نعيش عصراً ذهبياً مليئاً بالفرص للمبدعين الساعين لتحقيق أحلامهم. لقد أصبح تحويل الإبداع إلى مصدر دخل أسهل من أي وقت مضى بفضل منصات التواصل الاجتماعي اليوم، ونتيجة لذلك، نرى ملايين الشباب يبتعدون عن المسارات الوظيفية التقليدية ويتجهون نحو اقتصاد المحتوى. هذه نسخة جديدة من رواية قديمة.
عبر عقود مضت، آثر الموسيقيون والممثلون والفنانون وغيرهم من المبدعين تأجيل الانخراط في المسارات المهنية التقليدية لتكريس سني حياتهم المهنية الأولى لشغفهم. يتمتع العديد من هؤلاء الأشخاص، المستعدين للتخلي عن وظائف أخرى من دون أي ضمانات بعزيمة وشغف كبيرين، واكتسبوا خلال تجربتهم مهارات قيمة يمكن أن تفيدهم طوال حياتهم.
لكن الانتقال الوظيفي ليس جانباً سهلاً أبداً، وسواء كنت تنتقل من مهنة فنان أو صانع محتوى إلى وظيفة في عالم الأعمال التقليدي، فستواجه على الأرجح بعض التحديات الفريدة. ندرك ذلك جيداً من خبرتنا الشخصية.
عملنا (آدم وجيسي) موسيقيين متفرغين قبل أن ننتقل إلى مجالات الأعمال التقليدية، وحققنا بعض الإنجازات المهمة، مثل إبرام عقود تسجيل مع شركات إنتاج كبيرة والتعاون في مشاريع بارزة، لكن الواقع الذي كنا نعده مثالياً في شبابنا فقد جاذبيته عندما خضنا غماره عن قرب. ومع تقدمنا في السن أعدنا تقييم أولوياتنا ومستقبلنا، وبعد سنوات التقينا في برنامج ماجستير إدارة الأعمال التنفيذية بكلية وارتون وتقاربنا بسبب إدراكنا المشترك لإمكانية الاستفادة من المهارات التي اكتسبناها في مجموعة متنوعة من الأدوار، لكننا مع ذلك واجهنا صعوبة أيضاً في معرفة السبيل إلى تحقيق ذلك.
إذا وجدت نفسك في موقف مماثل، أي إذا اكتشفت أن أولوياتك واهتماماتك قد تغيرت وتفكر الآن في تغيير مسارك المهني، فلدينا أخبار مشجعة لك. إذ من المرجح أن تكون خبرة العمل غير التقليدية قد أكسبتك مهارات يمكن أن تساعدك على البروز في أي منصب تتطلع إلى شغله.
أجرينا مقابلات مع 150 شخصاً، مثلك تماماً اتبعوا مسارات مهنية إبداعية في وقت مبكر من حياتهم، بدءاً من الموسيقيين والممثلين والمخرجين وصولاً إلى راقصي الباليه والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي ومقدمي البث المباشر وغيرهم، وسألناهم عن رحلاتهم الإبداعية وحافزهم للانتقال إلى أدوار مهنية جديدة. كان هدفنا استكشاف كيفية استفادوا من مهاراتهم الإبداعية في سوق العمل التقليدي بعد أن أصبحوا رؤساء تنفيذيين ومدراء منتجات وتسويق ومحامين ومؤسسي شركات.
نحن واثقون من أن نتائج أبحاثنا والروايات التي جمعناها يمكن أن تساعدكم، أنتم الجيل القادم من المبدعين، على إطلاق العنان لإمكاناتكم بغض النظر عن المسار التالي الذي تختارونه.
كيف تستفيد من مهاراتك الإبداعية في عالم الأعمال؟
سعى بعض الأشخاص الذين قابلناهم إلى ممارسة الفن بدافع متعة الإبداع الخالصة، لكن الكثير منهم كانوا يطمحون إلى النجاح التجاري ويسعون إلى تحقيق إيرادات مستدامة. ولتطوير أعمالهم الإبداعية والاستفادة منها في السوق، بدؤوا تطوير العديد من السمات الريادية وممارستها فأسهمت في نجاحهم لاحقاً في عالم الأعمال. فيما يلي السمات الثلاث الأساسية التي حددناها في أثناء تحليل الاستجابات:
السعي إلى تحقيق رؤية شخصية
في مرحلة تأسيسية من حياتهم، اكتشف العديد ممن قابلناهم أن لديهم دافعاً إبداعياً قوياً وتصوروا مستقبلاً يتسم بالنجاح التجاري، فاتخذوا خطوة جريئة وتجاوزوا المسارات المهنية التقليدية ونقلوا أعمالهم الإبداعية إلى السوق من خلال إجراءات مدروسة وموجهة ذاتياً كانت ضرورية لتوزيع أعمالهم وترويجها وتحقيق الربح منها.
التعلم من خلال الممارسة
كان أغلب المبدعين الذين تحدثنا إليهم منضبطين للغاية وطوروا عادات مكنتهم من النمو وإتقان المهارات اللازمة للتميز في مجالاتهم الإبداعية، ومنها التدريب المتكرر والتماس التقييمات.
الهوية في العمل
استمد معظم الأشخاص الذين تحدثنا إليهم المعنى والغاية من حياتهم من السعي وراء شغفهم، وأصبح عملهم جزءاً قوياً ومميزاً من شخصياتهم (ولا يزال كذلك حتى اليوم). يمكن ربط كل سمة من هذه السمات بقيمة تجارية ضرورية لاكتساب ميزة تنافسية والازدهار في سوق العمل اليوم:
- السعي وراء تحقيق رؤية شخصية ← الانحياز للعمل الابتكاري
- التعلم من خلال الممارسة ← تبني عقلية النمو
- الهوية في العمل ← الدافع الذاتي
يمكنك استخدام هذه المعرفة في حياتك المهنية لإعادة النظر في مهارات ريادة الأعمال التي اكتسبتها وإعادة صياغتها بطريقة يقدرها مجتمع الأعمال ويفهمها. دعنا نحلل كل قيمة تجارية ونناقش كيف يمكنك استخدامها للتميز في مجموعة متنوعة من الأدوار.
السعي وراء تحقيق رؤية شخصية ← الانحياز للعمل الابتكاري
استطاع العديد من الأفراد الذين تحدثنا إليهم التقدم إلى أدوارهم الجديدة بسبب انحيازهم المتأصل للعمل الابتكاري. لقد تطلب منهم سعيهم الأولي في مسار مهني إبداعي (غير مضمون النتائج) تطوير سلوك استباقي بقي معهم طوال حياتهم.
خذ على سبيل المثال عازف الطبول، أليكس بوركهارت، الذي أسس فرقة موسيقية وأمضى 10 سنوات وهو يجوب العالم قبل أن يحقق نجاحاً كبيراً ويبيع ملايين النسخ من ألبوماته. ثم أصبح لاحقاً مؤسساً لشركة ناشئة ثم رئيساً للمنتجات في إحدى الشركات المدرجة على قائمة فورتشن 100، حيث طوّر فريقه عدة مشاريع كان أحدها توصيل البقالة بأمان إلى الناس بطرق جديدة في أثناء الجائحة.
بصفته مبدعاً، أدرك أليكس أن تحقيق رؤيته الشخصية لن يحدث إلا من خلال مبادرته الخاصة. وفي عالم الأعمال لاحقاً، تحولت هذه السمة إلى استعداد للعمل وتحدي الوضع الراهن وتحديد فرص تحسين النظم الحالية واغتنامها. وقد شاركنا قائلاً: "عند ابتكار منتجات جديدة، أرى أن ما أفعله اليوم يشبه تماماً إنشاء ألبوم موسيقي وإصداره. إذا كنت أرغب في تغيير شيء ما، فأنا المسؤول عن تغييره".
ما يمكنك فعله:
بصفتك مبدعاً يفكر في تغيير مساره المهني، فقدرتك على وضع رؤية وبدء العمل بفعالية من أجل تحقيقها هي إحدى أهم نقاط قوتك. ولكن يجب عليك أولاً أن تفهم رسالة الشركة التي تطمح إلى الانضمام إليها ورؤيتها وتعمل على التوافق معها.
على سبيل المثال، لنفترض أنك حصلت على وظيفة مساعد عمليات في شركة ناشئة مدعومة برأس مال مغامر: سيساعدك طرح أسئلة، مثل "أي جزء من وظيفتي يمكن أن يكون له أكبر أثر في أهداف الشركة وما السبب؟" و"ما هي أكبر المشاكل التي يحاول فريقنا حلها؟"، على تعلم استراتيجية الشركة وآليات عملها وتقديرهما. بعد ذلك، يمكنك الاستفادة من قدرتك على الإبداع لتصور طرق مبتكرة لتحسين العمليات الحالية، وتطوير حلول مبتكرة للمشاكل، والسعي لتحقيق أي هدف آخر تضعه نصب عينيك.
التعلم من خلال الممارسة ← تبني عقلية النمو
على غرار الأشخاص الذين قابلناهم، إذا حققت نجاحاً في مجالك الإبداعي، فعلى الأرجح أنك قضيت ساعات طويلة في التدريب لتحسين أدائك باستمرار. لقد اكتشفنا أن العديد من المبدعين يستفيدون من التكرار والتقييمات بفعالية لبناء الكفاءة وتعزيز المهارات واكتساب الثقة في مجال خبرتهم؛ وهم بذلك يطورون عقلية النمو ويتبنونها، مؤمنين بقدرتهم على اكتساب مهارات جديدة في أي مرحلة من مراحل حياتهم.
على سبيل المثال، أمضت جيسيكا نوين آلاف الساعات في التدريب المجهد لتطوير مهاراتها في دورها راقصة باليه متجولة قبل أن تنتقل إلى وظيفة إدارية في شركة استثمار طبي، حيث تدرجت في المناصب حتى أصبحت الآن مديرة تنفيذية أولى للعمليات. تقول: "وجدت نفسي أسعى لتحقيق الكمال ولكن متجردة من الغرور، وكنت دائماً منفتحة على تحسين طريقة عملي لأرتقي بأدائي".
وعلى غرار تجربة جيسيكا، وصف العديد من الأشخاص الذين قابلناهم شعورهم بالتأخر عن الآخرين عند دخولهم عالم الأعمال أول مرة، لكنهم اكتشفوا أن قدرتهم على التدرب وتطوير مهارات جديدة أتاحت لهم التعلم بسرعة أكبر مقارنة بالعديد من نظرائهم، ما قادهم إلى تولي مناصب تنطوي على مسؤوليات أكبر.
ما يمكنك فعله:
يمكن للمثابرة والعزيمة اللتين عززتا مسيرتك المهنية الإبداعية أن تعوضاك عن الخبرة التي قد تفتقر إليها في المهام اليومية. حدد المهارات التي تحتاج إليها بصدق كي تتألق في مجال عملك الجديد، ثم طور عادة التدريب المنضبطة لتنميتها.
قد يكون إتقان اللغة الاصطلاحية واستخدام الأدوات وأساليب العمل التي اكتسبها أقرانك من خلال تجاربهم السابقة في هذا المجال من أكثر الجوانب المخيفة عند الانتقال إلى شركة أو قطاع جديد. مع ذلك، فهذه كفاءات يمكنك اكتسابها بسرعة إذا تبنيت العقلية المناسبة، وستكون سماتك الأساسية أهم على المدى الطويل. لذلك ثق في نهج عملك وسرّع نموك من خلال تبني الفضول المركّز والأخلاقيات المهنية نفسها التي استخدمتها لتطوير مهاراتك في الماضي. ستزداد ثقتك بنفسك بطبيعة الحال في هذه العملية.
الهوية في العمل ← الدافع الذاتي
أخيراً، اكتشفنا أن الدافع الذاتي، أو الشعور بالحافز لفعل شيء ما لمجرد الاستمتاع به، هو المحفز الرئيسي للمبدعين الذين حققوا نجاحاً تجارياً على المدى الطويل.
لقد تحدث الأشخاص الذين أجرينا معهم المقابلات عن أنهم استمدوا شعورهم بامتلاك الغاية وبهويتهم من عملهم الإبداعي، ما عزز هذا الحافز وساهم في تشكيل شخصياتهم. ومع انتقالهم إلى مراحل لاحقة من حياتهم المهنية، تمكنوا من نقل هذه العقلية إلى مجالات عمل أخرى. لقد أخبرنا الكثير منهم أنهم يواصلون التعبير عن الجوانب الأساسية من هوياتهم عبر عملهم ويستفيدون من ذلك الشعور بالهدف لتحفيز جهودهم في عالم الأعمال والاستمرار بها.
كان هذا هو الحال بالنسبة لأحد الأشخاص الذين قابلناهم، ويُدعى إيدان كونولي، الذي اكتشف دافعه الإبداعي بمجال الإنتاج الموسيقي والمسرحي عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية.
بعد دراسته للغة الإنجليزية والمسرح في الجامعة، انتقل إلى مدينة نيويورك وحصل على بطاقة عضوية في نقابة الممثلين وأمضى 6 سنوات في الجولات والتمثيل في عروض مسرحية إقليمية.
وفي سعيه نحو مسار أكثر استقراراً، حصل في النهاية على تدريب داخلي غير مدفوع الأجر مع الفريق المالي لحملة المرشح الرئاسي آل غور في نيويورك خلال استراحة من جولته الفنية. قادته هذه الفرصة إلى وظيفة في مجال الاستشارات، ثم إلى أدوار رئيسية في مجال جمع التبرعات والشؤون الحكومية بمجلس شيوخ ولاية نيويورك.
قال إيدان: "بدأت أجد المعنى والحافز في المشاريع القيّمة والملهمة على الرغم من أن تحقيقها بدا بعيد المنال، واستلهمت هويتي من قدرتي على العمل الجاد وجمع الأشخاص معاً لتحقيق النجاح". وقد قاده حافزه الريادي لاحقاً إلى بذل جهد لبناء مركز جديد للفنون الإيرلندية، وهو منصة ثقافية متطورة لإيرلندا في مدينة نيويورك بقيمة 60 مليون دولار قاد عملية إنشائها من الفكرة إلى الاكتمال في عام 2021.
ما يمكنك فعله:
بصفتك مبدعاً أو فناناً ينتقل إلى المراحل الأولى من مستقبله المهني، من الضروري أن تحافظ على هويتك الإبداعية وتعززها، وانتبه إلى أن ذلك قد يكون أيضاً من أصعب جوانب الانتقال.
خلال مقابلاتنا، اكتشفنا أن بعض المبدعين واجهوا صعوبة في التوفيق بين هوياتهم الإبداعية ومتطلبات البيئة الاجتماعية والثقافية في مكان العمل التقليدي. فشعر البعض وكأنهم يتخلون عن مبادئهم الإبداعية من خلال السعي وراء مسارات مهنية أخرى، بينما واجه آخرون صعوبة في العمل في بيئات تفتقر إلى الإحساس بامتلاك غاية هادفة.
لكننا لاحظنا أن الذين حققوا نجاحاً أكبر في البيئات المهنية الجديدة سعوا بصورة استباقية لأدوار تتوافق مع قيمهم بطريقة ما، وقد ساعدهم ذلك على رؤية انعكاس هوياتهم في عملهم وإعادة اكتشاف إحساسهم بامتلاك الغاية وبناء ثقتهم بأنفسهم.
بينما تفكر في حياتك المهنية، ضع في اعتبارك أن عملك هو انعكاس لهويتك، وليس العكس، فلست مضطراً للتخلي عن هويتك التي اكتشفتها خلال مساعيك الإبداعية في هذه المرحلة التالية.
يمكنك بل ينبغي لك التعبير بطرق مختلفة عن هويتك التي جسدتها في عملك الإبداعي؛ ابحث عن الأدوار والشركات التي تتوافق مع قيمك واستخدم إحساسك بامتلاك الغاية للاستفادة من دافعك الذاتي الذي حفزك على التقدم في الماضي.
لطالما كان المبدعون يبنون مسارات مهنية مجزية، واليوم باتت الدروس المستفادة من رحلاتهم أهم من أي وقت مضى. إذا كنت تنتقل حالياً إلى دور تقليدي، فثمة طرق تتيح لك الاستفادة من خبراتك لضمان استمراريتك وازدهارك في المرحلة التالية من حياتك المهنية. ثق بنا، فنحن شخصان مبدعان واجها العديد من الصعوبات التي قد تواجهها أنت أيضاً. كن صادقاً مع نفسك وافتخر بقصتك واعتمد على قدرتك على اكتساب مهارات جديدة واعترف بدوافعك الذاتية، ومع تبني العقلية والنهج الصحيحين، يمكن أن تصبح السمات التي اكتسبتها في مسارك الإبداعي أساس نجاحك المستقبلي.