للشركات العائلية دور مهم في توليد الثروات ضمن شبكة الرأسمالية المتنامية التي تشكلها أهم المؤسسات الاقتصادية، وعلى الرغم من أن هذه الشركات لها إسهامات كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي والتوظيف والمرونة الإقليمية، فصناع السياسات غالباً ما يتجاهلونها، أي أن التشريعات فضفاضة عموماً وتفتقر إلى الأحكام المحددة اللازمة لتعزيز القدرة التنافسية للشركات العائلية.
ليست هذه هي الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ يعمل صناع السياسات على تغيير الاقتصاد من نموذج قائم على الموارد إلى نموذج يركز على المعرفة وريادة الأعمال بهدف تغيير المشهد الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وقد وضعت الدولة الشركات العائلية في المقدمة لقيادة مرحلة النمو الجديدة هذه.
السياق التاريخي. لطالما كانت الشركات العائلية جزءاً لا يتجزأ من التنمية في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ فمنذ نشأة الدولة، استمد كل من الشركات العائلية والحكام المشروعية من الدعم المتبادل، إذا كانت هذه الشركات ركيزة رئيسية في تنفيذ رؤية الحكام للأمة، وقد نشأ هذا الرابط بصورة طبيعية عبر سنوات من التعاون والتنسيق وحس الولاء المشترك، فاكتسبت دولة الإمارات العربية المتحدة بفضله دوراً مركزياً في الاقتصاد العالمي.
التحول الاقتصادي الحالي. ومع ذلك، تطلبت هذه المشروعية الضمنية المتبادلة عقداً اجتماعياً جديداً حين ضربت الأزمة المالية في عام 2008 الوضع الراهن للنظام الرأسمالي، وأثر عدم استقرار أسعار النفط في ميزانية دولة الإمارات وعرّض أنماط التنمية الاقتصادية والاجتماعية السابقة إلى الخطر. زعزعت أزمة عام 2008 الوضع الراهن وكشفت القيود المفروضة على الاقتصاد الريعي، فتوضحت الحاجة إلى إجراء تغيير شامل فيما يخص القدرة التنافسية وريادة الأعمال والتنويع الاستثماري وإنتاج المعرفة والتدويل.
الدعم والمبادرات من أجل صياغة المستقبل، كان على صناع السياسات في دولة الإمارات العربية المتحدة تعزيز بصمتها الرأسمالية الفريدة التي تعد الشركات العائلية فيها واحدة من الركائز الأساسية. ولتحقيق هذه النية، طُرح العديد من المبادرات الكلية والجزئية بهدف تغيير ديناميكيات اقتصاد دولة الإمارات العربية المتحدة على مدى الثلاثين عاماً القادمة، وتتضمن هذه المبادرات:
- المرسوم بقانون اتحادي رقم 37 لعام 2022، الذي وضع إطاراً قانونياً واضحاً لمساعدة الشركات العائلية في دولة الإمارات العربية المتحدة على الازدهار والاستمرار عبر الأجيال. وتشمل بنوده الرئيسية إنشاء سجل الشركات العائلية الموحد، ومبادئ توجيهية لصياغة ميثاق العائلة الذي ينظم العمليات التجارية، ولجنة لجنة فض منازعات الشركات العائلية. كما يوفر القانون آليات لدعم نقل الملكية داخل العائلات ما يضمن بقاء الشركات مستقرة حتى خلال انتقالها من جيل إلى جيل، فهو يسمح للشركات العائلية بإنشاء فئات أسهم مختلفة، ما يتيح تشكيل بنى تنظيمية مرنة لتقاسم الأرباح وحقوق التصويت، كما يشجع الشفافية والحوكمة الرشيدة من خلال اشتراط وضع نظام أساسي تفصيلي للشركة. ويسهل القانون إنشاء مجالس ومكاتب عائلية لإدارة شؤون الأسرة وحوكمة الشركات ما يعزز عمليتي التنظيم وحل النزاعات.
- تأسس مركز دبي للشركات العائلية (DCFB) لمساعدة الشركات العائلية في دبي على الازدهار والنمو، تنفيذاً لرؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ويتعاون المركز مع كل من القطاعين العام والخاص لخلق بيئة داعمة وبذل الجهود في سبيل وضع قوانين مفيدة وبناء تحالفات استراتيجية. وتتمحور أهدافه الرئيسية حول مساعدة الشركات على الانتقال بسلاسة بين الأجيال، وتوفير فرص التعليم وشبكات المعارف وضمان استمرارية الشركات العائلية من خلال الحوكمة الرشيدة والتخطيط للتعاقب وتأكيد دورها الحيوي في الاقتصاد، كما يعدّ مركز دبي للشركات العائلية مركزاً للبحث ودعم السياسات بغية تحفيز التغيير الإيجابي.
- ويساعد مركز دبي للثروات العائلية (DFWC) في مركز دبي المالي العالمي (DIFC) الشركات العائلية والأفراد أصحاب الثروات الكبيرة على تحقيق النجاح الطويل الأمد، فهو يوفر الشهادات والتعليم المخصص وشبكات المعارف الرفيعة المستوى، ويركز على الحوكمة الرشيدة والتخطيط للتعاقب وحل النزاعات، والاستفادة من المزايا الاستراتيجية التي تتمتع بها دبي لدعم الثروات العائلية واستمرارية الشركات.
- يهدف برنامج "ثبات"، الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ مكتوم بن محمد، إلى دعم نمو الشركات العائلية واستدامتها في دولة الإمارات العربية المتحدة. يشجع البرنامج التنويع الاستثماري في قطاعات جديدة واعتماد تكنولوجيات متقدمة والتخطيط الفعال للتعاقب، والهدف هو تحويل 200 شركة عائلية إلى شركات كبرى بحلول عام 2030 ورفع قيمتها السوقية وإيراداتها، ويعزز البرنامج الشراكات بين القطاعين العام والخاص لخلق بيئة داعمة لهذه الشركات.
- دعم المناطق الحرة للشركات والمكاتب العائلية. على سبيل المثال، توفر لائحة القواعد والإجراءات المنظمة لعمل الشركات العائلية في مركز دبي المالي العالمي، الصادرة في أبريل/نيسان عام 2023، إطاراً قانونياً منظَّماً للشركات العائلية يضمن تحسين الإدارة والحوكمة وعملية التخطيط للتعاقب من خلال اشتراط التسجيل في سجل الشركات العائلية والالتزام بمعايير الحوكمة والامتثال لعمليات الاعتماد، إذ يجب أن تستوفي المكاتب العائلية الحد الأدنى من متطلبات صافي الأصول لتقديم المشورة الاستراتيجية والخدمات الاستثمارية. وتتضمن اللائحة أيضاً أحكاماً تتعلق بالاحتفاظ بالسجلات وإنشاء سجلات خاصة، والحلول البديلة لتسوية المنازعات لتعزيز الإدارة والاستمرارية، ومن ثم دعم نجاح الشركات العائلية واستدامتها في مركز دبي المالي العالمي على المدى الطويل.
- يهدف كرسي الشيخ سعود بن خالد بن خالد القاسمي للشركات العائلية برئاسة رودريغو باسكو إلى أن يصبح مركزاً معرفياً رائداً للشركات العائلية، ويركز على 3 مجالات رئيسية: البحث والتدريس ونقل المعرفة. وتشمل أنشطته إجراء أبحاث رائدة حول الشركات العائلية في دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتطوير برامج تعليمية لأعضاء الشركات العائلية وتسهيل نقل المعرفة من خلال ورش العمل والتعاون. يسعى الكرسي جاهداً لدعم ممارسات الشركات العائلية المستدامة وتعزيز إسهاماتها في التنمية الاقتصادية الإقليمية.
التحديات. يمثل الدعم والمبادرات المذكورة أعلاه خطوة مهمة نحو بناء مركز جذاب للشركات العائلية في الشرق الأوسط، لكن مستقبل منظومة الشركات العائلية لا يخلو من التحديات، ففي حين أن منظومة الشركات العائلية التي تقودها الحكومة تحدد إطار عمل هذه الشركات، فديناميكية هذه المنظومة وتطورها يعتمدان أيضاً على عوامل أخرى.
- اعتماد التكنولوجيا. يعيد التطور السريع للتكنولوجيا تشكيل القطاعات، ويخلق أطرافاً رابحة وأخرى خاسرة. ويتمثل التحدي الرئيسي الذي تواجهه الشركات العائلية في دولة الإمارات العربية المتحدة في التحول الرقمي وخلق القيمة ضمان استمرار قدرتها على المنافسة، إذ يعد تبني التحول الرقمي أمراً بالغ الأهمية لاستدامة النمو وتحسين الكفاءة التشغيلية.
- القدرة التنافسية على المستوى العالمي. لكي تتمكن الشركات العائلية من المنافسة على المستوى العالمي يجب أن تعمل على تعزيز الإنتاجية، وهذا ينطوي على تنظيم هياكلها وإدارتها بكفاءة وتطبيق منظور اقتصادي لتخصيص الموارد. تتطلب القدرة التنافسية العالمية التخطيط الاستراتيجي وممارسات الإدارة الفعالة.
- استقطاب المواهب واستبقاؤها جذب أصحاب أفضل المواهب واستبقاؤهم أمر بالغ الأهمية للشركات العائلية؛ إذ يمكن للبنى التنظيمية والقيم الموجهة نحو الأسرة في بعض الأحيان أن تحول دون تقدير الموظفين من خارج العائلة وترقيتهم، لكن إضفاء الطابع المهني على الشركات العائلية من خلال اتباع سياسات واضحة قائمة على الجدارة يُشعر الموظفين الموهوبين بالتقدير ويوضح لهم فرص التقدم الوظيفي المتاحة لهم.
- الاندماج في منظومة ريادة الأعمال. ساهمت منظومة ريادة الأعمال التي تقودها حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة في جعل الدولة مركزاً عالمياً لريادة الأعمال، وعلى الشركات العائلية أن تتفاعل مع هذه المنظومة لمواكبة الاتجاهات الاقتصادية الجديدة ودمج التكنولوجيا ومراقبة تطور المنتجات والخدمات وتحديد نماذج الأعمال المبتكرة.
- الجيل المقبل من أفراد العائلة. يكمن مستقبل الشركات العائلية في أيدي أبناء الجيل المقبل، ولمّا كانوا مالكين وقادة ومدراء وأعضاء مجلس إدارة مسؤولين، فعليهم الحفاظ على وحدة عائلاتهم وتماسكها، وعلى رؤية شركاتهم واستقرارها واستمراريتها، ومن ثم فإن استعدادهم وخبراتهم وقدرتهم على القيادة هي عناصر رئيسية للحفاظ على القدرة التنافسية والدور الاقتصادي الأساسي للشركات العائلية.
تعلّمنا منظومة الشركات العائلية في دولة الإمارات العربية المتحدة درساً مهماً. تعد الشركات العائلية من أهم الجهات الاقتصادية الفاعلة في المشهد الرأسمالي اليوم وتوفر المرونة للاقتصاد، وهذا يؤكد أهمية الدعم الحكومي من خلال الأدوات والوسائل التي تساعد هذه الشركات على تطوير هياكلها ونماذج أعمالها، ومن خلال إنشاء أطر قانونية مرنة تعترف بطبيعتها العائلية. وفي حين تستطيع الحكومة تعزيز بيئة مؤسسية تمكن الشركات العائلية من الازدهار، يجب على العائلات صاحبة الشركات أيضاً أن تتحمل مسؤولية قيادة شركاتها إلى المستوى التالي من التنمية، وينطوي ذلك على التكيف مع المشهد الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي المتغير باستمرار لضمان استمرار قدرة اقتصاد دولة الإمارات العربية المتحدة على المنافسة.