يندفع الناس غالباً وبقوة لتجنّب التهديدات. فإذا كنت تسير في أحد شوارع المدينة المعتمة والخالية ستتخذ أقصى درجات الحذر من أي شيء غير متوقع تراه أو تسمع صوته وربّما تهرع بسرعة للعودة إلى منطقة مأهولة بالسكان. إذا كنت تعبر الشارع ورأيت حافلة تتوجه نحوك ستقفز للخلف، وإذا كان هناك كلب كبير غير مألوف يهدر في الخارج ستبقى في الداخل ولن تخرج. فماذا عن مواجهة التغيّر المناخي حول العالم؟
اطّلعنا في شهر أكتوبر/تشرين الأول على تهديد خطير آخر. فقد أشار تقرير الأمم المتحدة الأخير عن التغير المناخي إلى أنّه إذا لم تتخذ دول العالم إجراءات صارمة في وقت قريب ستشهد السنوات الخمس والعشرين القادمة عواقب وخيمة. ومع ذلك، لم يعلّق رئيس الولايات المتحدة على التقرير بعد نشره، فيما وعد مرشّح بارز للانتخابات الرئاسية البرازيلية بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ.
كيفية مواجهة التغيّر المناخي حول العالم
إذا كان الناس يندفعون لتجنّب التهديدات الوجودية، لماذا يصعب حثّهم على التحرّك في مواجهة التغير المناخي؟
لسوء الحظ، ينطوي التغيّر المناخي على مجموعة عوامل تجعل من الصعب تحفيز الناس.
أولاً، تمثل مواجهة تغيّر المناخ مقايضة بين المنافع قصيرة الأجل والمنافع طويلة الأجل
وهي أصعب مقايضة يمكن أن يقوم بها الناس. تشير عقود من العمل على المفاضلة الزمنية إلى أنّنا نبالغ في تقدير المنافع على المدى القصير مقارنة بالمنافع على المدى الطويل. على سبيل المثال، لا يوفر الناس ما يكفي من المال من أجل التقاعد بحيث يفضلون إنفاق المال حالاً بدل توفيره لشيخوختهم. كما أنّهم يكثرون من الأكل في الوقت الحاضر على الرغم من المشاكل التي يمكن أن تتسبّب بها السمنة في المستقبل.
اقرأ أيضاً: كيف تتغلب النظم الصحية على تحديات التغير المناخي؟
يعود تجاهل التغيّر المناخي على المدى القصير بفوائد على الأفراد والمؤسسات. فالأفراد لا يتعيّن عليهم إجراء تغييرات في السيارات التي يقودونها، أو المنتجات التي يشترونها، أو المنازل التي يعيشون فيها، إذا تجاهلوا تأثير بصمتهم الكربونية على العالم. والشركات يمكنها أن تُبقي التصنيع أرخص إذا لم تضطرّ إلى تطوير عمليات جديدة للحدّ من انبعاثات الكربون. والحكومات يمكنها توفير المال حالاً بالاعتماد على المحروقات لتوليد الطاقة بدلاً من تطوير مصادر الطاقة الخضراء وتحسينها حتى تلك التي تكون أكثر فاعلية من حيث التكلفة على المدى الطويل.
ثانياً، تغيّر المناخ هو مشكلة غير خطية (أي ناتجها لا يتناسب مباشرة مع مدخلاتها)
الناس جيدون حقاً في إصدار أحكام على التوجّهات الخطية، فإذا أنفقت 5 دولارات يومياً على القهوة سيكون سهلاً عليك التفكير في تأثير ذلك على ميزانيتك الأسبوعية من دون الحاجة إلى جدول بيانات.
عندما تزداد وظيفة ببطء في البداية ثم تتسارع، فإنّ ذلك يسبب المشكلات، لأنّ الناس يستنبطون تلك الوظيفة خطياً. ربما يكون تدخين بعض السجائر غير مميتاً، غير أنّ الضرر المتراكم لسنوات من التدخين يؤدي إلى مشاكل صحية كبيرة. وقد يمارس المدخنون هذه العادة لسنوات عدّة من دون عواقب واضحة إلى أن تحدث فجأة مشكلة كبيرة. ونتيجة لذلك، يبدو أنّ المشاكل الصحية تتسلّل إلى الناس في الوقت الذي كانوا يعملون فيه على مراكمتها طوال الوقت.
وبالمثل، استغرق ظهور علامات تغيّر المناخ التي كانت واضحة للناس وقتاً طويلاً. يتفاعل الناس مع التهديدات الواضحة على نحو أفضل بكثير من التهديدات التي تكبر بسرعة والتي تكون غير خطية.
ثالثاً، الكثير من آثار تغيّر المناخ بعيدة عن معظم الناس
يرد في بحث حول نظرية مستوى الاستنتاج أنّ الناس يتصوّرون الأشياء البعيدة نفسياً عنهم (زمنياً أو مكانياً أو قرباً اجتماعياً) على نحو أكثر تجريداً من الأشياء القريبة نفسياً منهم. عندما يكون هناك كوارث مناخية يُرجّح أن تكون انعكاساً للتغير المناخي (مثل حرائق الغابات أو العواصف القوية)، فإنّها تحدث بعيداً عن مكان وجود معظم الناس، ولذلك فإنّ هؤلاء لا يضطرون إلى التعامل مع تفاصيل تغيّر المناخ، بل يمكن أن يتعاملوا معه كمفهوم تجريدي. والمفاهيم المجردة ببساطة لا تحفّز الناس على التصرّف بالقوة نفسها مثلما تفعل المفاهيم المحددة.
رابعاً، المستقبل يكون دائماً أكثر غموضاً من الحاضر فيما يخص مواجهة التغيّر المناخي
وهذه أحد الأسباب التي تجعل الناس يقدّرون الحاضر بقوة أكبر. في نهاية الأمر، إذا قمت بتوفير الكثير من المال من أجل التقاعد فلا شيء يضمن أنّك ستعيش طويلاً بما يكفي للاستمتاع به. وفي حالة تغيّر المناخ، يقول بعض المشككين إنّه ليس من المؤكد أنّ تأثير النشاط البشري على المناخ سيكون له عواقب وخيمة مثلما توقّع بعض الخبراء.
في حين تعمل جميع هذه العوامل ضدّنا، لا شكّ أنّ ثمّة أمل. فهناك بعض الأمور التي يمكنك فعلها سواء كنت تحاول الانخراط في المزيد من الأنشطة التي تحدّ من تأثيرك على المناخ، أو كنت تحاول إقناع الآخرين (أو المنظمات) بالتحرّك.
اقرأ أيضاً: هل التغير المناخي يُكلف المستثمرين تريليونات الدولارات؟
تقريب المستقبل ذهنياً، بحيث تشعر بزعزعة تفاصيل الحياة اليومية بواسطة التغير المناخي العالمي، سيساعدك في تقليل المسافة النفسية. وعندما تشعر أنت والآخرون بهذا التهديد المستقبلي في الوقت الحاضر (وليس بشيء لا يزال بعيداً مسافة جيل) سيكون لديك قوة تحفيزية كافية تجعلك تنخرط في أفعال تتطلب مجهوداً أكبر اليوم، مثل الاعتماد على النقل العام أو إطفاء مكيّف الهواء في يوم صيفي حار. اطّلع على التقارير والتوقّعات (يمكنك البدء بتقرير الأمم المتحدة)، وفكّر كيف ستتأثر حياتك اليومية وتحدّث عن ذلك.
من المفيد أيضاً مواجهة الشكّ بشأن المستقبل مباشرة. إذا كنت (أو أيّ شخص تعرفه) تشكّ في أنّ النشاط البشري يؤثر على المناخ، فكّر في احتمال أن يكون تغيّر المناخ العالمي حقيقياً. يعتقد معظم المشكّكين أنّ هناك على الأقل بعض الفرص لأن يؤثّر النشاط البشري على المناخ. اطلب منهم توضيح احتمالية ذلك. عندما جرّبت ذلك شخصياً مع مشكّكين سبق أن تحدّثتُ معهم، غالباً ما قدّموا احتمالاً ضعيفاً مثلاً بنسبة 20%. في هذه الحالة، أحاول جعل القرار محدداً أكثر، وأسألهم ما إذا كانوا مستعدّين للتخلّي عن شيء في هذا اليوم من أجل الاستثمار في مرض قد يؤثر على أحد الأحفاد بنسبة واحد إلى خمسة. وإذا كان الأمر كذلك، أسألهم كيف يكون التعامل مع تغيّر المناخ بجدية مختلفاً. لا يجب أن تكون مشككاً في تجربة هذا المنطق على نفسك؛ ضع في الاعتبار الشيء الذي ستكون مستعداً للتخلّي عنه في هذا اليوم مع العلم أنّه خلال جيل واحد ستكون هناك عواقب وخيمة وكارثية بسبب التقاعس عن العمل.
يمكنك أيضاً إجراء نقاش جاد حول القيَم بين أقرانك وفي مؤسستك. وفكرة أنّ الخيارات في الوقت الحاضر أكثر قيمة من الخيارات في المستقبل (جوهر المفاضلة الزمنية) هي بحدّ ذاتها تقييم، ومصطلح تقييم يضمّ كلمة قيمة- أي أنّه يفترض مجموعة من القيم.
في نهاية الحديث عن مواجهة التغيّر المناخي حول العالم، يجب أن نكون مستعدّين لأن نكون صريحين بشأن القيم التي نتصرّف على أساسها. إذا اخترنا إثراء حياتنا في الوقت الحاضر على حساب جودة حياة الأجيال القادمة، فهذا خيار بشأن القيم نادراً ما نفضّل أن يكون صريحاً. علينا أن نكون مستعدين للنظر في المرآة والقول بأنّنا مستعدون لعيش حياتنا بأنانية من دون أيّ اعتبار لحياة أطفالنا وأحفادنا. وإذا لم نكن نرغب في أن تكون لدينا أنانية، علينا أن نغيّر من سلوكنا حالاً.
اقرأ أيضاً: كيف تتدهور الأهداف الجريئة للشركات في ظل تغيّر المناخ؟