تعود جذور مجال الاقتصاد السلوكي إلى أعمال الفيلسوف والاقتصادي آدم سميث (Adam Smith) حينما تطرق له في "نظرية العواطف الأخلاقية" (The Theory of Moral Sentiments)، ويُعدّ الباحث ريتشارد ثالر، أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو والفائز بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2017 عن كتابه "الاقتصاد السلوكي"، من أهم روّاد هذا التخصص إلى جانب كاس سانستين.
يعرّف أستاذ كلية هارفارد للأعمال جون بيشرز (John Beshears) الاقتصاد السلوكي (Behavioral Economics) على أنه فرع اقتصادي حديث يجمع أفكاراً من مجالات علم النفس وعلم الاقتصاد وعملية صنع القرار لفهم كيفية اتخاذ الناس لقراراتهم، ثم العمل على ترشيدها حتى تكون أكثر عقلانية من القرارات التي تعتمد على مجال واحد فقط.
يكتسب علم الاقتصاد السلوكي زخماً عالمياً في القطاعين الخاص والعام، ففي القطاع الخاص تعيّن الشركات التي تحاول أن تكون في طليعة تطبيقات العلوم السلوكية كبار المسؤولين السلوكيين أو العلميين وتُنشيء وحدات العلوم السلوكية داخل، وعلى مستوى السياسات العامة، فقد شهد العقد الماضي نمواً مثيراً للإعجاب في الاهتمام بالعلوم السلوكية انعكس في زيادة عدد الدراسات والتجارب، فضلاً عن تشكيل العديد مما يسمى وجدات العلوم السلوكية (نادج) حول العالم.
قُدنا دراسة علمية شملت عينة من الطلاب في 3 جامعات بالشرق الأوسط هي جامعة حمد بن خليفة (HBKU) في قطر والجامعة الأميركية في بيروت (AUB) والجامعة الأميركية في الكويت (AUK)، وتكفلت وحدات الترغيب أو وحدات الرؤى السلوكية (Nudge Units) في كلّ من قطر (مؤسسة السلوك من أجل التنمية) ولبنان (نادج ليبانون) بتجميع البيانات وتحليلها وفقاً لمنهجية أكاديمية تطبيقية ثم الخروج بنتائج قابلة للتعميم.
اشتملت المواد التعليمية جانباً نظرياً امتد لـ 14 أسبوعاً تلقى فيها الطلبة الفهم الأساسي لعلم الاقتصاد السلوكي، تضمّن مقدمة عن تاريخ الاقتصاد والمفاهيم الأساسية لعلم الاقتصاد الكلاسيكي والنيو-كلاسيكي، والنماذج الاقتصادية التقليدية (المعيارية) لعملية صنع القرار، بالإضافة إلى نماذج سلوكية وصفية تكون أكثر قدرة على التنبؤ بكيفية بناء الأفراد للأحكام والقرارات والاختيارات. يتعرَّف الطلاب خلال هذه المرحلة على أعمال الباحثبن دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي حول نظرية الاحتمالات، إلى جانب نظريات أخرى لاتخاذ القرارات تحت ظروف المجازفة وعدم اليقين؛ بالإضافة إلى إسهامات ريتشارد ثالر، وتغطي مناقشات الفصل نظام التفكير المزدوج بالإضافة إلى عدد من التحيزات السلوكية مثل النفور من الخسارة، والارتساء، والتحيز للمكاسب الآنية، مع استكشاف كيفية تأثيرها في عملية اتخاذ القرار.
الجانب التطبيقي كان قائماً على جلسات "المختبر" العملية، حيث يعمل الطلاب في مجموعات لتصميم تجاربهم الميدانية وتنفيذها وتقييمها. عادةً ما يقسم المدرسون الطلاب إلى ثلاث أو خمس مجموعات وفقاً لحجم الفصل (العدد المثالي من 15 إلى 20 طالباً)؛ مع مدرب أو مرشد واحد من وحدات الرؤى السلوكية لكل مجموعة. يتعلم الطلاب كيفية التواصل مع الشركاء، ووضع خريطة سلوكية للتحدي الأساسي، وتصميم منهجية مناسبة لتقييم الأثر، وتنفيذ التدخل أو التجرية، وجمع البيانات وتحليلها ثم استنباط النتائج.
توجد العديد من الدروس التي يمكن تعلّمها من هذه الدراسة والمواد المواد التعليمية المستخدمة فيها. فيما يلي، نوضح بعضاً من أهم القضايا التي يجب على الجامعات وضعها في الاعتبار عند تكرار دراسة مماثلة:
- البحث عن التعاون بين القطاعات: تتطلب المواد التعليمية القائمة على التصميم (Design-based) وقتاً وموارد تستوجب التعاون والتآزر. عبر الشراكة مع الممارسين، يمكن للجامعات أن تقدم للطلاب التعلُّم التجريبي في سياق واقعي. ووفقاً للعديد من أُطر العمل التحفيزية التي تشرح فوائد التعاون بين الجامعة والقطاع الصناعي والمجتمع، تعزز الجامعات رصيدها المعرفي من خلال الخوض في أفكار ودراسات محدَّثة، والحصول على فرصة لاختبار النظريات عبر الممارسة وتسهيل التميُّز التربوي، وتعريض الطلاب وأعضاء هيئة التدريس للمشكلات العملية وتلقي الدعم لإجراء البحوث التطبيقية، والعمل معاً في نشر الأوراق البحثية.
- تنظيم الأفكار للتجارب مع الشركاء قبل بداية الفصل الدراسي: يؤدي التخطيط السليم والتزام الشركاء دوراً مهماً في تحقيق التعاون الناجح بين الأوساط الأكاديمية والممارسة، ولكن ما هو أكثر أهمية وعادة ما يتم التقليل من شأنه في هذا السياق هو المخاطر. إن السماح للطلاب ببدء تجاربهم من الصفر يمثل خطراً كبيراً، ليس بسبب محدودية الوقت فحسب، فالفصول الدراسية عادة ما تكون مدتها 15 أسبوعاً في حين أن تجارب العالم الحقيقي يمكن أن تستغرق شهوراً إن لم يكن سنوات، بل أيضاً لأن المشاريع البحثية التي تنطوي على تطبيقات على البشر غالباً ما تتطلب المعايرة في بعض الظروف المعينة. للتخفيف من هذا الخطر، يمكن للمدرسين تنظيم التجارب قبل بداية الفصل الدراسي. وهذا يعطي الطلاب القدرة على تصميم تجارب متوسطة الحجم بدلاً من التجارب الصغيرة أو متناهية الصغر. على سبيل المثال، في جامعة حمد بن خليفة في قطر، وجّه المدربون أربعة عشر طالباً بإجراء تجارب في المجالات ذات الصلة بالقضايا الراهنة التي تواجه البلاد، مثل استضافة كأس العالم FIFA 2022™ وتحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية 2030. وشملت هذه المجالات البيئة والتغذية والصحة والامتثال.
- ترك مجال للابتكار: على الرغم من أن الإعداد الأولي للمادة التعليمية أمر ضروري لعملية التخطيط، فمن المهم أن يظل الأساتذة ومدربو الوحدات السلوكية منفتحين على التجارب المبتكرة ويسمحون باستثناءات للقاعدة. في النهاية، يُعدّ البحث عن أفكار وحلول مبتكرة عنصراً حاسماً في التعاون بين الأوساط الأكاديمية والممارسين في أرض الواقع. وفي جامعة حمد بن خليفة في قطر، تمكنت إحدى المجموعات من الحصول على موافقة على القيام بتجربة للبحث في زيادة الامتثال بخصوص الأحذية في المساجد. ساعدت مؤسسة السلوك من أجل التنمية في نهاية المطاف على توسيع نطاق التجربة. في حالة الجامعة الأميركية في الكويت، نشأت التحديات التي عمل الطلاب على معالجتها من ممارسة العصف الذهني، وسعت إلى إنشاء قائمة من التحديات في مجال الاستدامة التي يمكن معالجتها باستخدام الرؤى المعرفية السلوكية.
- إقامة تنسيق مبكر ووثيق مع لجنة أخلاقيات البحوث العلمية (IRB): هناك قائمة من الاعتبارات الأخلاقية المختلفة في تصميم التجارب وتنفيذها والإبلاغ عنها من الاقتصاد السلوكي، والتي تنبع من مشاركة البشر كمواضيع بحثية. لحماية حقوق البشر وصحتهم وسلامتهم، يجب توعية الطلاب بموافقات مجلس لجنة أخلاقيات البحوث العلمية (IRB)، وهي لجنة إدارية مسؤولة عن الموافقة على البحوث التي تشمل البشر. حيث تقوم بمراجعة مشاريع البحوث المقترحة لضمان احترام وحماية صحة وسلامة المشاركين وحقوقهم وخصوصيتهم. يمكن للجنة أخلاقيات البحوث العلمية (IRB) الموافقة على المشاريع ورفضها ومراقبتها والمطالبة بإجراء تعديلات عليها.
- جعل تصميم الاختبار الهدف الأساسي من المادة التعليمية: الاقتصاد السلوكي هو مجال جديد نسبياً، وبالأخص تدريسه بالمنهج التجريبي. يعدّ التعلم من الأخطاء طريقة تفكير مهمة يجب الحفاظ عليها حتى يتمكن المدرسون من الاستمرار في تقديم تجربة عالية الجودة للطلاب في الوقت الذي يتم العمل على تطوير هذه المواد التعليمية. عندما خططت جامعة حمد بن خليفة ومؤسسة السلوك من أجل التنمية في قطر لتدريس هذه المواد التعليمية التجريبية، لم يكن هناك متسع من الوقت لإجراء الاختبارات. قضى المدرسّون الثلث الأول من الفصل الدراسي فقط في تدريس نظريات الاقتصاد السلوكي والسياسة العامة السلوكية، فأجّل أعضاء المؤسسة بدء جلسات التصميم حتى الأسبوع السادس والسابع. سرعان ما أدرك الأساتذة والطلاب أنهم في سباق مع الوقت لبقية الفصل الدراسي من أجل تنفيذ الاختبارات الميدانية. في نفس الوقت، واجه الجيل الأول من الدورة في الجامعة الأميركية في بيروت تحديات مماثلة. ومع ذلك، تم إدخال تحسينات كبيرة على المواد التعليمية عند تكرارها بعد عام لإتاحة المزيد من الوقت لإكمال الاختبارات الميدانية. قسّم المدربون كل محاضرة إلى قسمين: النصف الأول مخصص لتدريس النظرية والنصف الثاني مخصص للتخطيط للتجارب خلال جلسة المختبر العملية. تعني إعادة التصميم هذه أيضاً أن الطلاب يمكنهم تعلم النظريات والبدء في وقت واحد في التفكير في الاختبارات منذ اليوم الأول من التدريس. الفائدة المحققة من تخطيط عملية تجريب كاملة في فصل دراسي هائلة. لذلك من المهم التأكيد للطلاب على أنه سيتم تصنيفهم على مقدار الجهد المبذول في المشاريع بدلاً من النجاح النهائي للتجارب. حتى أحجام التأثير الصغيرة يمكن أن تكون فرصة تعليمية لطلاب الاقتصاد السلوكي ويجب التأكيد على هذه النقطة مقدماً، أي الحاجة إلى الاحتفاء بالتجارب التي لم تثبت فرضياتها، بقدر التجارب ذات النتائج الإيجابية.
كخلاصة، أصبح مجال الاقتصاد السلوكي محورياً لممارسة السياسة العامة وممارسة الأعمال التجارية. من الضروري أن تعرّض الجامعات الطلاب لهذا المجال من الآن فصاعداً، والأهم أن يكون من ذلك من خلال التعلم التجريبي. هذه العملية فعالة لأنها تتطلب من الطلاب مواجهة معتقداتهم وأفكارهم حول اتخاذ القرارات العقلانية، وفحصها واختبارها، وإدماج المفاهيم "الجديدة الأكثر دقة" "في أنظمة معتقدات الشخص.