فرضت التجارة الإلكترونية على مدار السنوات العشر الماضية ضغوطاً مالية كبيرة على متاجر البيع بالتجزئة الكبرى ما أدى إلى تسريح العمال، وإغلاق المتاجر، وإعادة النظر في بنية المراكز التجارية، وحتى الإفلاس. ومع ضيق الأفق بالنسبة لتجار التجزئة، يستعد عالم الإنترنت لفعل الشيء نفسه مع شركات المنتجات الاستهلاكية ذات العلامات التجارية.
يكمن أحد أسباب هذا الأمر في أنّ تجار التجزئة على الإنترنت، إضافة إلى توفير الراحة للعملاء باستمرار وعند الطلب، فهم يعرفون عن عملائهم أكثر بكثير من التجار الذين يبيعون خارج الإنترنت. في الواقع، أتقن تجار التجزئة على الإنترنت فن التواصل المباشر مع عملائهم، ما يسمح لهم بدوره بجمع كم هائل من البيانات عن العملاء. ويستطيع تجار التجزئة على الإنترنت، باستخدام أدوات مثل الذكاء الاصطناعي، أن ينشئوا تجربة مستخدم مشخصنة أكثر، ويرفعوا من مستوى رضا العملاء، ويعززوا الروابط بهم، ويزيدوا من ولائهم؛ وكل هذا يعجز تجار التجزئة التقليديون عن منافسته.
وفي حالة شركات السلع الاستهلاكية، يستطيع الذكاء الاصطناعي نفسه تقديم توصيات بمنتج لا يحمل علامات تجارية (white-labeled product) ويهمل ذلك الذي يحمل علامة تجارية، ما يضع ضغطاً أكبر على شركات المنتجات الاستهلاكية ذات العلامات تجارية. لقد أدركت سوق البورصة هذا الأمر بالفعل، فقد انخفضت قيمة القطاع بنسبة 13% منذ بداية العام (مقابل ارتفاع مؤشر شركة ستاندرد آند بورز (S&P) بنسبة 2%). ولتوضيح هذه النقطة أكثر، نذكر ما حصل مع شركة بروكتر آند غامبل التي نشرت تقريراً عن أرباحها المتعثرة، وعُزي ذلك جزئياً إلى انخفاض المبيعات وممارسة الضغط المالي من قبل تجار البيع بالتجزئة الكبار أنفسهم. وفي حين يبدو أنّ ارتفاع التكاليف يساهم في تقليص الأرباح، فإنّ الحصة السوقية المتنامية للبيع بالتجزئة على الإنترنت والتي تتبنى نماذج رقمية أكثر تطوراً للتفاعل مع العملاء لا تزال تشكل تهديداً على شركات السلع الاستهلاكية الأساسية التي لم تعرف كيف تتعامل مع الأمر بفعالية.
تُعتبر خدمة أمازون برايم (Amazon Prime) حالياً المعيار الذهبي للتسويق المباشر للعملاء وعلى نطاق واسع، وذلك بفضل الابتكارات في مجال تعلّم الآلة والالتزام الدائم بالخدمة. وبالتزامن مع ذلك، يتوجه المساعد الرقمي الشخصي من أمازون المعروف باسم "أليكسا" (Alexa) لأن يصبح حكماً بشأن الاختيار بين العلامات التجارية، مع توقع إجراء أكثر من نصف عمليات البحث على الإنترنت باستخدام الصوت خلال السنوات الخمس المقبلة (وفقاً لسيباستيان شيزبانياك، المدير السابق في أمازون، والذي يرأس حالياً قسم التجارة الإلكترونية لدى شركة نستله Nestlé). وإذا اعتبرنا المساعد الشخصي "أليكسا" قناة أخرى للتواصل المباشر مع العملاء، فهو لا يسهل تجربة التسوق وحسب بل يعمل أيضاً كوسيلة أخرى لجمع البيانات وإنشاء حلقة لا متناهية لتبادل التعليقات والآراء المتعلقة بخدمة العملاء، وتقديم توصيات أفضل من ذي قبل، وإجراء عمليات شراء عند الطلب.
يُنظر إلى عملاء أمازون على أنهم يجرون عمليات الشراء بناء على أسعار السلع التي غالباً ما يقارنون بينها، وأصبح تجار التجزئة على الإنترنت يوفرون حالياً مثل هذا التفاعل مع العملاء، وهو ما يُعدّ صعباً للغاية على التجار التقليديين وليس سهلاً عليهم حتى محاولة مضاهاة التجربة المتوفرة دائماً والمشخصنة التي تقدمها أمازون، وحتى محاكاة الاستخدام الحكيم لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لإضفاء حيوية على هذه التجربة. ولن يكون مفاجئاً إذا عرفنا أنّ شركة ستاندارد آند بورز قد اقتطعت 200 مليون دولار من ميزانية التسويق الرقمي في هذا العام، عندما اتضح لها أنّ الإعلانات لم تلق صدى لدى المستهلكين، وذلك لأن معدل مشاهدة الإعلانات على الهاتف الذكي التي تظهر على منصات مثل فيسبوك، لم يتخط ففي الواقع مدة 1.7 ثوان.
يُقال إنّ التسويق الرقمي يمكنك من الظهور أمام العميل في الوقت الفعلي ويوفر معدلات أفضل لتحويل المستخدمين إلى عملاء، وهو ما لا تقدمه أية وكالة أو علامة تجارية. ولكن شركة أمازون أتقنت هذا الأمر، وابتكرت نموذجاً جديداً للتسويق الرقمي، وهو: العلاقة المباشرة والفردية مع العميل، التي تدعمها البيانات المجمعة، وتحسنها تكنولوجيا تعلم الآلة، وتغذيها أشكال أخرى من الذكاء الاصطناعي.
كيف يمكن لتاجر تجزئة من خارج الإنترنت، وهو في هذه الحالة شركة لبيع السلع المعبأة، أن يلحق بالسباق؟ هذا ممكن في الواقع، ولكن مسيرة الوصول إليه شاقة.
ينبغي أن يكون أول قرار للشركات التي تسعى إلى محاكاة أمازون برايم هو إنشاء تواصل مباشر ودائم وعند الطلب مع العملاء وباعتماد واجهة تحادثية. لطالما تمتعت أمازون بذلك بفضل وجودها على الإنترنت (مثل أوبر وليفت Lyft ونتفليكس)، ولكن العالم خارج الإنترنت يحتاج إلى الحضور على الإنترنت من أجل إنشاء أعمال تركز على العميل وترتكز إلى البيانات وتقدم الخدمات في الوقت الفعلي.
إنّ الأدوات التي تسمح بفعل ذلك موجودة حالياً، وهي تعزز التواصل المباشر الذي تريده العلامات التجارية من خلال الرسائل والمحادثة بالاتجاهين عبر الذكاء الاصطناعي. نذكر هنا بايب ستريم (Pypestream) التي تقدم حلاً للتفاعل مع العملاء، وهو يسمح بالتواصل المباشر والمستمر مع المستهلكين (من خلال منصة مبنية لكي يتمكن عملاؤك وموظفوك من التفاعل معك)، ويقدّم أيضاً تجربة محادثة معززة بالذكاء الاصطناعي. ونشير أيضاً إلى جرافي أناليتكس (Gravy Analytics) التي تستخدم البيانات وتعززها لتوفير معلومات فعلية ترتكز إلى الموقع الجغرافي، وذلك باستخدام بيانات حضور المستهلك المؤكد إلى الأمكنة والفعاليات في الولايات المتحدة. (توضيح: أنا مستثمر في كلتا هاتين الشركتين). كما أنّ هناك أدوات ذكاء اصطناعي أخرى متقدمة يوفرها كل من "واتسون" (Watson) التابعة لشركة آي بي إم، وجوجل، ومايكروسوفت.
تتمثل الخطوة الثانية في الاستخدام الملائم لحث العملاء على التفاعل مع العلامة التجارية بواسطة هذه الأدوات. ومن الأمثلة على بناء علاقة قوية مع العميل: أتمتة الطلبات الروتينية (مثل: هل تريد طلب المزيد من هذه المناشف؟)، وبرنامج ولاء جديد يكافئ العملاء على استخدام منصتك بطريقة مفيدة (اعتماد المحادثة بالاتجاهين لمعرفة ما اشتراه العميل فوراً واقتراح عرض آخر عليه)، وتسهيل المهام المعقدة (مثل ملء طلب تأمين باستخدام واجهة تحادثية). وتشمل الأمثلة الأخرى دفع الفاتورة، أو تغيير كلمة المرور، أو اختيار مقاعد لعرض أوبرا، أو تغيير حجز لرحلة طيران.
تقوم اللعبة على جمع أكبر قدر ممكن من البيانات ذات الصلة عن العملاء المستهدفين، مع الحرص على الخصوصية والثقة في المقام الأول. وضع قانون الاتحاد الأوروبي الجديد "قانون حماية البيانات العامة" (GDPR) هذه المسألة على رأس أولويات المسوقين، وجعل أهمية الامتثال إلزامية. في حين تأتي بعض البيانات من معرفة المسوقين المتنامية بالأنماط الاستهلاكية لعملائهم، فثمة مصدر بيانات كبير وجديد لم يكن متاحاً من قبل في العالم خارج الإنترنت. على سبيل المثال، يمكن حالياً وخارج الإنترنت جمع بيانات عن سلوك العملاء لمئات ملايين من الهواتف النقالة، تشمل المواقع الجغرافية والفعاليات. وثمة خدمات تجمع البيانات القائمة على الموقع الجغرافي يمكن دمجها مع البيانات التي تمتلكها العلامات التجارية.
وأخيراً، يمكن تطبيق تكنولوجيا تعلم الآلة المتقدمة والشبيهة بالذكاء الاصطناعي، لإكمال مسيرة الوصول إلى تفاعل أكبر للعملاء والحصول على رؤى أعمق عنهم، وهو المجال الذي تتصدره أمازون برايم اليوم.
هذه دعوة لكي يتحرك الرؤساء التنفيذيون لشركات السلع الاستهلاكية الأساسية، والذين لم يتحضروا جيداً – مثلهم مثل متاجر التجزئة الكبرى – لمنافسة أمازون برايم وغيرها من تقنيات المساعد الشخصي الرقمي ومحركات تفاعل العملاء التي تطبقها، مثل: "أليكسا". ولكن هذا لا يعني نهاية العالم بالنسبة للعلامات التجارية للسلع الاستهلاكية: فقد أصدر "مكتب الإحصاء الأميركي" تقريراً جاء فيه أنّ 80% من مبيعات تجارة التجزئة لا تزال تحصل خارج الإنترنت. وهناك أدوات موجودة تسمح لهم بالتحرك بسرعة من أجل تطوير علاقاهم المباشرة والمستدامة مع المستهلكين من أجل تعزيز ولاء العملاء المستمر. ولكن إذا لم تتحرك هذه العلامات التجارية قريباً، ستكون في خطر أن تصبح الموجة التالية من الشركات خارج الإنترنت التي تفقد صلتها بالواقع الحالي.