تقرير خاص

إدارة المستقبل: ملامح الحكومات المرنة

3 دقائق
المرونة الحكومية

شكلت فترة تفشي جائحة كوفيد-19 والأشهر الحرجة التي تلتها حتى اليوم، مرحلة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، بما شهدته من تحديات عالمية واضطرابات في سلاسل الإمداد وتحديات جيوسياسية وأزمات طاقة، إلا أن هذه التحديات لم تلقِ بظلالها على مجتمع دولة الإمارات الذي ظل أفراده قادرين على الوصول إلى المنتجات المحلية والعالمية بمجرد زيارة أي متجر في الدولة، فالسلع متوفرة، والحياة مستمرة بانسيابية معتادة بالنسبة للملايين من المواطنين والمقيمين.

هذه الإمكانات لم تكن متوفرة للكثير من المجتمعات حول العالم، التي عانى أفرادها في محاولة الحصول على أبسط احتياجاتهم في ظل ظروف عصيبة لم يشهدها العالم منذ عقود، وبدا أن توفر السلع واستمرار الحياة الطبيعية شكّل الفارق الملموس بين إدارة ناجحة للاقتصاد والموارد والكفاءات البشرية، وبين منهجية إدارة عجزت عن مواكبة الأحداث والتصدي لتحدياتها، وهذا الفارق انعكس في أداء الدول والحكومات في مؤشرات التنافسية العالمية، وفي تحقيق التعافي السريع من آثار الجائحة، ومستويات السعادة المجتمعية وجودة الحياة التي تصدرت فيها دولة الإمارات دول العالم، في نتيجة مباشرة لعقود من بناء وتصميم منظومة عمل حكومي ترتكز على التطوير المستمر وسرعة الاستجابة للمتغيرات واستشراف المستقبل، أو ما يمكن وصفه ببساطة بـ "المرونة الحكومية".

يؤكد علم الإدارة أن المرونة الحكومية تتأثر دائماً بمفارقة تقوم على التعارض بين مفهوم المرونة وما تعنيه من "تحول سريع"، مع مفهوم "الثبات" أو الجمود الذي يطبع العمل الحكومي، لكن التجارب أثبتت عكس هذه الرؤية كلياً، فالحكومة المرنة تعتمد على أسس قوية ثابتة تمكن الجهات والفرق الحكومية من العمل بشكل مرن وسريع، وتتضمن هذه الأسس الكفاءات المتكيفة والمتنوعة وهيكلية تتسم بالتجديد وسرعة الاستجابة، وغيرها من الآليات والنظم المبتكرة والفعالة في القطاع الحكومي.

عملية تعزيز وتحسين قدرة الدول والحكومات على التكيف السريع مع المتطلبات والمتغيرات المتسارعة ليست أمراً سهلاً، إذ ليس هناك نموذج ثابت أو موحد للحكومات المرنة، فالأمر يختلف تبعاً لخصوصية التجارب وتميزها بين دولة وأخرى، لكن هناك ركائز رئيسة تميّز الحكومات المرنة عن غيرها وهي مزيج من مواهب قيادية وكفاءات بشرية وثقافة مؤسسية واعتماد علمي على البراهين والأدلة في صنع القرارات ورسم السياسات، وتتلخص هذه الركائز بالنقاط التالية:

  • رؤية القيادة: وهي ركيزة أساسية ومنطلق أول لا يمكن الاستغناء عنه، فقدرة القيادات على تخيل المستقبل وتصميمه وتنفيذه، ووضع التصورات والسيناريوهات لتجاوز التحديات التي تعترض العمل، والتي تجسدت في العديد من التجارب لكثير من الدول، وفي مقدمتها دولة الإمارات، شكلت سر النجاح الأول والأهم.
  • التمكين: قد يكون التمكين الركيزة التالية في الأهمية، فالقيادي الملهم الذي يسعى إلى إنجاز التحول نحو المرونة في العمل الحكومي، هو بالضرورة القيادي القادر على بناء وإعادة بناء المهارات والكفاءات لتتناسب مع نمط العمل المتغير، ما يتطلب أن يتمتع بفهم واضح لدور المرونة في العمل الحكومي ودعم فرق العمل في تطوير صيغ العمل المشترك والنظر إلى مهامهم ومسؤولياتهم من وجهة نظر مختلفة.
  • منظومة عمل مؤسسي تدعم المرونة: تتبنى الجهات الحكومية التي تتميز بالمرونة الأنظمة والسياسات ونماذج العمل والتقنيات المتقدمة والجديدة، وتركز على بناء المنصات والبرامج التي تهيئ بيئة عمل محفزة تساعد على الابتكار والتجريب والتطوير المستمر للطرائق والممارسات.
  • التواصل والتعلم من تجارب الدول الأخرى: أظهرت جائحة "كوفيد – 19" أن لا دولة تمتلك جميع الأجوبة، وأن قدرة الدول على بناء شبكات تواصل وتفاعل مع الدول الأخرى هي من أهم معايير النجاح.

تحقيق هذه الركائز، يتطلب قيادة حكيمة ومرنة، تدفع منظومة العمل نحو إيجاد الحلول للتحديات الصعبة بعقلية مختلفة ورؤية تتبنى تحقيق التقدم بطريقة استباقية تقوم على استشراف المستقبل.

وتشكل تجربة دولة الإمارات مثالاً ريادياً في وضع هذه الركائز موضع التنفيذ، فبتوجيهات قيادتها الرشيدة، رسّخت الدولة بيئة عمل حكومية متفردة وحديثة تقوم على عناصر المرونة والاستباقية، وتوفير بيئة داعمة تحتضن المواهب وتحفز الابتكار وتدعم الكفاءات، وتستثمر في الإنسان وتتبنى نهج التعلم المستمر وبناء القدرات على أسس مستدامة.

وعلى مدار سنوات مضت، طوّرت دولة الإمارات منهجيتها الخاصة في استشراف المستقبل، بما يضمن تعزيز جهود الجهات الحكومية في رفع مستوى الجاهزية والمرونة والاستعداد للمستقبل، عبر إطلاق استراتيجيات ومبادرات تهدف إلى تعزيز التنمية الشاملة.

ولعل أبرز ما يعكس المستوى المتقدم لتبني وتطبيق مبادئ مرونة العمل الحكومي على مستوى دولة الإمارات، مبادرات وطنية كبرى أهمها "مشاريع الخمسين" الضخمة التي ترسم معالم خطة العقود الخمسة المقبلة، وتهدف إلى تعزيز الكفاءات وجذب المواهب واستقطاب الاستثمارات وبناء شراكات اقتصادية عالمية وغيرها. إضافة إلى استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي التي تشكل المرحلة التالية للحكومة الذكية، والتي تعتمد عليها الخدمات، والقطاعات، والبنية التحتية المستقبلية في الدولة بما ينسجم وتطلعات مئوية الإمارات 2071، الساعية إلى أن تكون دولة الإمارات الأفضل بالعالم في كافة المجالات.

إلى جانب ذلك، أطلقت الدولة "نحن الإمارات 2031" التي تمثل رؤية وطنية ومرحلة جديدة تستكمل من خلالها الإمارات مسيرة التنمية للعقد المقبل، وتتشارك في تحقيقها كافة جهات الدولة. كما تم إطلاق استراتيجية دبي للميتافيرس التي تهدف إلى تشجيع الابتكار في مجال الميتافيرس وتعزيز مساهمته في المجالات الاقتصادية ودعم الابتكار في هذا القطاع الحيوي.

ترافق ذلك، مع تطوير الدولة وتبنيها بيئة جديدة على صعيد التشريعات مكّنتها من مواكبة التغيرات العالمية المتسارعة. فجاء إطلاق مختبر التشريعات ليجمع كل من المسؤولين عن الأطر التشريعية في الحكومة والمبتكرين، ويساعد على تطوير تشريعات في قطاعات المستقبل والتقنيات الناشئة، بما في ذلك التنقل والصحة والذكاء الاصطناعي، وغيرها، بما يدعم ترسيخ بيئة تشريعية مرنة تدعم توظيف التكنولوجيا الناشئة بطرائق تسهم في تطوير الأعمال وتقلل من المخاطر، وتساعد على الابتكار والإبداع وتضمن التوازن بين سرعة التنظيم وسرعة الابتكار.

هذه النظرة إلى تجربة دولة الإمارات في العمل الحكومي المرن تجسيد فعلي للمبدأ الثالث من مبادئ الخمسين، الذي يؤكد أن: "هدف السياسة هو خدمة الاقتصاد. وهدف الاقتصاد هو توفير أفضل حياة لشعب الاتحاد"، فجميع الجهود المبذولة لتعزيز المرونة الحكومية على الصعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي هدفها واحد، توفير أفضل مستويات جودة الحياة لمجتمع دولة الإمارات.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي