يقول مايكل لويس في كتابه الأكثر مبيعاً لعام 2004، "كرة المال" (Moneyball)، أنّ "التخطيط السيئ يقود إلى نتائج سلبية، أي أنّك عندما تمنع فئة كاملة من الأفراد من العمل بسبب مظهرهم، فمن المحتمل ألّا تجد الشخص المناسب لهذا العمل". فما علاقة هذا الاقتباس بموضوع التوظيف في قطاع الصحة؟
لقد زعزع بطل لويس، بيلي بين، المدير العام لفريق "أوكلاند أثليتكس" (Oakland A)، عملية توظيف لاعبي البيسبول المعتادة، فهو يدرك أنّ مكتشفي المواهب يسمحون للانحيازات اللاإرادية بتعمية أبصارهم عن اللاعبين الذين يحتاج الفريق إليهم بالفعل بغية تحقيق النتائج المرجوة. ويسعى نتيجة لذلك إلى الحصول على لاعبين مثل تشاد برادفورد الذي تعاقد معه على الرغم من مظهره "المضحك" ودون أن يردعه التقليد السائد لدى مكتشفي المواهب. وبالفعل حقق برادفور مع فريق "أوكلاند أثليتكس" 20 فوزاً متتالياً.
إلا أننا تأخرنا عن ثورة كثورة لويس في "كرة المال" في مجال الرعاية الصحية. إذ بعد الانتقال إلى نظام الدفع القائم على القيمة أصبح من الجليّ أن نظامنا بحاجة إلى أداء عمله بشكل أفضل بهدف توليد النتائج التي تهمّ المرضى، مثل الحرص على توفير تجارب الرعاية الصحية الإيجابية، وتحسين الحالة الصحية وجودة الحياة. إلا أنّ ممارسات التوظيف الحالية للرعاية الصحية قد تقف عائقاً أمام جهودنا الرامية إلى تحقيق هذا الهدف، فقد لا يكون لدينا تحيّز ضد أشخاص يرمون الكرة بشكل مضحك، لكن لدينا تحيزات قوية تجاه العرق والمستوى الاجتماعي والتحصيل العلمي. فنحن نستمدّ تقاليدنا من عصر كانت فيه الرعاية الطبية مقدّمة بشكل رئيس من قبل الأطبّاء والممرضات ممن تلقّوا تدريبات متميّزة اعتمدت في نجاحها على الخبرة بشكل عام. إلا أنّ هذا النموذج قديم، وكما نعرف اليوم فالعوامل الاجتماعية والسلوكية والعلائقية هي محرّكات بالغة الأهمية للصحة، مثل الدعم الاجتماعي ونمط الحياة والنظام الغذائي وحتى علاقة المريض بفريق الرعاية الصحية الخاص به. وبالتالي، فإنّ القوة الجديدة العاملة في مجال الرعاية الصحية ليست بحاجة إلى امتلاك المعرفة الطبية الحيوية فحسب، وإنما إلى من يتّسم بالتعاطف على كافة المستويات، وإلى من هم قادرون على دعم المرضى بشكل كلّي.
لكن لا ينصبّ تركيز المؤسسات على توظيف أفراد متخصصين في مجال الرعاية الصحية ممن يتمتّعون بالصفات اللازمة للنجاح في هذا الواقع الجديد، بل تركّز معظم المؤسسات، باستثناء قلةّ منها، على تدريب موظّفيها على قدرات تتراوح من العمل ضمن فريق إلى مراعاة الحساسيات الثقافية، وتأمل أن يكون لهذه البرامج التدريبية جدوى. إنّ فشل قطاع الرعاية الصحية في الاستثمار في التوظيف للحصول على مجموعة متكاملة من السمات المطلوبة قد أسفر عن توظيف قوة عاملة غير مناسبة لأداء العمل على أكمل وجه، وهو ما ساهم في ارتفاع معدلات دوران الموظفين، حيث بلغ 20.6% وفقاً لاستبانة حديثة.
اقرأ أيضاً: كيف تعيق البيروقراطية تحسين خدمات الرعاية الصحية؟
ونقترح في هذه المقالة طريقة للعثور على مجموعة متنوعة من الموظفين الذين تحتاج المؤسسات إليهم وتوظيفهم والاحتفاظ بهم بهدف التوصل إلى النتائج التي يتوقعها المرضى ومؤسسات خدمات الرعاية الصحية اليوم. وتستند توصياتنا إلى مراجعة للأدبيات الأكاديمية والمقابلات مع خبراء الموارد البشرية والقادة التنظيميين داخل مجال الرعاية الصحية وخارجه. ونستمدّ بعض أفكارنا أيضاً من تجاربنا التي أجريناها في جامعة بنسلفانيا ضمن برنامج "إمباكت" (IMPaCt)، حيث طورنا نهجاً مبتكراً لتوظيف مختصي الصحة في المجتمع المحلي، وهم شريحة سريعة التنامي من القوة العاملة في مجال الرعاية الصحية. وأسفر نهجنا عن معدّل دوران موظفين بلغ 1.7% مقارنة بالمعيار المتعارف عليه في هذا القطاع والذي يبلغ 50-77% سنوياً. وحقق الأشخاص الذين وظفناهم نتائج مهمّة بالفعل، على سبيل المثال، أثبتت التجارب المنضبطة باستخدام عينات عشوائية أنّ مختصي الصحة في المجتمع المحلي قد ساعدوا في تحسين مستوى الصحة و جودتها مع تخفيض أيام الإقامة في المستشفى بنسبة 65%.
التوظيف في قطاع الصحة
فيما يلي أربع خطوات يمكن لمؤسسات الرعاية الصحية اتباعها لبناء قوة عاملة متنوعة تولّد نتائج قيّمة.
تأكّد من مطابقة عملية التوظيف مع المشاكل التي تحتاج إلى حلّها
تتمثّل الخطوة الأولى في فهم ما يجب على القوة العاملة فعله لتحقيق النتائج المرجوة. ما الذي يساعد الأفراد في أن يصبحوا أصحاء وأن يحافظوا على صحتهم، خاصة أولئك الذين هم الأكثر عرضة لنتائج صحيّة سيّئة؟ عندما بدأنا تصميم برنامج "إمباكت" لمختصي الصحة في المجتمع المحلي، طلبنا من آلاف المرضى الأكثر عرضة للخطر الإجابة عن هذه الأسئلة وهم على أسرّتهم وعلى الشرفات وفي الملاجئ. ثمّ حللنا هذه المقابلات واستخلصنا قائمة بالعوائق التي يواجهها المرضى، وحاولنا أنّ نفكّر بحلّ ممكن لكلٍّ من هذه العوائق. وأدرجنا السمات التي يحتاج إليها العامل من أجل تنفيذ هذه الحلول، واستعرضنا وجهات نظر مرضانا صفاً تلو الآخر، وأنشأنا مخطط بيانات مكون من ثلاث صفحات. واحتلّت صفات مثل عضوية المجتمع والإيثار رأس القائمة الخاصة بالموظفين الجدد. والأمر المثير للاستغراب أن القائمة لم تتضمن سمات مثل الشهادات الجامعية ودرجات الدراسات العليا أو حتى التدريب السريري السابق، فلم تكن بعض هذه المؤهلات ذات صلة كبيرة في حالة مختصي الصحة في المجتمع المحلي، في حين كان من الممكن أن تقود مؤهلات أخرى إلى نتائج عكسيّة نظراً لاحتمال أن تُنشئ جفاءً اجتماعياً مع المرضى. وبالتالي، يمكن لمختصي الصحة في المجتمع المحلي الذين يملكون تجارب حقيقية في الحياة ولا يملكون شهادات جامعية أن يساعدوا بعض المرضى أكثر من زملائهم المعتمدين وأصحاب الشهادات العليا في بعض الأحيان.
وضع مخطط بيانات
تُوضح عيّنات مخطط البيانات كيفية ربط العوائق بالحلول وسمات الموظفين اللازمة للتعامل مع هذه العوائق.
المصدر: إيلينا بتلر وشريا كانجوفي
توضح عمليتنا مبدأً أساسياً يتمثّل في أهمية فهم المشاكل التي تحاول حلّها وتوظيف العمال الذين يمكنهم حلها، مع ترك التحيزات الشخصية والناتجة عن القطاع جانباً. وتصف باتي ماكورد في مجلة هارفارد بزنس ريفيو كيفية استخدامها هذا المبدأ لتنمية شبكة "نتفليكس" بصفتها رئيسة المواهب. وبدأ بالفعل قادة الرعاية الصحيّة، بما في ذلك مؤسسة "روبرت وود جونسون" (Robert Wood Johnson) وأكاديمية الصحة، باستخدام تصاميم مرتكزة على العنصر البشري لإحداث تحوّل في مجال بحوث الرعاية الصحية، بما في ذلك إعادة تخيّل القوة العاملة.
اعرف أين تبحث
بمجرد أن تُدرك مؤسسة ما نوع الأشخاص الذين تحتاج إليهم تواجه مشكلة العثور عليهم. وتقوم مؤسسات خدمات الرعاية الصحية التقليدية عادة بالإعلان عن فرص العمل على مواقع التوظيف الخاصة بها، والتي غالباً ما تكون معقدة، أو على مواقع التوظيف أو التسويق الأخرى. وتكمن المشكلة في هذا النهج في أنه يعزز التحيزات المنهجية القائمة على أساس طبقي عن طريق إنشاء عوائق تمنع قبول الأشخاص ذوي الذكاء الرقمي المحدود أو الاطلاع المحدود على التكنولوجيا الرقمية، وهو ما يحدّ من أعداد المتقدمين.
اقرأ أيضاً: كيف تستخدم المستشفيات نتائج استبيان المرضى لتحسين الرعاية الصحية؟
وكبديل عن ممارسات التوظيف التي تعتمد على مبدأ "موحّد للجميع" يجب علينا توجيه الجهود نحو إيجاد السمات التي تحتاج المؤسسة إليها بالفعل. على سبيل المثال، عندما أدركت مؤسسة "إنتربراس" (Enterprise)، وهي أكبر شركة لتأجير السيارات في العالم أنها بحاجة إلى توظيف أشخاص يتمتّعون بروح الفريق، بحثت عنهم في فرق فعلية، فوظفت الطلاب الرياضيين حديثي التخرج. وبالمثل، حالما حدّدنا صفة الإيثار كصفة أساسية لمختصي الصحة في المجتمع المحلي، بحثنا عمّن يتّسمون بحب تقديم المساعدة بشكل فطري من خلال تعميم أوصاف الوظائف عبر الجمعيات الشبابية والمطاعم الشعبية وجمعيات لجان الأحياء. وأسفر هذا النهج عن عدد أكبر بكثير من المتقدمين الذين كانوا ملائمين للنجاح في هذا المنصب.
استخدم أدوات التقييم الصحيحة
عادة ما تعتبر مؤسسات الرعاية الصحيّة السير الذاتية والشهادات العلمية وشهادات التدريب كوثائق قيّمة لتقييم المرشحين. وفي حين أنّ هذه الوثائق تعكس بالفعل تدريب مقدّم الطلب ومهاراته السريرية، إلا أنها تلقي القليل من الضوء على سماته الشخصية أو مواقفه. وبعد إقصاء المتقدّمين الذين لا يمتلكون الشهادات المطلوبة قانوناً، يجب على مزودي الخدمات النظر في اختبارات متعددة الوسائط لتقييم سمات الشخصية أو القدرات التي يمكنها التنبؤ بالأداء الوظيفي، مع الأخذ في الاعتبار الآثار القانونية والأخلاقية والتجارية للاختبارات النفسية في التوظيف.
وقد بدأت هذه الأنواع من التقييمات متعددة الوسائط في الظهور في مجال التوظيف في الرعاية الصحية بالفعل. على سبيل المثال، تميّز الشركات المبتكرة مثل شركة "أيورا هيلث" (Iora Health) بشكل واضح بين تقييم السمات وبين المهارات، وهي حريصة عند توظيف موظفي الاستقبال في العيادات الطبية على تقييم المتقدمين من حيث تمتّعهم بالإيجابية وحبّ المساعدة الفطري، وهي سمات لا تعكسها السير الذاتية، وغالباً ما يكون من الصعب غرس هذه السمات عبر البرامج التدريبية. وتوضّح روشيكا فيرناندوبول مؤسسة شركة "لورا" قائلة،"نوظّف على أساس السلوك في حين نقدّم التدريب على المهارات".
كما نعقد في برنامج "إمباكت" جلسات "تعارف" نستقي منها معلومات تمكّننا من تحديد المستمعين الجيدين الذي يمنحون أقرانهم شعوراً بالراحة وننزع الأولوية عن المرشحين الذين يحتكرون المحادثة. ويعرض مركز بوسطن الطبي على المتقدّمين إلى وظائف المدراء ومختصي الصحة في المجتمع المحلي فيلماً وثائقياً حول مواقع الحقن الخاضعة للإشراف لمتعاطي الأفيون، يليه نقاش جماعي لقياس مدى تقبّل المرشّحين العمل مع المرضى الذين يعانون من مشكلة تعاطي المخدرات. كما بدأت بعض كليات الطب في تقييم سمات مثل التقمص العاطفي لضمّها إلى معايير عملية القبول الشاملة. تُمكن أدوات التقييم الصحيحة المؤسسات من تقييم السمات التي تتجاوز الشهادات والخبرات الفنية، والتي تعتبر محركات حقيقية للنتائج، وتشمل هذا السمات التوجه الخدميّ والتقمص العاطفي والانفتاح على الأفراد من مختلف الثقافات وأساليب الحياة والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية.
اعتبر وظيفة الموارد البشرية وظيفة قيادة
تنتقد باتي ماكورد، الرئيسة التنفيذية السابقة للمواهب في نتفليكس القادة المؤسسين الذين يعتبرون إدارة الموارد البشرية وظيفة هامشية. ونعتقد أيضاً أن التوظيف الأكثر فاعلية ينطوي على مشاركة القادة في جميع الجوانب العملية للتوظيف لامتلاكهم إحساساً فريداً باحتياجات المؤسسة والثقافات التي يطمحون إلى تبنيها.
على سبيل المثال، قابل جيف بيزوس، مؤسس موقع "أمازون"، كل مرشّح بنفسه في الأيام الأولى للشركة. ولا يزال الرئيس التنفيذي للعمليات في مؤسستنا يشارك في معظم مقابلات توظيف مختصي الصحة في المجتمع المحلي. وعلى الرغم من أنّ هذا النهج كثير الاستهلاك للموارد، وجدنا أنه الطريقة الأفضل لبناء الفريق الذي يقدّم النتائج التي يتوقع المرضى الحصول عليها، إذ إنه يحسن نسب استبقاء الموظفين ويُحقق الاستقرار المؤسسي بشكل كبير، وهو ما يفيد الموظفين والمرضى والمؤسسة ككل.
ومع تحوّل الرعاية الصحية من عمل يسيطر عليه الطبيب والكفاءة الطبية إلى ممارسة قائمة على الفرق وعلى تلبية احتياجات المرضى والمجتمعات بأكملها، ينبغي على استراتيجيات التوظيف أن تتبدّل أيضاً. لقد حدد فريق "أوكلاند أثليتكس" المواهب التي تجاهلها الجميع بشكل منهجي من خلال تجنّب التحيزات في عملية التوظيف والتركيز على المهارات التي تؤثر على الفوز. وبالمثل، يمكن لقادة الرعاية الصحية توظيف أشخاص ذوي أداء عالٍ من خلال إعادة تصميم ممارسات التوظيف المستخدمة تجنّباً لضياع مواهبهم عبر اتباع أساليب التوظيف والتقييم التقليدية. إنّ زعزعة ممارسات التوظيف وسياسات الموارد البشرية ليس بالأمر السهل، إلّا أنّه سيسفر عن تحقيق مؤسسات الرعاية الصحية والمرضى أهدافهم بسبب اتقان عملية التوظيف في قطاع الصحة.
اقرأ أيضاً: