منهجية الاتصال القائم على البيانات: تجربة صندوق أبوظبي للتقاعد مثالاً

6 دقائق
الاتصال القائم على البيانات
shutterstock.com/W. Phokin

يعد الاتصال عملية معقدة وذات بعد اجتماعي يرتبط بأفكار الأشخاص وخبراتهم وثقافتهم، لذا تواجه المؤسسات الحكومية صعوبة في التواصل مع المتعاملين خصوصاً أن المحتوى الإعلامي الذي تقدمه يفتقر إلى المتعة التي يتسم بها المحتوى الفني والترفيهي المنتشر بكم هائل عبر الوسائل الإعلامية ويتداوله الأفراد يومياً. ولكن دخول الذكاء الاصطناعي وتوافر البيانات جعل المهمة أسهل، وأصبحت إدارات الاتصال في المؤسسات الحكومية قادرة على تصميم محتوى يتواءم مع احتياجات المتعاملين ويلبي رغباتهم، وإيصاله لهم عبر قنوات وفي أوقات تناسبهم. وتعد تجربة صندوق أبوظبي للتقاعد أحد النماذج الحديثة للمؤسسات الحكومية التي بدأت مبكراً في الانتقال من الاتصال العام إلى الاتصال القائم على البيانات بهدف تقليل التكلفة التشغيلية واستيعاب العدد المتزايد لفئات الجمهور المختلفة.

حيث أدركت القيادة في صندوق أبوظبي للتقاعد مبكراً أهمية التواصل مع الفئات المختلفة من الجمهور لتحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية أهمها "تواصل فعال وشركاء أكثر وعياً". ومن هنا ولدت فكرة الإطار الجديد لتصميم خطط التواصل في الصندوق وتنفيذها، بحيث يتم الانتقال من الاتصال العام الذي كانت تشرف عليه إدارة الاتصال المؤسسي وتنفذه، إلى الاتصال القائم على البيانات (Data Driven Communication) والمصمم على مبدأ مركزية المتعامل (Customer Centric).

ما المقصود بالاتصال القائم على البيانات؟

قد يبدو مصطلح "الاتصال القائم على البيانات" حديثاً نوعاً ما في عالم الاتصال الحكومي، ولكنه يعد أحد مناهج الاتصال التسويقية الحديثة الذي يعتمد عليها الكثير من العلامات التجارية الرائدة للتسويق لمنتجاتها و الوصول إلى جمهورها.

لن أقدم تعريفاً مطولاً عن الاتصال القائم على البيانات، ولكن لتفهم المقصود به، دعني أسألك السؤال التالي :

هل سبق وأن شاهدت إعلاناً على إنستغرام أو استلمت رسالة إلكترونية حول منتج كنت تبحث عنه أو تفكر في شرائه، فشعرت للحظة بأن هناك من يراقبك، بل يستمع لما تقوله لأصدقائك؟

في الواقع، الأمر ليس كما تتخيله، ولكن ممارساتك على الإنترنت والكلمات المفتاحية التي تستخدمها للبحث عن بعض المعلومات والمنتجات، تُستخدم لإنشاء ملف خاص بك يحدد اهتماماتك ورغباتك من أجل تصميم محتوى ورسائل تسويقية وإعلامية تتناسب معها، فيتكون لديك ذاك الشعور بأنك مستهدف وبأن هنالك أحد ما يرسل لك كل ما تود مشاهدته وقراءته من دون أن تطلب منه ذلك.

3 ركائز أساسية للاتصال القائم على البيانات

إذا تعمقنا أكثر في مفهوم الاتصال القائم على البيانات، سنجد أنه يقوم على 3 ركائز أساسية وهي:

1. الكفاءات البشرية

ما يميز الاتصال القائم على البيانات، بأنه منهجية تبدأ وتنتهي بالمتعامل، فالمتعامل واحتياجاته تعد المحور الأساسي الذي تقوم عليه عملية تخطيط أنشطة الاتصال الموجه وتصميمها. فلا بد أن يتم في البداية تحديد نقاط الاتصال (Touch Points) مع المتعاملين والتي تعد المصدر الرئيس لجمع المعلومات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر مثل المواقع الرسمية للمؤسسات، وحسابات التواصل الاجتماعي، والنشرات، والرسائل النصية وغيرها. ويتم تحليل هذه البيانات لفهم سلوكيات المتعاملين واحتياجاتهم واستخدامها كأحد المدخلات الأساسية في تصميم خطط الاتصال.

وبالحديث عن العنصر البشري، لا بد أن نتحدث عن أهمية بناء ثقافة مؤسسية جديدة تقوم على منظور مركزية المتعامل (Customer centric) لدى الموظفين في المؤسسة وبالأخص الموظفين العاملين في الاتصال الحكومي، فيجب أن يتحول الموظفين من التفكير باستخدام طرائق التواصل التقليدية التي تقوم على الاتصال العام، للتفكير بكيفية تسخير البيانات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في تصميم أنشطة اتصال مؤتمتة وموجة لفئات الجمهور المختلفة وفق اهتمامات واحتياجات كل فئة.

2. الحوكمة والقياس 

ربما فكرة قيام إدارة الاتصال بكافة أنشطة الاتصال وتصميم الخطة الاستراتيجية لم تعد الخيار الأفضل في الوقت الحالي، بسبب توافر بيانات تفصيلية حول النتائج والتحديات التشغيلية التي من الممكن أن يتم الحد منها أو حلها من خلال أنشطة الاتصال ورفع مستوى وعي الجمهور المستهدف، ولتحقيق ذلك لا بد من تصميم خطط اتصال تشغيلية لكل قطاع وإدارة داخل المؤسسة للحد من التحديات التشغيلية التي تواجهها وتقليل التكلفة الناجمة عنها.

فأنت بحاجة إلى توعية الموظفين حول آلية الاتصال، وقد يستغرق التواصل مع أصحاب المصلحة لفهم العمليات المختلفة وقتاً طويلاً، كما أنك تسعى للتوصل إلى توافق في الآراء حتى تتمكن من تشخيص الحالة وقياس التقدم المنجز، بالتالي مع تعدد الأطراف المعنية بإدارة أنشطة الاتصال وتنفيذها لا بد من وضع إطار حوكمة محكم وتحديد أدوار واضحة لتجنب تكرار الأنشطة وإضاعة الجهد والتأكد من تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة ككل.

ولمراقبة التطور في تطبيق خطط الاتصال وتحليل النتائج التي يتم تحقيقها بشكل آني والوقوف على نقاط التحسين المحتملة، يتطلب الأمر بناء منصة لجمع البيانات من المصادر المختلفة وعرضها بشكل مناسب، لتوفير التقارير للموظفين المعنيين ومتخذي القرار.

3. تكنولوجيا المعلومات 

تؤدي التكنولوجيا أدواراً متعددة في منهجية الاتصال القائم على البيانات، تبدأ من مقدرتها على تحليل البيانات التي يتم جمعها من المصادر المختلفة ومقارنتها مع البيانات المفتوحة وعرضها من ضمن تقارير تساعد على تحديد احتياجات الجمهور المستهدف ووضعهم في مجموعات محددة، كما أن التكنولوجيا تساعد على إدارة سيناريوهات اتصال مختلفة مخصصة لكل فئة من الجمهور وتفعيلها وتوزيعها على المنصات المختلفة مثل حسابات التواصل الاجتماعي أو البريد الإلكتروني، ومتابعة تفاعل هذه الفئة مع المواد المنشورة وتعديل سيناريوهات الاتصال بناءً على نتائج هذا التفاعل.

ومن المهم هنا أن نشير إلى أن التطور التكنولوجي السريع وتوفر تقنيات التواصل الحديثة وانخفاض تكلفتها بشكل مطرد أدى إلى زيادة قنوات التواصل المستخدمة عن الحد المعقول، ما يتسبب في تعرض الرسائل المرسلة إلى التشويش، وبالتالي عدم تحقيق الغاية المرجوة. لذا يجب الابتعاد عن إنتاج أي محتوى لا يمكننا تتبع تفاعل الجمهور معه، فتفعيل خاصية التتبع لكل ما يتم إنتاجه مهم جداً لنجاح الاتصال القائم على البيانات، لأنها تسهم في فهم نوعية المحتوى المفضل لدى الجمهور المستهدف والأوقات الأنسب لإنتاج محتوى والقنوات الملائمة لنشره.

وبانتهائنا من ذكر تفاصيل الركائز الثلاث الأساسية للاتصال الموجه ربما يستغرب البعض منكم، عن سبب غياب البيانات عن هذه الركائز الثلاثة، ولكن في حقيقة الأمر، تعد البيانات جزءاً لا يتجزأ من كل ركيزة، فهي التي تساعد في البداية على فهم احتياجات الجمهور المختلفة وتحليلها، وبناء قاعدة بيانات لكل فئة من فئات الجمهور ما يساعدنا على بناء المحتوى المناسب لكل فئة، كما أنه يتم استخدام البيانات لاختبار جودة المحتوى المنشور ومراقبة أداء أنشطة الاتصال ومدى تفاعل الجمهور معها ما يساهم في تحسين جودة المحتوى وأوقات النشر ووسائله.

علاوة على ذلك، تقدم البيانات تقارير فورية لمتخذي القرار وتسهم في فهم العلاقة بين أنشطة الاتصال والتحديات والأهداف التشغيلية، ما يضع الاتصال في مكانه الصحيح ويُبين أهميته في تحقيق أهداف المؤسسة التشغيلية والاستراتيجية.

كيف طبق صندوق أبوظبي للتقاعد الاتصال القائم على البيانات؟ 

بدأ صندوق أبوظبي للتقاعد بتطبيق منهجية الاتصال القائم على البيانات، من خلال القيام ببعض التعديلات على عملية تخطيط أنشطة الاتصال وتنفيذها وأهمها: إعادة توزيع ملكية خطط الاتصال وأنشطته المتنوعة على الإدارات المختلفة، بحيث تكون كل إدارة رئيسية مالكة لخطة اتصال ومسؤولة عن تنفيذها، وتؤدي إدارة الاتصال المؤسسي دور المساند في تنفيذ هذه الخطط وتقديم المشورة الملائمة.

بالإضافة إلى ذلك تم تغيير منهجية التخطيط، فبدل الانطلاق من الأهداف الاستراتيجية للصندوق، تم البدء من أسفل الهرم بدراسة التحديات التشغيلية، من خلال تحليل كم كبير من البيانات كتلك المتعلقة بأهم التحديات التشغيلية التي تواجه الإدارات مثل التأخير في انجاز المعاملات أو عدد المعاملات المرتجعة وعدد الساعات التي يستغرقها فريق العمل في حل هذه التحديات، والبيانات المتعلقة بأنواع استفسارات المتعاملين التي يستقبلها الصندوق عبر القنوات المختلفة مثل الهاتف، والبريد الإلكتروني، والزيارات الشخصية وحتى الاستفسارات التي يتم استقبالها عبر مركز اتصال حكومة أبوظبي، وبيانات الإشارات السلوكية التي يتم جمعها عن زوّار الموقع الإلكتروني للصندوق أو المتعاملين الذين يتواصلون مع الصندوق بأي طريقة.

شكلت هذه البيانات مدخلاً أساسياً في خطط الاتصال، حيث ساعدت على تحديد التحديات الرئيسية وفئات الجمهور المستهدف بحسب احتياجاتهم والمعلومات التي يود الصندوق ايصالها لهم، وبناءً عليه تم تصميم خطط اتصال لكل إدارة تهدف للحد من التحديات التي تواجهها.

قد تبدو الفكرة غير واضحة تماماً حتى الآن، لذا دعوني أوضحها لكم، بعد تحليل البيانات التي تم جمعها تبيّن أن أحد الأسباب الرئيسية لكثرة الاستفسارات وتقديم معاملات غير مكتملة هو عدم وعي الفئات المختلفة من الجمهور بقانون المعاشات وخدمات الصندوق، لذا فإن رفع مستوى الوعي وتوفير المعلومات الاستباقية بطريقة واضحة وبسيطة سيسهم في تقليل عدد الاستفسارات المختلفة. فالمحصلة النهائية هي تعزيز فعالية إنتاجية فريق العمل وتقليل التكلفة التشغيلية الناجمة عن انشغال الفِرق بالرد على استفسارات المتعاملين وحل المشاكل المتعلقة بالمعاملات المرتجعة أو المتأخرة و بالتالي استغلال الموارد البشرية في الصندوق بشكل أكثر فعالية.

بعد أن أصبحت فئات الجمهور واحتياجاته واضحة، بدأ فريق العمل في الصندوق بتصميم محتوى متنوع يتلاءم مع احتياجات جمهور كل إدارة ويسهم في رفع الوعي حول موضوع محدد، وتم استخدام الاتصال الموجه بإرسال هذه المحتوى للفئة المستهدفة سواء من خلال النشرات البريدية مباشرةً أو عن طريق الإعلانات المدفوعة على حسابات التواصل الاجتماعي.

أسهمت هذه المنهجية في تقليل التكلفة على أنشطة الاتصال من خلال الاستثمار في المنصات الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعية وتوجيه المحتوى للفئات المستهدفة عوضاً عن استخدام الوسائل التقليدية العامة، بالإضافة لانخفاض عدد الأنشطة والمبادرات غير المخطط لها التي كانت تستهلك وقتاً وجهداً من فِرق العمل وفي أغلب الأحيان لا تحقق النتائج المنشودة بسبب ضيق الوقت في التخطيط والتنفيذ.

وللتأكد من أن تطبيق النهج الجديد يسير في الاتجاه الصحيح، تم ابتكار عدد من مؤشرات الأداء لمراقبة نجاحه مثل مؤشر فعالية تطبيق خطط الاتصال والذي سيساعد على دراسة دور الاتصال في تقليل التكلفة التشغيلية، ومدى التحسن التحديات التشغيلية التي تم تصميم أنشطة اتصال للحد منها.

فاليوم أصبح متخذو القرار من مدراء القطاعات والإدارات على اطلاع بنتائج أنشطة الاتصال لرفع الوعي حول موضوع معين أو للحد من تحدي يسعون للتغلب عليه، ومقارنتها مع البيانات التشغيلية المتعلقة بعدد الاستفسارات التي يقدمها المتعاملين حول الموضوع ذاته .

تنعكس منهجية التحول من الاتصال العام إلى الاتصال القائم على البيانات إيجاباً على سمعة المؤسسات، إذ تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا الحديثة للوصول إلى الجمهور وفهم احتياجاته بهدف تقديم خدمات أفضل، ومثال على ذلك، حصول صندوق أبوظبي للتقاعد على جائزة أفضل اتصال رقمي في الوطن العربي ضمن فعالية جائزة الشارقة للاتصال الحكومي لعام 2022.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي