عند سؤال أحد المهندسين عمّا إذا كان مستعداً لمشاركة معرفته وخبرته التي اكتسبها بعد جهد وعناء مع الزملاء الآخرين في الشركة قبل تقاعده، ضحك، وسأل: "لماذا أفعل ذلك؟ أولاً، لم يعد لدي أي التزام تجاه هذه الشركة، لقد عملت فيها مدة 35 عاماً، وأتمنى أن يفتقدوني عندما أرحل"، وأضاف بنبرة ساخرة، "أو تمكنهم إعادة توظيفي براتب مضاعف بصفة مستشار".
يلخص لنا هذا بعض أسباب رفض المتقاعدين مشاركة معرفتهم القائمة على الخبرة والضرورية للعمل، وهو ما نسميه "المعارف العميقة". بحسب التعريف، لا يزال هؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بهذا النوع من المعارف يشكّلون قيمة كبيرة بالنسبة للمؤسسة ويسهمون في نجاحها المستقبلي والحالي. قد تكون تلك المعارف والخبرات تقنية، على غرار مثال المهندس، لكن يمكن أن تكون أيضاً إدارية، مثلما هو الحال عندما يمتلك مدير ذو خبرة مهارات اكتسبها بعد جهد وعناء في تحديد المشكلات وإيجاد الحلول، أو بناء العلاقات القوية والمهمة مع العملاء، أو الفهم المفصّل لكيفية الابتكار.
قد تُفقد هذه المعارف إلى الأبد في حال عدم نقلها من المتقاعدين إلى الجيل القادم. خلال أبحاثنا التي تمحورت حول عملية نقل المعرفة، لاحظنا أن العديد من الشركات قد تعرضت للضرر ولتأثيرات سلبية كبيرة، وحتى تعطيل كامل في بعض الأحيان، بسبب فقدان المعرفة والخبرة. بالتأكيد، قد تصبح بعض المعارف التي يتمتع بها الخبراء قديمة أو غير ذات صلة بحلول موعد تقاعد أصحابها، لكنّ هذا لا ينطبق على المهارات والمعارف والقدرات التي تُشكل أساس العمليات الحيوية، سواء الروتينية أو الابتكارية. لا يمكن أن تتحمل المؤسسات خسارة هذه المعارف العميقة.
بالطبع، يمكن أن يؤدي نقص الوقت أو الموارد إلى عرقلة عملية نقل المعرفة. لكنّ إحدى العقبات التي تحول دون نقل المعارف العميقة إلى الجيل القادم، والتي يُغفل عنها في كثير من الأحيان، هو حرص الخبراء على احتكار المعرفة. تُعدّ الحوافز المالية والأنا الشخصية، والشعور بالسخط أو الإحباط تجاه الشركة من أهمّ الأسباب التي تدفع الأفراد إلى الاحتفاظ بخبراتهم لأنفسهم وعدم مشاركتها مع الآخرين. لكن يمكن أن يتخذ المدراء خطوات فعالة لمعالجة هذه المسائل وتغييرها.
لنبدأ بالحوافز المالية. يلجأ العديد من الشركات إلى إعادة توظيف المتقاعدين لأداء المهام التي اعتادوا أداءها سابقاً لكن بأجر مضاعف يُصرف على شكل دخل استشاري يضاف إلى معاشاتهم التقاعدية. أفاد 42% من المشاركين في الاستطلاع الذي أجريناه بوصفه جزءاً من بحثنا بعنوان "نقل المعرفة الحاسمة: أدوات لإدارة المعارف والخبرات العميقة في شركتك" (Critical Knowledge Transfer: Tools for Managing Your company’s Deep Smarts)، أن عملية إعادة توظيف المتقاعدين تُعد طريقة نموذجية للاحتفاظ بالمعرفة. بمجرد انتهاء المهلة الزمنية التي تحد من إعادة توظيف المتقاعدين، يرتدي المتقاعد شارة تعريف الموظف مجدداً ويتجه نحو الباب الذي اعتاد المرور منه على مدار عقود، دون وجود حافز كبير أو حتى حافز ضعيف لتدريب الموظفين الجدد الذين يحلّون محله ومساعدتهم.
تُعد إعادة توظيف المتقاعدين لإدارة العمليات الحيوية قراراً ذا رؤية ضيقة. تؤدي هذه العملية إلى تكبّد الشركة تكاليف مالية أكبر، بالإضافة إلى أنها لا تضمن بالضرورة نجاح عملية نقل المعرفة والخبرات إلى الموظفين الجدد. في نهاية المطاف، سيغادر هؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بالمهارات والمعارف العميقة العمل نهائياً، ما يؤدي إلى استمرار الفجوة المعرفية ذاتها. ثمة أمثلة سابقة أثبتت نجاحها في القضاء على الدافع المالي للاحتكار. على سبيل المثال، تعيد مراكز الأبحاث العالمية التابعة لشركة جنرال إلكتريك (GE)، توظيف المتقاعدين حصراً تقريباً لتدريب الموظفين المبتدئين ومشاركة خبراتهم معهم، وليس لإعادتهم إلى المناصب التشغيلية. يُعد هذا التغيير حديثاً نسبياً ومثيراً للجدل. لكن كان من الضروري نقل تلك الخبرات القيّمة والمعارف العميقة التي أدت إلى حصول الشركة على آلاف براءات الاختراع التي تُشكّل أساس منتجات جنرال إلكتريك وسمعتها المرموقة، إلى الجيل القادم من العلماء والمهندسين. بالإضافة إلى ذلك، وضعت مراكز الأبحاث العالمية التابعة لشركة جنرال إلكتريك (GEGRC) برنامجاً لنقل المعرفة للموظفين الذين لا يزالون يعملون داخل الشركة لترسيخ عملية تبادل المعرفة.
بالإضافة إلى الحوافز المالية، قد يمتلك الخبراء أسباباً شخصية تدفعهم إلى احتكار المعرفة وعدم مشاركتها. يُنظر إلى العديد من الخبراء على نطاق واسع على أنهم المرجع الموثوق في مجال تخصصهم، وترتبط معرفتهم العميقة ارتباطاً وثيقاً بهويتهم ومكانتهم في المؤسسة. من المنطقي أن يشعر الخبراء بالرضا عندما يلجأ إليهم الزملاء لحل المشكلات وتقديم الحلول، لكنهم يخشون من أن يؤدي نقل خبراتهم التي اكتسبوها بعد جهد وعناء إلى الزملاء المبتدئين إلى تقليل مكانتهم. إذن، لماذا يتنازلون عن ذلك؟
بوصفك مديراً، يجب عليك عدم الانتظار حتى يحتكر الفرد أنواعاً معينة من المعرفة، بل يجب وضع أنظمة لمنع احتكار المعرفة والخبرات قبل بلوغ أي موظف سن التقاعد. في بعض المؤسسات، لا يمكن أن يحصل الموظفون على ترقية حتى يتمكنوا من إثبات نجاحهم في تدريب موظف آخر ليحل محلهم. وبالتالي، لا تعتمد السمعة الشخصية على مهارة الأشخاص في أداء عملهم فحسب، بل على مدى براعتهم في تعليم الزملاء الآخرين كيفية أداء هذا العمل أيضاً. أما في شركات أخرى، مثل شركة نوكور ستيل (Nucor Steel)، فإن التعويضات والمكافآت تعتمد على مستوى أداء الفريق بأكمله. يعزز هذا الاعتماد على أداء الفريق كله ضرورة التعاون بين أفراد الفريق ويفرض على المشغلين ذوي الخبرة نقل معارفهم إلى أعضاء الفريق الآخرين. تفرض استراتيجيات مثل هذه تبادل المعرفة والتفاعل بوصفهما جزءاً من الثقافة؛ في الواقع، يؤدي احتكار المعرفة وعدم مشاركتها إلى عقوبات مضمّنة.
يمكن أن يكون من الصعب إقناع الموظف الذي يشعر بعدم الرضا تجاه الشركة التي سيغادرها بمشاركة معارفه وخبراته مع الزملاء الآخرين. شعر مهندس الطيران المتقاعد في المثال السابق بأن عمله لم يحظَ بالتقدير الذي يستحقه. تعتمد سلامة الطيارين والركاب على مهارات مهندسي الصيانة وتفانيهم، وعلى الرغم من ذلك، فقد كانوا موظفين برتبة وظيفية متدنية. يقول ذلك المهندس: "كنا نشعر بالإهمال وعدم الاهتمام، لم يكن أي مدير على علم بطبيعة عملنا وما نفعله". ربما كانت هذه الملاحظة السلبية تستند إلى تصورات شخصية أكثر من كونها واقعية، لكنها كانت دافعاً قوياً لرفضه مشاركة معارفه العميقة وخبراته القيمة مع الآخرين.
انتبه إلى الموظفين الذين قد يشعرون بالاستياء. يتمتع المدراء الفرديون بقدر كبير من التأثير في مدى شعور الخبراء بتقدير عملهم. يُعد الاعتراف بالعمل الجيد الخطوة الأولى. يوضح الباحثان تيريسا أمابيلي وستيفن كريمر في بحثهما أن الأفعال البسيطة، مثل تقديم تعليقات وملاحظات إيجابية باستمرار والاحتفاء بالإنجازات الصغيرة وإزالة العقبات التي تعترض التقدم، تؤدي إلى مكاسب كبيرة وفورية على مستوى الإنتاجية والإبداع.
يوفر هذا الاهتمام أيضاً فوائد طويلة المدى. في عدد من الشركات التي عملنا معها لنقل المعارف والخبرات العميقة، تحدّث الخبراء عن أهمية رد الجميل وضرورة ترك إرث قيّم للأجيال القادمة؛ إذ كانوا على أتم الاستعداد لمشاركة الخبرات التي تعلموها واكتسبوها على مر السنين. بالطبع، ينبع هذا الاستعداد من شخصية الفرد بالإضافة إلى وجود بيئة مؤسسية داعمة، لكن أظهر العديد من الأبحاث (ومنها البحث الذي أجريناه) أن الأشخاص الذين تلقّوا التوجيه والتدريب هم أكثر قابلية وقدرة على تدريب الآخرين. وبالتالي، تصبح ثقافة التدريب والتوجيه في جوهرها ذاتية الاستدامة.
يلاحظ أحد المدراء الذين عملنا معهم مؤخراً أن القدرة على نقل المعارف والخبرات العميقة من الخبراء إلى الموظفين الجدد ليست مجرد رغبة أو خيار من الجيد توفره، بل هي ضرورة أساسية وملحّة. يُعد احتكار المعرفة وعدم مشاركتها رفاهية لا تستطيع أي مؤسسة تحمل نتائجها.