
ترغب العديد من الشركات في توظيف المرشحين القادرين على دخول الشركة وتولي العمل مباشرةً. وهذا من المطالب المفهومة، فسيصل المعيّنون الجدد حاملين المعرفة والخبرة المتعلقة بالمنصب الذي تحتاج تلك الشركات إلى إشغاله بأسرع ما يمكن. ولكن على الرغم من أنهم يبدؤون عادة العمل في مناصبهم بالمهارات اللازمة، فإنهم لا يمتلكون ذلك القدر الكافي من الإمكانات للنمو. ومع نمو الشركة ونمو مطالبها في نهاية المطاف، ستطغى عليهم الحاجة إلى مناصب جديدة. وفي المقابل، ربما ستضطر إلى تدريب المعينين حديثاً رغم جدارتهم، وذلك لقلة خبرتهم، وقد يتملكهم الارتباك في بداية الأمر، ولكنهم يمتلكون القدرة الخام، والرغبة في النمو داخل شركتك، والتأقلم مع الاحتياجات المتغيرة لمنصبهم.
بحسب خبرتي في هذا المجال، يتفوق الأشخاص الذين يجسدون قيمنا الجوهرية على أولئك الذين يتمتعون بخبرات أكبر ويفتقرون إلى القدرة أو التركيبة الخام الصحيحة. بل ولدى المرشحين الذين يتلاءمون مع قيمنا الجوهرية سقف أعلى عندما يتعلق الأمر بالنمو المهني. فعلى الرغم من إمكانية ظهور المرشحين الآخرين بخبرة قوية في صناعاتنا، فإنهم لا يشاركوننا قيمنا بالضرورة.
كما أن إلقاء مسؤولية مقابلات العمل على المدراء الذين يشعرون بالضغط لضرورة شغل المناصب بأسرع وقت، لن يؤدي دائماً إلى نتائج محمودة. فنحن نخلي في منظمتنا مسؤولية المدراء عن التوظيف، وذلك من خلال تشكيل لجنة تشغيل متعددة الوظائف تساعد في تحديد الأفضل للشركة بدلاً من الاعتماد على قسم أو مدير محدد لهذه المهمة.
وبذلك نوكل مهمة التعيين إلى أشخاص لا يمانعون الاعتراض على اقتراحات الآخرين في لجان التوظيف، كما ندرج دائماً شخصاً ليس له أية مصالح في النتائج أياً كانت. فتُركز المقابلات بذلك على المتطلبات المحددة للوظيفة، إضافة إلى التركيز على شخصية المرشح لها. فالتركيز المفرط على واحدة منها فقط قد يؤدي بك إلى تعيين شخص أُعجبت به حقاً ولكنه عاجز عن أداء وظيفته، أو شخص ينجز المهام جيداً ولكنه لا يساهم في ثقافة شركتك أو لا يتطور مع مرور الوقت.
ولذلك فالملاءمة بين الموظف والشركة ليست اختباراً مأخوذاً من قائمة معايير التوظيف مرة واحدة، بل هو علاقة تتطور باستمرار وتتغير لتلبي الاحتياجات في وقت محدد. ولذلك لا تترك ثقافة شركتك وملاءمة موظفيك تحت رحمة المصادفات. بل عليك أن تتبنى التحدي: ابحث عن المرشحين الذين يجسدون قيمك، وتعلم أسلوب الاستغناء حالما تبدأ الملاءمة التي كانت جيدة في وقت ما في خلق المشاكل لشركتك.