في عام 2020، انضممت إلى قسم جديد في شركة تقنية اسمه "مستقبل العمل". كان رئيس القسم يحمل درجة الدكتوراة في مجال تطوير الذات، وكان يعمل شريكاً في شركة ماكنزي قبل انضمامه إلينا. في أول اجتماع لي معه، طلب مني إجراء حوار معه لتعريف موظفي الشركة، البالغ عددهم 100 ألف موظف حول العالم، بالقسم الجديد وشرح مفهوم مستقبل العمل.
بعد الحوار، كان يطلب مني في كل عرض تقديمي له تحضيره أو إلقاءه نيابة عنه. ومع مرور الوقت، بدأ يطلب مني تدريب نواب الرئيس التنفيذي في الشركة على المهارات الإنسانية أو ما يسمى بالمهارات "الناعمة" التي كانت متطلباً أساسياً لترقيتهم إلى مناصب عليا.
بعد تدريب أكثر من 300 قائد حول العالم على مدى 4 أعوام، لاحظت تأثير هذه المهارات في مسيرتهم المهنية، واكتشفت أنها تعزز تأثير الأفراد وتساعدهم على تقديم عروض تقديمية مميزة، وتجعلهم متحدثين أفضل، وتمنحهم طاقة أكبر عند تمثيل الشركة في المحافل الكبرى، أما في مجالات التفاوض وتطوير الأعمال، فوجدت أن هذه المهارات تساعد على كسب ثقة الآخرين، وتجنب الجدال، والتعامل مع الشكاوى بفعالية، والحفاظ على تواصل إنساني سلس.
وإذا استرجعت حياتك المهنية على مدى السنوات الخمس الماضية، فستجد أنها تأثرت بالعديد من الأحداث، بدءاً من جائحة كوفيد-19 التي لم تترك لك سوى خيار واحد وهو التكيف بسرعة مع بيئة العمل عن بُعد بسبب قيود الإغلاق والتحديات الاقتصادية المصاحبة لها وتسريح الموظفين، ثم العودة مجدداً إلى المكاتب، وصولاً إلى انتشار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
وقد أدّت هذه التغيرات الجوهرية إلى إحداث تحول سريع في الطلب على المهارات، ودخول التكنولوجيا في المهام اليومية الروتينية وحتى المهام المعقدة القائمة على المعرفة مثل البحث والترميز البرمجي والكتابة، التي كانت في الماضي وظائف آمنة بعيدة عن تداعيات الزعزعة، ما جعل متوسط عمر المهارات أقل من 5 سنوات، ونصف تلك المدة في بعض مجالات التكنولوجيا، بحسب بوسطن كونسلتينغ جروب.
وفي عام 2019، أثارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) القلق عندما توقعت أن أتمتة المهام ستقضي على 14% من الوظائف حول العالم، وأن التكنولوجيا الجديدة ستغير جذرياً 32% منها في غضون 15 و20 عاماً، على الرغم من أن توقعاتها لم تشمل تقنية تشات جي بي تي والموجة الجديدة من الذكاء الاصطناعي التوليدي التي اجتاحت السوق مؤخراً.
وبالتالي، يتعيّن على الخريجين الجدد والموظفين إعادة صقل مهاراتهم بالكامل لمواكبة وتيرة تغير سوق العمل. ويرجح تقرير مستقبل الوظائف 2020 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، أن يتم استبدال 85 مليون وظيفة في عام 2025، بسبب التحول في تقسيم العمل بين البشر والآلات، وأن 50% من الموظفين سيحتاجون إلى إعادة صقل مهاراتهم مع تفاقم الاضطراب المزدوج للآثار الاقتصادية للوباء وزيادة وظائف الأتمتة المتغيرة.
لكن من جهة أخرى، قد تخلق تلك التغيرات 97 مليون وظيفة جديدة تمثّل فرصة للأشخاص الأكثر تكيفاً مع التقسيم الجديد للعمل بين البشر والآلات والخوارزميات، وبحسب تقرير ماكنزي آند كومباني، تتطلب الوظائف الجديدة مزيجاً من المهارات التكنولوجية والشخصية في مكان العمل تجعلك مرشحاً أكثر قدرة على المنافسة أو قد تسهل عليك تغيير المجال الذي تعمل فيه.
تحديات مستقبل مهارات العمل المستقبلية
بصفتي مدربة واستشارية مهنية عملت مع آلاف الموظفين والقادة لأكثر من عقد من الزمان، شاركت مؤخراً في نقاش حول مستقبل المهارات اللازمة للعمل في القرن الحادي والعشرين، وركزنا خلاله على 3 تحديات رئيسية:
التحدي الأول: هل ستصبح المهارات الناعمة أكثر أهمية؟ قد يتطلب المزيد من جهات التوظيف أن يتمتع المرشحون بمهارات شخصية استثنائية مثل القدرة على الكتابة والاستماع والتواصل بفعالية.
التحدي الثاني: خلق التطور التكنولوجي نماذج عمل جديدة مثل العمل من أي مكان وفي أي وقت، أو تبنّي أسبوع العمل المكوّن من 4 أيام فقط، أو التعاقد على مشاريع محددة، والسؤال هنا: هل هذه النماذج مستدامة؟ وهل يمكن لشخص في العشرينيات أو الثلاثينيات أن يتبناها على المدى الطويل؟
التحدي الثالث: القدرة على التركيز وسط كل المشتتات الرقمية الحالية، إلى جانب التحديات المرتبطة بالاستدامة وتأثيراتها المستقبلية.
"التاريخ يعيد نفسه" يمكن تطبيق هذه المقولة على العمل، فقبل قرنين ونصف من الزمان، كان مفهوم العمل يتمحور حول الزراعة من أجل تلبية احتياجات الغذاء، ومع بدء الثورة الصناعية وانتشار الآلات والمحركات البخارية تغير مفهوم العمل تغيراً جذرياً، وأصبح بإمكان الجرار الزراعي إنجاز عمل 100 شخص. وبالمثل إذا نظرنا إلى عالم الأعمال اليوم، فسنجد أن تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات تسهم في تعزيز مستويات الكفاءة والإنتاجية. ووجدت دراسة من جامعة بكين جياوتونغ أن كل زيادة بنسبة 1% في انتشار الذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤدي إلى زيادة بنسبة 14.2% في إجمالي إنتاجية الموظف.
لكن ما الذي يختلف الآن؟ نماذج الأعمال تتغير بوتيرة أسرع وتبرز قيم جديدة تركز على تلبية احتياجات العملاء مع تطبيق معايير الاستدامة، وهو ما يتطلب مهارات جديدة، أو التركيز على مهارات مختلفة مثل إدارة التغيير، والقدرة على الابتكار.
مع انتشار الأدوات والتقنيات والمنصات الناشئة بسرعة، ستكون القدرة على اكتساب المعرفة الجديدة ودمجها باستمرار هي المحور الأساسي للمرونة المهنية في عام 2025.
ما هي المهارات التي تحتاج إليها في العام الجديد؟
قد تختلف المهارات التي تحتاج إلى تعلمها لتمكنك من تحقيق أهدافك المهنية في العام الجديد المقبل اعتماداً على ما تتطلع إلى تحقيقه على وجه التحديد، ولكن هناك 3 مهارات أساسية يجب أن تكون في قائمة مخططاتك:
1. مهارات ريادة الأعمال
إن امتلاكك عقلية ريادة الأعمال ومهاراتها مثل التحفيز الذاتي، والتفكير الإبداعي، وحل المشاكل، يمكن أن يضعك في أدوار مرتفعة الدخل مثل أن تكون جزءاً من الفريق المؤسس لشركة ناشئة، أو قد يفيدك شخصياً سواء كنت موظفاً مستقلاً أو موظفاً لديه عمل جانبي، إذ يميل أصحاب العمل إلى استقطاب الشخص المهني الذين يتمتع بالمرونة والدافع الريادي، لأنه سيكون قادراً على فهم جوانب العمل المختلفة ومدى تأثير قراراته على المديين القريب والبعيد، ولديه حس المغامرة والتعلم من الأخطاء من أجل اغتنام الفرص بطريقة أفضل، ويسعى باستمرار إلى اكتساب المعارف التي ستضيف قيمة للشركة، ويقدّر قيمة التواصل وشبكة العلاقات التي تسهم في نجاح الشركة.
2. المهارات الناعمة
قد يركز الأشخاص على المهارات الوظيفية أكثر من المهارات الشخصية عند إعداد أنفسهم لسوق العمل، وقد تتغاضى الجامعات عن تعليم تخصصات مثل مهارة البيع، على الرغم من أهميتها في عالم الأعمال.
لكن تنمية هذا النوع المهارات يمكن أن يحسّن فرص توظيفك في عام 2025، فامتلاكك مهارة التكيف سيجعلك قادراً على مواجهة التغيير المستمر في بيئة العمل، وتركيزك على مهارة الاتصال سيساعدك على التعبير عن نفسك بصورة أفضل وأكثر فعالية، وتمتعك بمهارات قيادية سيفتح لك الأفق لتولي مناصب عليا تمكِّنك من التأثير في من حولك وتحفيزهم.
3. المهارات الرقمية
في عام 2025، سيكون إتقان أدوات الذكاء الاصطناعي أمراً أساسياً لتطوير مسيرتك المهنية، وستصبح فكرة أن "الذكاء الاصطناعي لن يحل محل البشر، ولكن البشر الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي سيحلون محل أولئك الذين لا يستخدمونه" حقيقة واقعة. وفقاً لتقرير شركة آي بي إم (IBM)، يرى المسؤولون التنفيذيون أن نحو 40% من الموظفين سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهاراتهم بسبب تطبيق الذكاء الاصطناعي والأتمتة على مدى السنوات الثلاث المقبلة.
وسيكون إتقان هندسة الأوامر لاستخلاص أفضل النتائج من أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتخصيص نماذج الذكاء الاصطناعي لتطبيقات أعمال محددة، من المهارات الأساسية التي ستشكل ملامح مستقبل العمل، وكذلك البرمجة التي يمكن أن تساعدك على تسويق منتج ما بطرق أسرع، أو أن توفر لك مصدراً إضافياً للدخل من خلال تطوير التطبيقات.
قد تعتقد أنك لست بحاجة إلى تعلم البرمجة أو الذكاء الاصطناعي لأنك لا تعمل مباشرة في مجال التكنولوجيا، ولكنهما في الواقع من المهارات القابلة للتحويل عبر عدد من المسارات الوظيفية بالإضافة إلى تعزيز حياتك المهنية الحالية. على سبيل المثال، إذا كنت متخصصاً في التسويق، فقد ترغب في تعزيز مهارات تحليل البيانات من أجل بناء حملات أكثر فعالية.
إن صقل المهارات وتطويرها سيكونان مفتاح القوة في الواقع الجديد، وسيتطلب تحقيق الازدهار في عام 2025 دمج الخبرة التقنية في القدرات الشخصية. فإذا اخترت عدم الاستمرار في تعلم شيء جديد كل يوم، فسرعان ما ستتخلف عن الركب وتصبح بعيداً عن احتياجات مجال عملك.