هل يمكن وصف إيلون ماسك ببطل ذي عيوب محددة أم شرير ذي شخصية معقدة؟ كَتَب مؤلِّف السيرة الذاتية لإيلون ماسك، والتر آيزكسون: "مثلما يعلمنا شكسبير؛ يمتلك الأبطال جميعهم عيوباً، بعضها مأساوي وبعضها مقدورٌ عليه، أما أولئك الذين ننعتهم بالأشرار، فغالباً ما يكونون شخصيات معقدة". فما الذي رآه آيزكسون يا تُرى في أغنى رجل في العالم؟ حسناً، خلال عامين كاملين، ظلّ آيزكسون يتتبع ماسك من مكان إلى آخر، ويحضر الاجتماعات، ويجري عشرات المقابلات والمحادثات مع عائلته وأصدقائه وشركائه، ويقرأ رسائله البريدية ونصوص أُخرى، فكانت النتيجة 688 صفحة يكشف فيها المؤلف عن خبايا ماسك وطفولته الصعبة ودوافعه الغريبة والكثير عن طموحه وإنجازاته المذهلة وإخفاقاته الهائلة. ودعونا نعترف أننا سواء أحببنا إيلون ماسك أم بغضناه، فهو رجل مثير للاهتمام بشدة! لذلك، ألقِ نظرة على حياة هذا الرئيس التنفيذي غير التقليدي وعقله، وتعرف إلى أبرز ما كشفه كتاب سيرته الذاتية.
أبرز ما كشفه كتاب السيرة الذاتية عن إيلون ماسك
يبدأ الكتاب باقتباس من المؤسس المشارك لشركة آبل، الراحل ستيف جوبز مفاده: "الأشخاص الذين يتمتعون بجنون كافٍ للاعتقاد بأنهم قادرون على تغيير العالم، هم مَن يغيرونه". في الواقع، لقد نجح ماسك في تحويل اهتمام العالم نحو إنتاج السيارات الكهربائية بعد النجاح المبهر الذي حققته شركة تسلا منذ تولى قيادتها عام 2008؛ حيث بلغت القيمة السوقية لتسلا في شهر أيلول عام 2023 مقدار 777.24 مليار دولار؛ أي ما يزيد على قيم منافسيها الخمسة مجتمعةً؛ شركة تويوتا موتورز (255 مليار دولار)، ودايلمر (85.9 مليار دولار)، وفولكس فاجن (66.6 مليار دولار)، وفورد موتورز (49.74 مليار دولار)، وجنرال موتورز (44.82 مليار دولار). بالإضافة إلى ذلك، أسس ماسك شركة المركبات الفضائية المبتكرة سبيس إكس التي باتت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تستأجر خدماتها لإرسال رواد الفضاء إلى المدار، واشترى موقع تويتر المشهور الذي يمثل قوة هائلة في السياسة والثقافة الأمريكية، وبات يحلم ويعمل على خطط هائلة لإرسال البشر إلى كواكب أخرى و"إنقاذهم" قبل فوات الأوان. أما وراء الكواليس، وفقاً للكتاب، فثمة شخصية معقدة ومضطربة، تعاني تقلبات مزاجية حادة وسلوكاً مدمر للذات، وتعيش الكثير من الأحداث الدرامية في الحياة اليومية، وقد بدأ كل شيء في جنوب إفريقيا.
أب مسيء وطفولة مريرة وحاضر مليء بالتقلبات المزاجية
يقول آيزكسون: "ثمة أشخاص محددون يتبؤون منزلة الشيطان في رأس ماسك؛ يستفزونه ويجعلونه عدوانياً ويثيرون فيه الغضب البارد، وعلى رأس القائمة، يتربّع والده"؛ إذ وعلى الرغم من أن ماسك يمتلك عائلة داعمة وسط الاضطرابات المتكررة التي تعصف بأعماله ومصالحه التجارية بين الحين والآخر، فإن علاقته مع والده "إيرول" ما تزال تشكل صدمة له. وقد روى أحد الأصدقاء أن المرة الوحيدة التي رأى فيها "يديّ إيلون ترتجفان" كانت عندما وافق على مقابلة والده عام 2016 بعد جفاء طويل. وُلد ماسك في جنوب إفريقيا وعاش مع والده حتى بلغ الـ 17 من العمر، كابد خلالها ما وصفه بالاستهزاء والإساءة اللفظية المنتظمة؛ إذ كان إيرول شخصاً مسيئاً عاطفياً وجسدياً، يوبِّخ أطفاله لساعات طوال، واصفاً إياهم بعديمي القيمة ومثيري الشفقة، ومطلقاً الكثير من التعليقات اللاذعة و"الشريرة"، دون أن يسمح لهم بالمغادرة، وفقاً لأقوال شقيقة ماسك. لا يتوقف الأمر على والد قاسٍ، بل كثيراً ما تعرض إيلون للتنمر عندما كان طفلاً. وفي إحدى المرات، ضرب المتنمرون رأس ماسك بأرضية المدرسة الخرسانية وداسوا عليه، ما أدى إلى إصابته بجروح عديدة تطلبت العديد من العمليات الجراحية الترميمية، فما كان من والده إلا أن انحاز إلى صفّ المعتدين موبّخاً ابنه. يقول ماسك: "لقد صرخ في وجهي ووصفني بالأحمق وأخبرني أنني عديم القيمة". وقد اعترف إيرول في مقابلة مع آيزكسون إنه كان "يشجع أبناءه على الصلابة الجسدية والعاطفية". في الواقع، وعلى الرغم من كل شيء، يرى المؤلف أن الندوب العاطفية التي أحدثها والده فيه جعلته "رجلاً وطفلاً في آن واحد، قوياً لكنه سريع التأثر بالنقد، يتمتع بقدرة هائلة على تحمُّل المخاطر وإحساس ملحميّ بالمهمة، لكنه توّاق للدراما وقد يعتريه هوس قاس ومدمر في بعض الأحيان". وربما جعلته تلك الصدمات ينفر من الشعور بالرضا، ولا يعرف كيف يتذوق طعم النجاح، ولا يعرف التراجع أبداً، وسببت أيضاً معاناته من تقلبات مزاجية حادة، إذ كتب آيزكسون: "لا يوجد إيلون ماسك واحد؛ بل لديه العديد من الشخصيات، ويمكنك مشاهدته يتحوّل من شخص أرعن ومضحك جداً إلى شخص في غاية التركيز والجدية، كما يستيقظ جانبه المظلم فجأة"، فيصبح قاسياً وظالماً على نحو كبير.
ما الذي يثير قلق ماسك؟
غرّد ماسك على تويتر سابقاً في عام 2022 قائلاً: "يمثّل الانهيار السكاني الناتج عن انخفاض عدد المواليد خطراً أكبر على الحضارة البشرية من خطر الاحتباس الحراري". ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي عبّر فيها ماسك عن قلقه إزاء تناقص عدد السكان، أما سبب القلق فلا يقل غرابة عنه؛ إذ صرّح في إحدى المحادثات المباشرة مع آيزكسون أن الذكاء البشري معرض لخطر التقهقر أمام الذكاء الرقمي الذي سيتغلب عليه، وأشار إلى أن "مقدار الذكاء البشري قد بلغ الحد الأقصى لأن الناس لم تعد تنجب عدداً كافياً من الأطفال، في حين يزداد الذكاء الحاسوبي باضطراد كبير. وفي مرحلة ما، سوف تتضاءل القوة العقلية البيولوجية أمام القوة العقلية الرقمية". وعلى ما يبدو، فإن ماسك حمل واجب زيادة عدد أطفال البشرية على عاتقه الشخصي؛ إذ أنجب 11 طفلاً من ثلاثة نساء مختلفات. وقد أعلنت المديرة التنفيذية في شركة نيورالينك المملوكة لماسك، شيفون زيليس، موافقتها على إنجاب الأطفال من ماسك بعد الاستماع إلى حججه حول ضرورة أن ينجب الأشخاص الأذكياء أطفالاً أكثر، فقررت المشاركة في هذا "الواجب الاجتماعي" وأنجبت توأماً عبر التلقيح الاصطناعي في أحد المختبرات. بالإضافة إلى ذلك، فإن ماسك قلق من الذكاء الاصطناعي الذي يعتبره تهديداً وجودياً محتملاً؛ إذ يقول إن الوعي البشري يتعرض للتهديد من احتمالية وجود أنظمة ذكاء اصطناعي فائقة الذكاء لا يمكن السيطرة عليها. ويتساءل "ما الذي يمكن فعله لجعل الذكاء الاصطناعي آمناً؟"، و"ما الإجراءات التي يمكننا اتخاذها لتقليل خطر الذكاء الاصطناعي وضمان بقاء الوعي البشري؟".
الدوافع الغريبة وراء شراء تويتر
قصة شراء تويتر مقابل 44 مليار دولار وتسريح 80% من الموظفين ليست غريبة ولا جديدة على أحد، أما سبب الشراء، فربما يكون مفاجئاً بعض الشيء؛ إذ صوّر الكتاب قرار ماسك بشراء تويتر بكونه قراراً متهوراً ومدفوعاً بـ"شياطينه النفسية" أكثر مما هو مدفوع بالمنطق. كتب آيزكسون: "لقد اعتبرها شركة تكنولوجيا، في حين أنها ليست سوى وسيلة إعلامية تعتمد على المشاعر والعلاقات الإنسانية". ويعتقد آيزكسون أن ماسك أراد شراء تويتر لأنه تعرض للتنمر عندما كان طالباً في المدرسة، فقرر الآن "امتلاك الملعب". بالإضافة إلى ذلك، كانت حياة ماسك تسير بسلاسة شديدة في ذلك الوقت، فرغِب في الدخول في أزمة جديدة مدفوعاً بحبه للدراما، فاتخذ قرار شراء الشركة مباشرة، بدلاً من مجرد الانضمام إلى مجلس إدارتها، وكان في مزاج هوسيّ في ذلك الحين. ولاحقاً عبّر ماسك عن أسفه لهذه الخطوة في عدة مناسبات، وفقاً للكتاب؛ إذ قال في أحد الاجتماعات مع فريق التصميم من شركة تسلا معلقاً على عملية الاستحواذ على تويتر: "لا أعرف لماذا فعلت ذلك!".
كيف يرى المستقبل والتقنيات التي يحاول تطويرها؟
تحدث ماسك مرات عديدة عن إصابته بمتلازمة أسبرجر الذي جعلته "سيئاً في التقاط الاشارات الاجتماعية"، ومفتقراً إلى التعاطف مثلما يشهد العديد من الأشخاص المقربين منه. ومع ذلك، وبينما يكافح للتواصل مع البشر الفعليين من حوله، تراه يرسم خططاً عظيمة لإنقاذ البشرية؛ حيث يكرر ماسك بهوس شديد على مسامع موظفيه في سبيس إكس عبارته التالية: "الصاروخ القابل لإعادة الاستخدام بالكامل هو الفرق بين كوننا حضارة على كوكب واحد وحضارة متعددة الكواكب". يمكن القول إن الدافع وراء كل قرار يتخذه في سبيس إكس هو تصميمه الهائل على إيصال أبناء الأرض إلى المريخ، ولا يتوقف الأمر على شركته الفضائية تلك؛ بل يحثّ الموظفين في شركاته الستة الأُخرى، بما فيها X المعروفة سابقاً بتويتر، على خفض التكاليف والوفاء بالمواعيد النهائية الصارمة؛ من أجل ضخ الموارد في مشروع استعمار الفضاء قبل "أن تنهار الحضارة"، سواء حلّت الكارثة نتيجة التغير المناخي أو انخفاض معدلات المواليد أو من الذكاء الصناعي. لقد عبّر ماسك مراراً وتكراراً عن اهتمامه بإخراج الجنس البشري من هذا الكوكب، وإصلاح المناخ عبر اختراع بطاريات أفضل، وإيجاد طرائق لدمج الدماغ البشري مع أجهزة الحواسيب، ودرء خطر الذكاء الاصطناعي على الوجود الإنساني. وإليك كيف عزز رؤيته للعالم عبر أهم شركاته وفقاً لسيرته الذاتية:
- تسلا: تسخِّر شركة تسلا ملايين الساعات من البيانات التي تلتقطها كاميرات سياراتها للتوجيه التلقائي والحركة البشرية؛ حيث ستعمل هذه البيانات على تدريب الروبوتات البشرية من أمثال أوبتيموس، الروبوت الذي تطوره تسلا وعرضته سابقاً. وقال ماسك إن وجود الملايين من الروبوتات المماثلة سيضمن مستقبلاً وفيراً خالياً من الفقر، ما يشكل تحولاً أساسياً للحضارة البشرية.
- سبيس إكس: لقد شرع ماسك منذ سن الـ 30 في تحقيق طموحه المتمثل في تحويل البشرية إلى حضارة متعددة الكواكب، من خلال تأسيس شركة سبيس إكس، وقد يكون هذا الطموح وفقاً لما ورد على لسان أحد الأصدقاء في الكتاب مدفوعاً بهوسه الطفولي بالخيال العلمي، أو خوفه من الذكاء الاصطناعي، أو من "أن تصبح الآلات فائقة الذكاء وتتفوق علينا نحن البشر وتقرر التخلص منا".
- نيورالينك: يهدف ماسك إلى ربط الذكاء البشري البيولوجي بإطار اصطناعي مدمج في الجمجمة، لمساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة العصبية، والحماية من الذكاء الاصطناعي الخبيث، من خلال الدمج العميق للعالم البشري مع التكنولوجيا الرقمية في العقود القادمة.
- إكس إي آي (X.AI): ربما تعرف أن ماسك هو أحد مؤسسي شركة أوبن إي آي (Open AI) التي أطلقت تشات جي بي تي، حيث انضم إلى سام ألتمان وزملائه بعد اختلاف في وجهات النظر مع لاري بيج من جوجل حول تطور الذكاء الصناعي. ولاحقاً، انفصل انفصالاً حاداً عن ألتمان، ما قاده إلى الإعلان عن تأسيس شركته الخاصة بالذكاء الاصطناعي باسم إكس إي آي، التي تعد من نواحي عديدة تتويجاً لأعمال حياته المختلفة. يصف آيزكسون ماسك بالمهووس تقريباً عندما يشرح نظريته الكبرى التي ستوحد ما بين التكنولوجيا والتقدم البشري؛ حيث يقول أنه وفي خضم التهديد الهائل الذي يمثله الذكاء الاصطناعي على البشرية وانخفاض معدلات المواليد، فإن شركة إكس إي آس، وباستخدام كل الموارد التي تدعمها، "ستضمن بقاء الوعي البشري، من خلال بناء ذكاء عام اصطناعي يريد الحفاظ على الإنسانية لأننا جزء مثير للاهتمام من الكون".
ختاماً، عندما سُئل آيزكسون عن إرث ماسك وفيما إذا كان البشر سيتحدثون عنه بعد مئة عام، أجاب: "لقد أدخلنا إلى عصر السيارات الكهربائية في الوقت الذي استسلمت فيه جنرال موتورز وفورد، واستطاع إرسال رواد الفضاء إلى المدار في الوقت الذي كانت فيه ناسا تسحب المكوكات الفضائية من الخدمة. لذلك، وبعد مئة عام، سنظل في حيرة من أمرنا حيال مدى تعقيد شخصيته؛ ولكننا سنقول: لقد وضع إصبعه على سطح التاريخ، فخرجت التموجات". بكلمات أُخرى، ستستمر مساهمات ماسك وابتكاراته في التأثير على الحضارة حتى بعد مرور قرن على عصره، تماماً مثلما يحدث عندما تلمس سطح الماء، فتنتشر الأمواج مبتعدة عن مكان بصمتك.