متى يتمكن داوود من هزيمة جالوت في اقتصاديات المنصات الإلكترونية؟ في 25 مارس/آذار انسحبت شركة أوبر العظيمة من جنوب شرق آسيا وباعت أعمالها في العديد من الدول إلى منافستها المحلية شركة غراب (Grab). لقد كان الخبر مفاجئ للعديد من المراقبين؛ حيث أتت شركة غراب، التي دشنت خدماتها عام 2012 بقوام 40 سائقاً في ماليزيا، متأخرة في منافسة خدمات توصيل الركاب بعدما تمكنت شركة أوبر من بسط نفوذها بشكل رائع في الولايات المتحدة. وفي يونيو/حزيران 2018، أي بعد ثلاثة أشهر من البيع، قررت شركة تويوتا ضخ مليار دولار أميركي في شركة غراب، سعياً منها لتوسيع نطاق العروض الأخرى في المنطقة بما في ذلك توصيل الطعام والمدفوعات الإلكترونية، فماذا عن كيفية منافسة الشركات الكبرى بطريقة صحيحة؟ هل سينجح الأمر؟
ومع ذلك لم تكن انتكاسة شركة أوبر في السوق الدولية هي الأولى من نوعها. ففي عام 2016 باعت الشركة أعمالها في الصين إلى شركة ديدي تشاشينغ (Didi Chuxing) بسبب المنافسة الشرسة مع منافِستها المحلية. وقد أفادت التقارير أن شركة أوبر قد أنفقت مليارَي دولار أميركي على مدار عامين في محاولة لهزيمة شركة ديدي. وبعدها بعام اعترفت شركة أوبر بهزيمتها في منطقة أخرى وباعت أعمالها في روسيا إلى شركة ياندكس (Yandex).
إن هذه الحالة تبدو غريبة نوعاً ما. غالباً ما نرى في اقتصاديات الإنترنت أن الرابح يستحوذ على كل شيء. بمعنى آخر، أن إحدى الشركات أو المنصات الإلكترونية تتحكم في قطاع بعينه؛ فشركة جوجل تهيمن على البحث عبر الإنترنت، وفيسبوك تهيمن على شبكاتالتواصلالاجتماعي، وتويتر على التدوين المختصر، ونتفليكس على البث الحي للمواد الترفيهية، ويوتيوب على مشاركة مقاطع الفيديو، وسبوتيفاي (Spotify) على البث الحي للموسيقى. ولكن يبدو أن حالة شركة غْراب ضد أوبر لم تمتثل لقصة الرابح الذي يستحوذ على كل شيء. فكيف ومتى يستطيع منافس محلي صغير التصدي لعملاق عالمي؟ وماذا يمكن أن نتعلم من شركة غراب بشأن مستقبل أعمال المنصات الإلكترونية؟
كيفية منافسة الشركات الكبرى
بالنسبة لأصحاب رأس المال الاستثماري والسوق المالية، لا يوجد نموذج تجاري أكثر جاذبية من المنصات الإلكترونية. فهي في الأساس تعد سوقاً يربط جانب العرض (البضائع والخدمات) بجانب الطلب (الأشخاص الراغبون في شرائها). على سبيل المثال، تمثل شركتا أوبر وغراب حلقة الوصل بين الركاب والسائقين، بينما تصل شركة إير بي إن بي (Airbnb) بين أماكن الضيافة والمسافرين، في حين تربط شركة أمازون بين المتسوقين والبائعين. ولطالما تم تفسير النمو المذهل لهذه الاستثمارات بشكل عام على أنه تأثيرات شبكية، وهو اعتقاد واسع النطاق بين الاقتصاديين والأكاديميين. فهم يرون أن قيمة المنصة الإلكترونية تعتمد بشكل كبير على عدد المستخدمين في كلا الجانبين. فكلما زاد عدد المستخدمين زادت جاذبيتها، ما يدفع المزيد من الأشخاص لاستخدامها. ويُعتقد أنه بمجرد أن تصل المنصة الإلكترونية إلى حجم معين، تصبح مسيطرة بحيث لا يمكن الإطاحة بها.
لكن انتصار شركة غراب على شركة أوبر يوضح أن حجم المنصة لا يعني بالضرورة نجاحها. فما تزال أي منصة إلكترونية بحاجة إلى التوصل لمنتج مناسب للسوق حتى تنجح في المدى البعيد، وما قد ينجح في بلد ما قد يخفق بشدة في بلد آخر، خاصة عندما يكون المنتج الذي يتم بيعه منتجاً مادياً وليس رقمياً. وشركة أوبر مثلها كمثل باقي مقدمي خدمة النقل، فهي لم ولن تستطيع عرض منتج رقمي بحت مكون من وحدات بت الرقمية كما تفعل الشركات الإعلامية مثل نتفليكس ويوتيوب، أو الشركات الموسيقية مثل سبوتيفاي، أو الشركات الدعائية مثل فيسبوك وجوجل. عندما تتطلب استراتيجية المنصة الإلكترونية الدمج بين ما هو رقمي ومادي، فإن الذي يصنع الفرق هو التميز في تقديم الخدمات في العالم المادي. وفي العالم المادي، لا يمكن تقديم المنتج على هيئة تطبيق برمجي مثل شركة أوبر التي لديها نسخة واحدة فقط يتم طرحها بصورة موحدة عبر العالم.
إن هذا الاختلاف دقيق ولكنه هام بسبب معرفة كيفية منافسة الشركات الكبرى حول العالم. ومع تبنّي المزيد من القطاعات للاستراتيجية الرقمية – مثل قطاعات النقل والطيران والرعاية الصحية والطاقة وخلافه – سيجد المدراء أن الفهم العميق للسوق سيظل أهم طرق الدفاع الأكثر فعالية في المنافسة. وإن نجاح هذه القطاعات لم ولن يعتمد على وحدات بت الرقمية فقط. إن جميع قطاعات النقل والطيران والرعاية الصحية والطاقة تتطلب تقديم منتج مادي بخلاف قطاعات الإعلام والموسيقى والدعاية. وما أثبتته شركة غْراب أن هناك قطاعات معينة من التقنية الرقمية تمنح الشركات المحلية ميزة أقوى، أو الشركات التي تتمتع براعة أكبر بخصائص صناعتهم. في الواقع، هذه المعرفة تعد أحد أهم متطلبات الابتكار.
ويرى أنتوني تان، الشريك المؤسس لشركة غراب ورئيسها التنفيذي، أنه يجب فهم الفروق الإقليمية وتقديرها وتعزيزها في المنتج. ففي الفلبين مثلاً، حيث يتحدث السكان ثماني لهجات رئيسية، يستطيع ممثلو عملاء شركة غراب التحدث بهذه اللهجات المحلية عندما يتصل بهم شخص ما. كما يمكن للركاب إرسال رسائل نصية للسائقين من خلال خاصية الدردشة المزودة بترجمة آلية. أوبر لم تبد اهتماماً جاداً بهذه الخصائص التي تعد من عناصر تصميم التطبيق. وبخلاف أوبر التي تجبر السائقين على قبول السداد عن طريق بطاقات الائتمان بوصفها عمليات خالية من المتاعب ، تبنت شركة غْراب سياسة السداد النقدي. ويقول تان: "تفهمنا احتياج سائقي سيارات الأجرة في الحصول على دخل يومي، وكذلك تفهمنا أن الكثير من الناس يستخدمون النقود بالفعل، ونحن نحترم الثقافة المحلية السائدة في الأماكن التي نعمل بها". فقد تكون معاملات بطاقات الائتمان خالية من المتاعب في كاليفورنيا ولكنها غير عملية للعديد من السائقين في الفلبين.
لقد تحقق نجاح شركة غراب بسبب خصائص أخرى أيضاً، ففي سنغافورة مثلاً، تسمح الشركة للمستخدمين بإدخال رموز رقمية لمحطات سيارات الأجرة القريبة بدلاً من العناوين. وفي أماكن أخرى من آسيا، نجد أن انعدام الثقة وسجلات الأمن غير الكافية تُعَوق عمل قطاع سيارات الأجرة، لذا سمحت شركة غراب للركاب بتصفح السجلات الأمنية للسائقين من خلال التطبيق ومشاركة مسارات الرحلة وأرقام لوحة السيارة مع الأصدقاء والعائلة. ويخفي التطبيق أيضاً أرقام الركاب من جانب السائق كتدبير وقائي إضافي، ومرة أخرى، لم تبادر شركة أوبر إلى تطوير هذه الخصائص.
في إندونيسيا يعد ازدحام الطرق أمراً اعتيادياً، ولذلك، قررت شركة غْراب عرض خدمة التوصيل على الدراجات النارية وأطلقت على هذه الخدمة اسم غراب بايك (GrabBike). وبفضل هذه الخدمة تفوقت الشركة على جوجل في فعالية اقتراحاتها لتخطيط المسارات داخل وحول العاصمة جاكرتا؛ حيث يجوب عشرات الآلاف من سائقي الدراجات النارية الطرق الخلفية والشوارع الجانبية لتجنب الازدحام المروري، بينما يقومون بمسح كميات غزيرة من بيانات نظام تحديد المواقع (GPS). وبالرغم من أن هذه التعديلات لا يمكن اعتبارها إنجازاً تقنياً، إلا أنها ساعدت مجتمعة شركة غراب على جذب العملاء المحليين.
من هذا المنظور نجد أن أكبر خطأ ارتكبته شركة أوبر هو عدم تغيير تطبيقها بشكل عام. وبمعنى آخر، فالابتكارات الأولية التي جعلت شركة أوبر مسيطرة هي أيضاً التي تركتها عرضة للخطر. وما أوضحته شركة غْراب بقوة هو أن التأقلم المحلي – الميزة الأبدية للشركات التقليدية – هو أمر ضروري في أعمال المنصات الإلكترونية. وعلى مر التاريخ، نجد أن بعض المنصات الإلكترونية لم تتبنى سياسة التموضع المحلي لأن إغراءات الصعود التدريجي السريع كانت كثيرة ولا يمكن مقاومتها، لكن التأثيرات الشبكية لا تلغي أهمية التخصيص.
أهمية تطوير المنصات الإلكترونية للشركات
فإذا أصبحت عملية الطرح العشوائي في الأسواق عبر المناطق الجغرافية غير قابلة للنمو، فكيف يتسنى للشركات التعجيل بتطوير المنصات الإلكترونية؟
وبالرغم مما قد يبدو أنه أمر غير محتمل، يمكن العثور على نموذج يحتذى به لتطوير المنصات الإلكترونية وتخصيصها في دار نشر يابانية. وهي شركة ريكروت هولدينغز (Recruit Holdings) التي انطلقت في الستينيات بصفتها شركة إعلانات متخصصة في نشر المجلات للباحثين عن وظائف. (واليوم، تخصصت الشركة في خدمات الموارد البشرية والتوظيف، ومن بين ما استحوذت عليه الشركة هو المواقع الإلكترونية الأميركية للتوظيف مثل موقع إنديد (Indeed) وموقع غلاسدور (Glassdoor). وبتحفيز من ثورة الإنترنت في أوائل الألفية الثانية، أضافت الشركة إلى أعمالها قطاعات جديدة مثل العقارات وصناعة فساتين الزفاف والسفر وصالونات التجميل والمطاعم. إلا أن الانتقال إلى النشر الرقمي والبقاء على الإنترنت كان يتسم بإمكانية نمو ضئيلة جداً.
لاحظت الإدارة في ذلك الوقت أن أصحاب الأعمال الذين يُعلنون عن الوظائف في شركة ريكروت غالباً ما يمثلون أعمالاً صغيرة. وعلى الرغم من استقلاليتهم التامة، فقد عانى رواد الأعمال هؤلاء من المهام الإدارية المتعلقة بالبرامج الخلفية. فعلى سبيل المثال، قد يحصل صالون التجميل على مزيد من الحجوزات عن طريق خدمة إعلانات الشركة عبر الإنترنت، ولكنه في أغلب الظن، سيعتمد على الجداول الورقية اليدوية لتجنب تكرار الحجز للعملاء عبر الهاتف.
وفي الأعوام القليلة التالية وبهدف معرفة كيفية منافسة الشركات الكبرى بطريقة صحيحة، قدمت شركة ريكروت عدة ابتكارات للحفاظ على استخدام الشركات لمنصتها الإلكترونية. وفي عام 2012 أطلقت الشركة منصة صالون بورد (Salon Board)، وهي منصة إلكترونية تعتمد على الحوسبة السحابية مخصصة للحجز وإدارة العملاء. حيث نجحت المنصة نجاحاً فورياً بين صالونات التجميل، كما تم تزويدها بخاصية الرد الآلي الاستثنائية التي خففت من الأعباء الإدارية. وبعد عام أعلنت عن خدمة آير ريجي (AirREGI)، وهي إحدى نقاط البيع لتسجيل المدفوعات التي تعمل بالهواتف الذكية والجداول، والتي تم دمجها مع نظام إدارة البيانات المعتمد على الحوسبة السحابية. وفي عام 2014 كشفت الشركة عن تطبيق آير ويت (AirWAIT)، وهو تطبيق يبسط عملية الانتظار عن طريق السماح للعملاء بالاصطفاف بشكل افتراضي. وفي عام 2015 أطلقت تطبيق آير بايمنت (AirPAYMENT) الذي يقضي على مشاكل الأعمال الصغيرة الخاصة بعمليات السداد وإدارة النقود.
وكما أخبرني يوشيهيرو كيتامورا، رئيس شركة ريكروت: "إن السؤال الرئيسي الذي نطرحه دائماً هو "لماذا تختارنا؟ هل تتوفر لدينا الجودة التي ستمنحنا الهيمنة؟"، وأضاف قائلاً: "إذا لم يمنحنا ذلك الهيمنة، فسوف يتكفل تطبيق تابع لشركة جوجل أو برنامج مساعد لشركة فيسبوك بالقضاء علينا. لذلك، عند تقييم فرص الأعمال يجب أن نسأل أنفسنا: هل يمكننا فعلاً أن ننجزها بشكل أفضل من أي شخص آخر؟".
ولهذا، تعرض شركة ريكروت هولدينجز استراتيجية بديلة لتطوير المنصة الإلكترونية ترتبط بعمق السوق المنتقاة أكثر من الانتشار الجغرافي. وقد اتبعت شركة وي تشات (WeChat) الصينية هذه الاستراتيجية بشكل واضح؛ حيث كانت مجرد تطبيق منفرد لتبادل الرسائل ثم أصبحت منصة إلكترونية للهواتف لا غنى عنها لسداد المدفوعات وحجز مواعيد الأطباء وتقديم تقارير الشرطة واستدعاء سيارات الأجرة والوصول للخدمات المصرفية وعقد المؤتمرات عبر الفيديو وممارسة الألعاب وغير ذلك الكثير. ويعد تطبيق وي تشات الآن تطبيقاً يشمل كلاً من خدمات فيسبوك وتويتر وواتساب وآبل باي (Apple Pay) وإلكترونيك آرتس (Electronic Arts) مجتمعة في منصة واحدة.
وبالمثل أتقنت شركة أمازون هذه الممارسة في الولايات المتحدة؛ حيث بدأت ببيع الكتب والأقراص المدمجة وأقراص الفيديو الرقمية. بعدها توالت المزيد من المنتجات، مثل تطبيق كندل (Kindle)، والبث الحي لمقاطع الفيديو، وشركة دليل الصوتيات الخاصة بها أوديبول (Audible). وعندما أسست أمازون شركة أليكسا (Alexa) لتصبح مساعدها الرقمي، قامت بتوظيفها لتكون بوابة المستهلكين للدخول إلى كافة خدمات أمازون الأخرى.
لقد بدأت كل من شركتَي وي تشات وأمازون بتقديم عروض أساسية ولكنهما تفرعا بالتدريج إلى مجالات أخرى اعتماداً على علاقاتهما المبدئية مع عملائهما في أكبر أسواقهما المحلية. وتوجد علامات مبكرة تدل على أن أوبر أيضاً تمهد الطريق نحو هذه الاستراتيجية، وذلك بتأكيدها المتزايد على خدمة أوبر إيتس (Uber Eats)، وهي خدمة لتوصيل الطعام في الأسواق الدولية التي تعمل بها.
وفي نهاية الحديث عن كيفية منافسة الشركات الكبرى بطريقة صحيحة، ونظراً لتنبي العالم للتقنية الرقمية في مجالات النقل والطيران والرعاية الصحية والطاقة، فقد أصبح اقتحام الأسواق العالمية عن طريق التغيير البسيط في أحد الخوارزميات أمراً بعيد المنال. كان ذلك ممكناً لفيسبوك وجوجل ويوتيوب وتويتر فقط بسبب طبيعة أعمالهم، حيث تعد وحدات البت الرقمية هي كل ما يقدموه. ولكن بالنسبة إلى المنصات الإلكترونية التي تتضمن أي عروض مادية، فإن المستقبل يبدو تقليدياً أكثر من الماضي.
اقرأ أيضاً: