من الواضح بالنسبة لمختلف فرق العمل والمؤسسات حول العالم أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واعدة. يعتقد القادة بناءً على المعلومات المتاحة لهم أن الذكاء الاصطناعي سيبسط العمليات ويعزز صناعة القرار ويرفع الإنتاجية. لكن في الوقت الذي يجني فيه العديد من المؤسسات فوائد الذكاء الاصطناعي، يتكشف توجه آخر، إذ يعزز الذكاء الاصطناعي انعزال الأقسام الوظيفية، وهي مشكلة واجهت الشركات على مدى عقود. قد يؤدي ذلك إلى تراجع الأداء لأنه يدفع الأقسام إلى استخدام الذكاء الاصطناعي على نحو مستقل، حيث يعمل كل قسم على تحسين عملياته الخاصة، وتنخفض قدرة المؤسسة على الالتزام باستراتيجيتها الكلية.
نستند في هذا المقال إلى تجربة الشركات التي شملتها أبحاثنا أو تلك التي قدمنا لها المشورة، ونسلط الضوء على أثر الذكاء الاصطناعي في الأداء عندما تتبناه الأقسام على نحو منفصل، كما أننا نقترح إجراءات لمعالجة هذه المشكلة. (غيرنا أسماء الشركات المذكورة أدناه لأسباب تتعلق بالسرية).
الأثر الأول: منح الأولوية لاستخدام التكنولوجيا
في الكثير من الأحيان، يقرر رؤساء الأقسام استخدام الذكاء الاصطناعي أولاً ثم البحث عن المشكلات التي يستطيعون حلها باستخدامه. لا تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي الجاهزة للاستخدام معاً بتوافق إلا نادراً، كما أن الفرق لا تطلع عادة إلا على لوحات التحكم والقياس الخاصة بها. بالإضافة إلى ذلك، يسوق الموردون لهذه الأدوات على أنها حلول مستقلة مخصصة للأقسام، ما يعزز عزلتها.
استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الأقسام على نحو منعزل يزيد صعوبة معالجة العديد من التحديات الأكثر إلحاحاً في عالم الأعمال اليوم، مثل تحسين تجربة العميل وتعزيز الاستدامة والابتكار، وهي تحديات تتطلب وضع رؤى ثاقبة واتخاذ إجراءات على مستوى الأقسام.
لنأخذ شركة إيماكوم مثالاً، وهي شركة تصنيع أسترالية عملنا معها. استخدم قسم تكنولوجيا المعلومات في الشركة الصيانة التنبؤية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بينما استخدم فريق سلسلة التوريد نوعاً آخر من أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالطلب. في الوقت نفسه، استخدم قسم المبيعات الذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء، بينما اعتمد قسم الموارد البشرية فحص السير الذاتية المدعوم بالذكاء الاصطناعي، ومن ثم طبق كل قسم الحل المعتمد على الذكاء الاصطناعي الخاص به على نحو مستقل.
بدلاً من معالجة التحدي الأساسي الذي تواجهه الشركة، المتمثل في الحد من التأخيرات، أدت هذه الحلول المعزولة إلى تعزيز الكفاءة على نحو منفصل، ولكنها فشلت في حل المشكلات التي تتطلب التنسيق بين أقسام الصيانة وسلسلة التوريد والمبيعات وتخطيط القوى العاملة.
حل المشكلة: إنشاء نموذج المحور والفروع يجب إنشاء مركز ذكاء اصطناعي للتميز يوازن بين الحوكمة المركزية والتنفيذ اللامركزي. يؤدي هذا المركز دور المحور ويضم الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي في المؤسسة والقادة الاستراتيجيين، ويحتوي على الموارد المشتركة، والغرض منه هو التوفيق بين مبادرات الذكاء الاصطناعي وأهداف الشركة من خلال وضع إطار عمل للحوكمة وتوفير أفضل الممارسات وتأسيس البنية التحتية المشتركة لتوسيع نطاق قدرات الذكاء الاصطناعي. أما الفروع فهي فرق الذكاء الاصطناعي المدمجة ضمن أقسام المؤسسة، وهي تستفيد من موارد المركز ومعاييره لتطبيق معارفها التخصصية العميقة، ما يمكنها من حل مشكلات محددة تواجهها المؤسسة بسرعة.
لنأخذ شركة باثيرست إنشورنس مثالاً، وهي شركة أسترالية عملنا معها. أدى مركز الذكاء الاصطناعي للتميز في الشركة دور مركز محوري اكتشف فرصة لدمج عمليات قسمي المبيعات والاكتتاب. استخدمت الفرق المحورية، وهي فرق العمل المدمجة في قسمي المبيعات والاكتتاب، المنصة المشتركة للمركز وإطار الحوكمة الذي يقدمه والموارد التي يوفرها لبناء نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه الموافقة مسبقاً على السياسات في الوقت الحقيقي وإرسالها إلى فريق المبيعات فورياً.
الأثر الثاني: الازدواجية والتعارض
عندما تستخدم الأقسام المختلفة مجموعات بيانات ونماذج مستقلة لحل مشكلات متشابهة، فإنها تتوصل غالباً إلى استنتاجات متناقضة. لا يؤدي ذلك إلى تراجع الكفاءة فحسب، بل يمثل تهديداً مباشراً لاستراتيجية الأعمال.
لنأخذ بنك ويسترن باسيفيك مثالاً، وهو بنك متعدد الجنسيات مقره أستراليا عملنا معه. استخدم قسم التمويل في البنك أداة معتمدة على الذكاء الاصطناعي لإدارة المخاطر تدربت باستخدام درجات الائتمان التقليدية وسجل أداء القروض وقيمت شريحة معينة من العملاء على أنها عالية المخاطر. في الوقت نفسه، استخدم قسم التسويق أداة معتمدة على الذكاء الاصطناعي لاكتساب العملاء حللت السلوكيات الرقمية وبيانات وسائل التواصل الاجتماعي وقيمت الشريحة نفسها على أنها هدف رئيسي للمنتجات الجديدة. أدى ذلك إلى توتر داخلي كبير. هل يجب أن يستهدف البنك هؤلاء العملاء في جهود التسويق كما دعا فريق التسويق، أم يجب أن يتجنبهم كما نصح الفريق المالي؟
حل المشكلة: البدء بتحديد الغاية وليس بتنفيذ العملية
لا يكمن الحل في إنشاء مجموعة بيانات شاملة لكل فريق، بل في تغيير العقلية بأكملها من خلال التركيز على الغاية من استخدام الذكاء الاصطناعي بدلاً من البدء بتطبيقه في العمليات. حدد النتائج التي تريد تحقيقها على مستوى المؤسسة ثم حدد الطرق التي يسهم وفقها الذكاء الاصطناعي في تحقيق هذه النتائج عبر الأقسام المتعددة. يضمن هذا النهج أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دور عامل تمكين استراتيجي، وليس دور أداة تكتيكية فقط.
لنأخذ شركة نكسورا ماركت التي عملنا معها مثالاً، وهي إحدى أكبر شركات التجزئة على الإنترنت في أستراليا. بدلاً من السماح للأقسام بتحسين أدائها الفردي، بدأت الشركة بتحديد غاية واحدة وشاملة تتمثل في تعزيز القيمة الدائمة للعميل. أتاح ذلك للشركة إنشاء محرك توصية واحد وموحد، وأصبحت هذه التوصيات محور تركيز التسويق، إذ استخدمها قسم إدارة المخزون لتحسين مستويات المخزون واستخدمها قسم الخدمات اللوجستية للتنبؤ بالمتطلبات المتعلقة بالشحن واستخدمها قسم خدمة العملاء لتقديم دعم استباقي.
من خلال التركيز على الغاية المشتركة، ضمنت الشركة أن مبادرات الذكاء الاصطناعي التي تطبقها تسهم في تحقيق هدف موحد، ما أدى إلى خلق تجربة عميل متماسكة ومتسقة تتجاوز حدود الأقسام.
الأثر الثالث: عدم تحقيق أهداف الشركة
عندما لا تترابط أدوات الذكاء الاصطناعي ويعزز بعضها أداء بعض، تفوت المؤسسات الفوائد المركبة التي تجعل الذكاء الاصطناعي تحويلياً بحق. يكشف بحث أجرته كيم (المؤلفة المشاركة لهذا المقال) أن المؤسسات تفشل في توسيع نطاق 70% من مبادرات الذكاء الاصطناعي بعد تنفيذها الأولي. يعود ذلك إلى أن هذه المؤسسات تنفذ المبادرات وتقيس نجاحها في أقسام معزولة.
احتفلت إحدى سلاسل التجزئة الأسترالية الكبرى التي شملها بحث كيم، فيرا آند وايلد، بالعديد من النجاحات في تطبيق الذكاء الاصطناعي في مختلف أنحاء المؤسسة. قلل فريق إدارة المخزون في المؤسسة نفاد المخزون بنسبة 15% باستخدام التنبؤ بالطلب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، بينما قصر قسم خدمة العملاء زمن الاستجابة بنسبة 40% باستخدام بوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ورفع قسم التسويق معدل فتح رسائل البريد الإلكتروني بنسبة 25% من خلال التخصيص المعتمد على الذكاء الاصطناعي.
أبلغ كل قسم بفخر عن هذه النتائج للقيادة، التي قيمت اعتماد الذكاء الاصطناعي على أنه نجاح باهر. لكن على الرغم من هذه الفوائد المنفصلة، ظلت النتائج الإجمالية لرضا العملاء في الشركة ثابتة وزادت حصة الشركات المنافسة السوقية. استخدمت المؤسسة الذكاء الاصطناعي لتحسين مؤشرات الأداء على مستوى الأقسام فقط، بدلاً من خلق نتائج متكاملة عبر الوحدات المختلفة، مثل صافي نقاط الترويج، الذي كان من شأنه الكشف عن المشاكل المتنامية قبل أن تتحول إلى إخفاقات مكلفة.
حل المشكلة: تحفيز التعاون
أغلبية مقاييس الأداء خاصة بالأقسام؛ إذ يسعى قسم المبيعات لزيادة الإيرادات بينما يتتبع قسم الموارد البشرية مستويات المشاركة ويسعى قسم العمليات لتعزيز الكفاءة. إذا أردت تعزيز العمل التعاوني المعتمد على الذكاء الاصطناعي والمتعدد التخصصات، فعليك قياس التعاون ومكافأته. صمم مؤشرات الأداء الرئيسية المشتركة التي تعكس النتائج الجماعية، مثل رضا العملاء الشامل وزمن دورة طرح المنتج والتحسينات في العمليات العابرة للأقسام.
لنأخذ شركة كروب إيدج ريسرتش مثالاً، وهي شركة تجارب ميدانية زراعية أسترالية درسناها. اعتمدت أقسام الشركة من قبل مؤشرات الأداء الرئيسية المنفصلة؛ إذ قيمت الشركة فرق البحث بناءً على دقة التجارب، وقسم المبيعات بناءً على مستويات اكتساب العملاء، وقسم العمليات بناءً على كفاءة التكلفة. أدى ذلك إلى عراقيل؛ إذ وعد قسم المبيعات ببدء التجارب بسرعة بينما واجه قسم العمليات صعوبة في أداء مهامه وشعر أعضاء فرق البحث بأن العمل أسرع مما يجب، ما سبب تراجع رضا العملاء. حددت الشركة مقاييس مشتركة لتشجيع العمل التعاوني المتعدد الأقسام والمعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل درجات رضا العملاء التي تغطي المراحل جميعها من إعداد التجارب إلى إعداد التقارير النهائية، وزمن إكمال المهمة من توقيع العقد إلى التسليم، واتساق جودة البيانات المستخدمة في البحث والعمليات وإعداد التقارير.
يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على توحيد المؤسسة والارتقاء بها. لكن دون بذل جهد مدروس، قد تؤدي هذه التكنولوجيا إلى انعزال أقسام المؤسسة. الانقسام الذي تلاحظه في مؤسستك ليس أثراً جانبياً حتمياً للتكنولوجيا، بل هو نتيجة الخيارات المتعلقة باعتماد الأدوات والحوكمة والثقافة. لا تكتف برقمنة الأقسام المعزولة واعتبار الذكاء الاصطناعي عاملاً يحفز إحداث التحول المؤسسي الحقيقي، بل اتبع عند تطبيقه نهج التفكير المنظومي الذي تريد أن تجسده مؤسستك. في نهاية المطاف، هدفك ليس تبني الذكاء الاصطناعي فحسب، بل استخدامه لبناء مؤسسة أكثر تماسكاً وذكاءً تركز أكثر على غاياتها.