الهوس بالأرقام يمكن أن يُفشل استراتيجيتكم.
أصبح ربط مقاييس الأداء بالاستراتيجية من الممارسات الفضلى المقبولة خلال العقود القليلة الماضية.
الاستراتيجية هي بحكم التعريف مجردة، لكن المقاييس الرقمية هي ما يعطي الاستراتيجية شكلها ويسمح لعقولنا باستيعابها بسهولة أكبر. فمن خلال المقاييس، يمكن ترجمة استراتيجية شركة فورد موتور القديمة "الجودة هي اهتمامنا الأول" إلى معايير أداء وفق نظرية الحيود السداسي (6 سيغما). كما يمكن ربط استراتيجية آبل "فكر بطريقة مختلفة" واستراتيجية سامسونج "اصنع المستقبل" بحجم المبيعات من المنتجات الجديدة. فإذا ما كانت الاستراتيجية هي مخطط بناء مؤسسة معيّنة، فإن المقاييس هي بمثابة الإسمنت والخشب والسقالة والحجارة.
لكن هناك فخاً مخفياً في هذه العمارة المؤسسية: فالشركة يمكن لها ببساطة أن يغيب نظرها عن استراتيجيتها وأن تركز عوضاً عن ذلك وبكل صرامة على المقاييس التي يفترض بها أن تمثل هذه الاستراتيجية. من أحد الأمثلة المتطرفة على هذه المشكلة قضية بنك "ويلز فارغو" (Wells Fargo) الذي افتتح موظفوه 3.5 مليون حساب وديعة وحساب بطاقات ائتمانية دون موافقة الزبائن في مسعى منهم لتطبيق استراتيجيته "للبيع المتقاطع" (cross-selling) التي باتت الآن سيئة السمعة.
كانت التكاليف التي ترتّبت على هذه النكبة هائلة، ولم يتمكن البنك بعد من الخروج من تبعات هذا الخراب المالي. فإضافة إلى دفع غرامة أولية تبلغ 185 مليون دولار، وتعويضات الرسوم المعادة إلى الزبائن بقيمة 6.1 مليون دولار، والتسوية النهائية للدعوى القضائية الجماعية التي شملت عطلاً وضرراً يعود بأثر رجعي حتى العام 2002 بقيمة 142 مليون دولار، واجه ويلز فارغو متاعب في اجتذاب زبائن جدد من الأفراد. ففي أبريل/ نيسان 2017، أعلن أن طلبات البطاقات الائتمانية للربع الأول تراجعت بنسبة 42% على أساس سنوي، في حين انخفض عدد حسابات الشيكات بنسبة 35%. وفي غضون ذلك، كشف النقاب عن المزيد من حالات التعديلات والرسوم غير المصرّح بها، والممارسات غير المناسبة في قروض السيارات، وغيرها من المخالفات طوال 2017. وفي الربع الرابع، اضطر البنك إلى تخصيص 3.25 مليار دولار كاستحقاقات لمصاريف التقاضي المستقبلية. وفي فبراير/ شباط 2018، منع الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) ويلز فارغو من تنمية أصوله عن المستوى الحالي حتى يكون قد تمكّن من تعزيز الحوكمة وإدارة المخاطر لديه. وقد تبعت ذلك في أبريل/ نيسان غرامة مشتركة بقيمة مليار دولار فرضها كل من مكتب الحماية المالية للمستهلك ومكتب المراقب المالي للعملة، ما قاد ويلز فارغو إلى زيادة استحقاقات التقاضي بواقع 800 مليون دولار. ورغم أن البيانات الصحفية الصادرة عن مكتب الحماية المالية للمستهلك ومكتب المراقب المالي للعملة ربطت الإجراء الذي اتخذته هاتان الوكالتان برسوم الرهون العقارية ومشاكل قروض السيارات فقط، إلا أن السياق السياسي يدل على أن شدة العقوبة تنبع جزئياً من الغضب العارم لدى عامة الناس من الفضيحة الأصلية للحسابات المزيفة. وفي مواجهة هذه المصاعب المزمنة التي تعرّض لها البنك، اضطر الرئيس التنفيذي الذي تولى القيادة بعد الفضيحة تيموثي سلون إلى الاستقالة في مارس/ آذار 2019.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
غالباً ما تتعرض الشركات التي تعمل بجد على استراتيجياتها وترصد تقدمها المحرز بتأنٍ كبير إلى متاعب مذهلة.
لماذا تحصل
هناك نزعة سلوكية لدى الموظفين – تعرف باسم الإبدال – للخلط بين الشيء المقاس والمقياس المستعمل.
كيف السبيل إلى حلها
إذا ما أردتم التقليل من خطر الإبدال، تأكدوا أن الموظفين الذين ينفذون استراتيجيتكم يؤدون دوراً في صياغتها، وخففوا من قوة الربط بين الحوافز ومقاييس الاستراتيجية، واستعملوا مقاييس متعددة لتقويم الأداء.
هل كانت هذه النتائج الكارثية هي بمثابة عواقب طبيعية لامتلاك استراتيجية سيئة؟ يشير التدقيق الوثيق إلى أن ويلز فارغو لم تكن لديه استراتيجية "بيع متقاطع" على الإطلاق، بل كان لديه مقياس للبيع المتقاطع. في تقرير أرباح الربع الثالث لعام 2016، تطرّق البنك إلى الجهد المبذول من أجل "تحقيق أفضل تواؤم بين (مقياس) البيع المتقاطع لدينا و(تركيزنا الاستراتيجي) على علاقاتنا الطويلة الأجل مع زبائن البنك من الأفراد" (التأكيد على "مقياس" و"تركيزنا الاستراتيجي" من عندنا). بعبارة أخرى، كانت لدى ويلز فارغو استراتيجية – ولا تزال لديه هكذا استراتيجية – لبناء علاقات طويلة الأجل، وكانت الإدارة تنوي تتبّع مدى تحقيق هذه الاستراتيجية لذلك الهدف من خلال قياس البيع المتقاطع. لكن المفارقة المؤلمة جداً هي أن التركيز على المقياس هو ما تسبب بخسارة البنك للعديد من علاقاته القيّمة الطويلة الأجل.
في كل يوم من الأيام، وفي أنحاء كل مؤسسة تقريباً، تخضع الاستراتيجية للاختطاف من الأرقام، تماماً كما حصل في ويلز فارغو. وقد تبيّن أن المَيْل الذهني إلى استبدال الاستراتيجية بالمقاييس– وهي عملية تدعى الإبدال – هو ممارسة شائعة على نطاق واسع.
"المَيلُ الذهني إلى استبدال الاستراتيجية بالمقاييس هو ممارسة شائعة على نطاق واسع. وهي يمكن أن تدمّر قيمة الشركة".
الوقوع في فخ الإبدال
بطبيعة الحال، نعلم جميعاً أن المقاييس غير مثالية بطبيعتها المتأصلة على مستوى من المستويات. وفي عالم الأعمال، يكون القصد من وراء المقاييس عادة هو التقاط تفاصيل هدف ضمني غير ملموس – وهي تفشل في معظم الأحوال تقريباً في إنجاز هذه المهمة بالفاعلية التي نرغبها. فنظام إدارة الأداء لديكم مليء بالمقاييس التي تعتبر بمثابة مؤشرات ناقصة على الشيء الذي يهمكم.
فيما يلي أحد السيناريوهات الشائعة: تختار شركة ما "إسعاد الزبائن" كهدف استراتيجي وتقرر تتبّع التقدم المحرز في تحقيقه باستعمال علامات استطلاعات آراء الزبائن. استطلاعات الرأي هذه تقول للمدراء شيئاً ما عن مدى نجاح الشركة في إسعاد الزبائن، لكن الموظفين يبدؤون بالاعتقاد نوعاً ما أن الاستراتيجية تعني الحصول على أقصى العلامات في استطلاعات الرأي، عوضاً عن توفير تجربة زبائن عظيمة.
من السهل أن نرى كيف يمكن لذلك أن يتحول بسرعة إلى مشكلة، لأن هناك طرقاً كثيرة لتحسين العلامات ولكن في الوقت ذاته إثارة غضب الزبائن. فعلى سبيل المثال، ماذا حصل في آخر مرة شُجعتَ فيها على منح تجربتك علامة (10) في استطلاع رأي للرضا "لأن أي شيء يقل عن 10 هو بمثابة فشل؟" ربما يكون ذلك الطلب قد حوّل الرأي التقويمي السلبي إلى عدم استجابة أو إلى علامة مرتفعة بشكل مصطنع، وربما كان الضغط منفّراً. وماذا أيضاً عن جميع تلك النوافذ التي تقفز في وجوهكم على شاشة الكمبيوتر، والرسائل الإلكترونية التي تردكم على سبيل المتابعة، والاتصالات الآلية الواردة التي تعرض عليكم استطلاعات رأي تفضلون تجاهلها؟ عادة ما تتسبب هذه التكتيكات في تخفيض مدى رضا الزبائن عن الشركة، لكن الإبدال يمكن أن يقود المسؤولين عن إسعاد الزبون إلى استعمالها على الرغم من الاستراتيجية.
يكون الإبدال مؤذياً خصوصاً عندما يكون التواؤم بين المقياس والاستراتيجية ضعيفاً. وكلما كان عدم التطابق بينهما أكبر، كان الضرر الواقع أعظم. فعندما يُقاس نجاح مدير إنتاج ما في تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في "صنع منتجات عالية الجودة" باستعمال معايير جودة دقيقة للغاية (مثل "قطر الاسطوانة الفولاذية يجب أن يكون 10 مم، زائداً أو ناقصاً 0.0001 مم") فإن الإبدال قد لا يكون مشكلة. ولكن إذا كان النجاح في تحقيق الهدف يقاس بعدد الزبائن الذين يرجعون القطع المشتراة، فإن مدير الإنتاج قد يجد طرقاً مبتكرة لتجنب عمليات الإرجاع. على سبيل المثال، قد يتواصل مباشرة مع أقسام المشتريات التي تتعامل مع الزبائن ويعرض عليها التعامل شخصياً مع أي مشاكل تخص المنتج بحيث تسجل المرتجعات على أنها تعديلات على المنتج وليس مرتجعات. أو قد يكون المدير مستعداً للمقامرة قليلاً من خلال تجاوز معايير الجودة المقبولة (أو حتى الآمنة) مدركاً أنه على الرغم من أن الجودة الأدنى ستزيد من احتمال الإرجاع، إلا أنها قد لا تتسبب به. وعلاوة على ما سبق، وعند استعمال مقياس وحيد على نطاق أوسع – مثل قياس أداء عدة مدراء يشرفون على مكونات مختلفة لمنتج معقد – فإن الإبدال يمكن أن يترك أثراً أكبر بكثير، وأن يتسبب بضرر أكبر.
ماذا حصل في ويلز فارغو
قُدّمت عدة تفسيرات للأخطاء التي حصلت في ويلز فارغو. تنحي أكثر نظرية مقبولة على نطاق واسع باللائمة على نظام الحوافز في الشركة. وبحسب ما قاله ريتشارد كوردراي، المدير السابق لمكتب الحماية المالية للمستهلك، الذي كان معنياً بفرض غرامة مبكرة على البنك: "ما حصل هنا... هو أن ويلز فارغو بنى برنامجاً للحوافز والتعويضات أتاح لموظفيه اتباع ممارسات مبيعات خادعة".
ولكن هل كانت طريقة منح التعويضات هي السبب الجذري لمشاكل ويلز فارغو – أم أنها كانت ببساطة عَرَضَاً لعلة مخادعة أكثر؟ مُذنِبٌ آخر ربما كان يقف وراء ذلك هو مزيج من حصص مبيعات تتصف بالتحديات وضغوط دائمة لا تكل ولا تمل لتحقيقها. في الواقع، تطرّق الموظفون أثناء التحقيق إلى الضغط أكثر من تطرّقهم إلى الحوافز كسبب لسوء السلوك. سبب آخر محتمل هو ثقافة المبيعات المتساهلة. فواحدة من النتائج الرئيسة لتحقيق داخلي كانت أن إدارة البنك تبنت فلسفة تنص على أنه: "كان من المقبول بيع 10 حسابات ذات جودة متدنية في سبيل فتح حساب واحد ذي جودة جيدة". وتوصّل التحقيق إلى أن المدراء كانوا يشيرون إلى المنتجات التي لم يكن الزبائن يحتاجون إليها (أو يريدونها) بوصفها "انزلاقاً" وأن قدراً معيّناً من الانزلاق كان يُعتبر بمثابة "تكلفة لممارسة الأعمال في أي بيئة تقوم على التعامل مع الزبائن الأفراد". ولكن مجدداً، ضغوط المبيعات والثقافة المشكوك بأمرها ربما تكونان ببساطة عَرَضين لمشكلة أكثر انتشاراً وضرراً.
كانت الحوافز، والضغط لتلبية الحصص المفروضة، وثقافة المبيعات كلها مرتبطة بنظام كان يُوظف في عموم أنحاء ويلز فارغو في ذلك الوقت. في الحقيقة، يمكن العثور على هذا النظام في كل شركة تقريباً. إنه نظام قياس الأداء المستعمل لرصد كل الأنشطة التجارية، من المستوى المؤسسي نزولاً حتى مستوى الموظف الفرد. لم تكن لتكون هناك حوافز مبيعات في ويلز فارغو دون تتبّع صارم لأرقام المبيعات. لم تكن لتكون هناك أهداف تخص عدد الحسابات لكل أسرة، أو ضغوط لتلبيتها، أو ثقافة تحيط بها لو لم تكن حسابات الزبائن تعدّ أبداً. كان الشعار الذي رفعه الرئيس التنفيذي السابق جون ستومف، الذي بات الآن شعاراً مذموماً، "ثمانية هو رقم عظيم" (كان الهدف هو بيع ثمانية من منتجات ويلز فارغو إلى كل زبون)، يستند إلى هذا القاسم المشترك.
كان المصدر الحقيقي لمشاكل ويلز فارغو هو القياس. فعندما قرر البنك أن يتتبّع بفاعلية أرقام البيع المتقاطع، كان رد الفعل المنطقي للموظفين هو العمل على تعظيم هذه الأرقام. وإذا ما أضيف إلى ذلك كل من الحوافز المالية، وثقافة التساهل، والتشدد في المطالب المتعلقة بالأداء، فإنهم قد يلجؤون إلى فتح بعض الحسابات غير المصرح بها بطريقة غير قانونية، وكل ذلك باسم المضي قدماً في تطبيق "استراتيجية" البيع المتقاطع. لا تسيئوا فهمنا. فنحن لا نشير إلى أن القياس هو شيء سيء، لأنه ليس كذلك، وثمة سبب لانتشاره على نطاق واسع في عالم الأعمال: فهو الطريقة الوحيدة التي تسمح لنا بفهم بيئتنا، ونتائجنا، وأهدافنا الاستراتيجية، وهذا ما يجب علينا فعله لكي ننجح. تسمح المقاييس بتحديد الاتجاه بوضوح في الأماكن التي تبدو الاستراتيجية فيها خلافاً لذلك عديمة الشكل إلى حد لا تبدو معه ذات أثر. وبما أن المقاييس قادرة على أن تنسق بين السلوكيات والإجراءات، فهي أساسية. ولكن كما تُظْهِرُ قضية ويلز فارغو، فإنه ما لم تكن التشوهات المتأصلة في المقاييس مفهومة، فإنها يمكن أن تكون خطرة – والتشوهات يمكن أن تتضخم بالضبط لأن المقاييس المعطوبة تنسق السلوكيات.
الحماية من الإبدال
للحيلولة دون حصول الإبدال، يجب علينا أن نفهم أولاً كيف يحصل. تشير دراستان أجريتا مؤخراً على الإبدال – واحدة باستعمال أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ لقياس تدفق الدم في الدماغ بهدف تكوين فهم أفضل للطريقة التي يتخذ بها الناس القرارات، وأخرى باستعمال ألعاب الفيديو لدراسة الإبدال خارج سياق قطاع الأعمال – إلى أن الإبدال هو تحيز شائع في اللاوعي: فكلما كانت المقاييس حاضرة، يميل الناس إلى الإبدال. يفترض الحائز على جائزة نوبل دانيال كانيمان والأستاذ الجامعي في جامعة ييل، شين فريدريك، أن هناك ثلاثة شروط ضرورية لإنتاج نوع الاستبدال الذي نراه في الإبدال:
1. الهدف أو الاستراتيجية مجردان إلى حد كبير.
2. مقياس الاستراتيجية ملموس وواضح.
3. الموظف يقبل (على الأقل في لاوعيه) استبدال الاستراتيجية بالمقياس.
ساعدت دراسات متعددة في إظهار الكيفية التي تجتمع بها هذه الظروف معاً لإنتاج حالة الإبدال. ومعرفتنا بها تعطينا السبل التي تسمح لنا بالتغلب على المشكلة. فتماماً كما أن النيران تُخْمَد بعد استبعاد الحرارة أو الوقود أو الأوكسجين الضروري للاحتراق، فإن الإبدال يمكن أن يُقمع من خلال إزالة واحد أو أكثر من مكوناته الرئيسة.
فيما يلي الطريقة التي تساعد في تحقيق ذلك:
الاستعانة بالأشخاص المسؤولين عن تنفيذ الاستراتيجية للمساعدة في صياغتها. يساعد ذلك في التقليل من الإبدال لأن الأشخاص المعنيين بتنفيذ الاستراتيجية سيكونون أقدر على استيعابها، على الرغم من طبيعتها المجردة – وتجنب استبدالها بالمقاييس. من الضروري تحديداً إشراك التنفيذيين وكبار المدراء المسؤولين عن إبلاغ الاستراتيجية إلى الآخرين في هذه العملية. يشير بحث أجراه أحدنا، ألا وهو بيل، إلى جانب كل من ويلي تشوي من جامعة ويسكونسن وغاري هيتشت من جامعة إلينوي في أوربانا شامبين، إلى أن مجرد الحديث عن الاستراتيجية مع الموظفين ليس كافياً. بعبارة أخرى، ليس بوسعكم أن تدعوهم فقط إلى غرفة اجتماعات مجلس الإدارة لحضور جلسات الإحاطة وأن تعلّقوا لافتات في أنحاء البناء للترويج للاستراتيجية – بل أنتم بحاجة إلى إشراك الناس في وضعها.
خذوا على سبيل المثال تجربة إحدى المؤسسات التي قدّم لها بيل المشورة، ألا وهي شركة "إنترماونتين هيلث كير" (Intermountain Healthcare) التي يتمثل هدفها في توفير رعاية عالية الجودة ومنخفضة التكلفة. واحد من أكبر ميادين معارك هذا النوع "من الرعاية المستندة إلى القيمة" هو علاج آلام أسفل الظهر. فقد تبيّن أن معظم آلام أسفل الظهر تختفي من تلقاء نفسها في غضون بضعة أسابيع. يمكن للأدوية والجراحة أن يكونا مفيدين، لكنهما يمكن أن يكونا مضرين أيضاً – ويمكن أن يكونا مكلفين للغاية. تشير البيانات إلى أنه عندما يأتي مريض يعاني من آلام في أسفل الظهر، فإن التجاوب المثالي مع هذه الحالة هو الانتظار. لذلك صاغت شركة "إنترماونتين" بمشاركة الأطباء الممارسين وبعد التشاور معهم مؤخراً استراتيجية تهدف إلى التقليل من التداخلات غير الضرورية. وبغية قياس الشركة للأداء في تطبيق هذه الاستراتيجية، بدأت بتتبّع ما إذا كان الأطباء قد انتظروا لمدة أربعة أسابيع على الأقل بعد الاجتماع مع مريض لديه آلام في أسفل الظهر ليوصوا بإجراء صورة شعاعية، أو صورة بجهاز الرنين المغناطيسي، أو طريقة تشخيص أو علاج أكثر دقة.
تكمن الخطورة في هذا المقياس، بطبيعة الحال، في أن يبدأ الأطباء بالنظر إلى "جعل المرضى ينتظرون" بوصفه هدفاً، عوضاً عن توفير رعاية عالية الجودة بتكلفة منخفضة. لكن بما أن أطباء "إنترماونتين" ساعدوا في وضع الاستراتيجية، فإن احتمال حصول هذا النوع من الإبدال كان أقل بأشواط. وبما أن الأطباء كانوا منخرطين بقوة في نشر الاستراتيجية ومقاييسها والتدريب عليها، كان بوسعهم مساعدة الآخرين على تجنّب الإبدال أيضاً. في الحقيقة، يقول نيك باسيت، المدير التنفيذي لصحة السكان في "إنترماونتين": "من دون شك، عندما يشارك الأطباء في تصميم الأهداف، فإنهم قادرون على فهمها فهماً أفضل، وعندما يكوّنون هذا الفهم، فإنهم يثبتون مرة تلو المرة قدرتهم على تحديد الإجراء المناسب، وغالباً ما يكون ذلك على الرغم من وجود مقياس محدد".
يتفق بريت ميوز، وهو طبيب في "إنترماونتين" كان له دور كبير في وضع الاستراتيجية ونشرها مع هذا الكلام قائلاً: "عندما أقابل الأطباء وألقي البيانات عليهم، فإنهم يبدون لامبالاتهم". عوضاً عن ذلك، يذهب إلى المجموعة ويقول لهم: "إليكم مشكلة تتعلق بجودة الرعاية الطبية. دعونا نحاول حل هذه المشكلة – وبالمناسبة، إليكم بعض البيانات التي بوسعنا أن نراجعها لنرى مدى حسن أدائنا".
تخفيف العلاقة بين المقاييس والحوافز. يقود ربط التعويضات بمستهدفات مبنية على المقاييس إلى زيادة الإبدال – وهذا أثر جانبي مؤسف لدفع التعويضات مقابل الأداء. فإضافة إلى أن هذه المقاربة تحفز الدوافع النقدية التي قد تكون موجودة لدى الموظفين، هي تجعل المقياس أوضح بكثير، ما يعني أن الموظفين سيكونون أكثر ميلاً إلى التركيز عليه على حساب الاستراتيجية.
للتفكير في طريقة للتحايل على هذه المشكلة، دعونا نراجع مجدداً المقياس الخاص بآلام أسفل الظهر في "إنترماونتين". لو كانت الإدارة قد لجأت إلى الخطوة الواضحة المعتادة واكتفت بإبلاغ الأطباء أنهم سيحصلون على علاوة صغيرة في كل مرة يطلبون فيها من مريض الانتظار لمدة أربعة أسابيع قبل تلقّي أي اختبارات أو علاجات مكلفة، فإنها ربما كانت ستحرف أنظار حتى أصدق الأطباء نية عن الاستراتيجية الحقيقية المتمثلة بتخفيض التداخلات غير الضرورية وكانت ستقرّبهم أكثر من تعظيم المقياس. لكن الموظفين المشرفين على البرنامج لم يربطوا التعويض بالمقياس، لأنهم أدركوا أن معظم الأطباء ميالون بطبيعتهم إلى تقديم رعاية طبية عالية القيمة. إضافة إلى ذلك، فإنهم يحددون مستهدف النسبة المئوية للمرضى الذين انتظروا أربعة أسابيع قبل التداخل الطبي عند 80%. شكّل ذلك تذكيراً للأطباء أن الرعاية الطبية العالية الجودة والمنخفضة التكلفة بالنسبة لمعظم المرضى كانت تعني انتظار أن تحل آلام أسفل الظهر نفسها بنفسها، ولكن بالنسبة لبعض المرضى – على سبيل المثال، المرضى الذين انتظروا لمدة شهر قبل رؤية طبيب في المقام الأول – فإن العلاج الفوري كان مطلوباً. عكسَ المستهدف الموضوع الطبيعة غير المثالية للمقياس وأعاد لفت انتباه الأطباء إلى الاستراتيجية الضمنية.
استعمال مقاييس متعددة. تُظْهِرُ دراسة أخرى أجرها بيل مع تشوي وهيتشت أن لجوء الناس إلى الإبدال يكون أقل عندما يحصلون على تعويض لقاء تحقيق المستهدفات على عدة مقاييس تخص استراتيجية معينة عوضاً عن وجود مقياس واحد فقط. تسلّط هذه المقاربة الضوء على حقيقة عدم وجود مقياس وحيد قادر على التعبير الدقيق عن الاستراتيجية، ما يجعل الموظفين أكثر ميلاً وبكامل وعيهم إلى رفض استبدال الاستراتيجية به. في شركة "إنترماونتين"، يُقاس أداء الأطباء باستعمال عدد هائل من المقاييس، بما في ذلك رضا الزبائن، ومقاييس للجودة في حالات محددة (مثل المعدل الوسطي لمستويات السكر التراكمي لدى بعض مرضى الداء السكري)، والنتائج الصحية (مثل إعادة إدخال المرضى إلى المستشفى)، والجهود الوقائية (مثل فحوصات سرطان الثدي التي تجري في التوقيت المناسب)، والتكلفة الإجمالية للرعاية. وليس هناك مقياس وحيد مستعمل للتحديد الكمي لكفاءة الموظف الطبي وإسهاماته. لا شك أن المقاييس المتعددة تضفي تعقيداً على مهمة تقويم الأداء، لكنها أساسية للمحافظة على تركيز الموظفين على الاستراتيجية الحقيقية وتجنب الإبدال.
العودة إلى بنك ويلز فارغو مجدداً
إذا أردنا أن نرى ما إذا كان ويلز فارغو يظل معرّضاً للإبدال، دعونا نراجع الإجراءات التي اتخذها البنك في أعقاب أزمته. بحسب ما رأينا، فإن البنك يسير في الاتجاه الصحيح في جهوده الرامية إلى احتواء الضرر.
أولاً، شددت الإدارة الجديدة على إعادة بناء الثقة مع الزبائن بعد الفضيحة ما جعل استراتيجية العلاقات الطويلة الأجل أوضح وأبرز بكثير. ثانياً، توقّف البنك عن دفع المال إلى الموظفين لقاء البيع المتقاطع وألغى كل أهداف المبيعات. قد يبدو ذلك سلوكاً متطرفاً، لكنه كان مناسباً لحالة ويلز فارغو لأن الهوس بحصص المبيعات بات متجذراً فيه. ولمعالجة هذه القضية، كانت الحاجة تستدعي إلغاء مقياس البيع المتقاطع وكل ما يتعلق به. أخيراً، أصبح ويلز فارغو الآن يقيس النجاح الاستراتيجي باستعمال ما لا يقل عن دزينة من المقاييس المرتبطة بتركيزه على الزبائن، مشدداً على عدم وجود رقم وحيد قادر على قول كل الحقيقة، ومشجعاً الموظفين على رفض الإبدال بكامل وعيهم.
على الرغم من كل هذا التقدم المحرز، إلا أن هذه الحقبة من تاريخ ويلز فارغو كانت مدمرة سواء من حيث التكاليف القابلة للحساب التي اضطر إلى دفعها من جيبه مباشرة أو التكاليف الأخرى التي لا يمكن قياسها بسهولة (وهي هائلة بكل المعايير) المرتبطة بسمعته، وليس هناك إشارة إلى أن البنك قريب من التماثل الكامل للشفاء من هذه الأزمة التي ألمّت به. لكن على الأقل يبدو أن الخطوات الجديدة التي اتخذها ويلز فارغو ستذكّر المدراء والموظفين في المستقبل أن مقاييس الأداء هي مجرد أشياء تمثّل الاستراتيجية، وهي ليست الاستراتيجية نفسها.
يتعلّم العديد من المدراء بالطريقة الصعبة أن الإبدال يمكن أن يفسد الاستراتيجية، وإذا لم تتخذوا أي إجراء لحماية أنفسكم منه، فإن التجربة الشخصية ستقودكم عاجلاً أم آجلاً إلى إدراك الشيء ذاته. فإذا ما كنتم تستعملون مقاييس أداء، فإن الإبدال ربما يكون حاصلاً حالياً أصلاً – فمجرد وجود مقياس، حتى في غياب أي تعويض، هو أمر كافٍ بحد ذاته للتحريض على شيء من هذا السلوك. لذلك حان الوقت لإلقاء نظرة معمقة على الداخل لرؤية أي مقاييس قد تكون عرضة للإبدال، ودراسة ما إذا كانت قد تتسبب بأكبر قدر من الأذى. فكما تُظْهِرُ حالة بنك ويلز فارغو، فإن درهم وقاية خير من قنطار علاج.
أكبر إبدال على الإطلاق؟
إذا تأملتم الإبدال ستجدونه فخاً شائعاً في كل مكان. فحتى أكثر مقاييس الأداء شيوعاً، ألا وهو الأرباح، كان قد وُضِعَ أصلاً كمؤشر على شيء أكبر وأكثر تجريداً هو ما يعرف بالدخل الهيكسي.
ألا تتذكرون ما درستموه عن الدخل الهيكسي في مادة المحاسبة؟ ربما يكون السبب في ذلك هو أنكم لم تدرسوا المحاسبة في أواسط القرن العشرين، عندما بدأت أفكارنا الخاصة بقياس القيمة تترسّخ وتتشكّل. لقد سبق لجون هيكس أن وصف هذا المقياس المجرد إلى حد ما على أنه كمية المال التي يمكن توزيعها على المساهمين مع ترك قيمة الشركة دون تغيير. وبالتعابير المعاصرة، هي القيمة التي تضيفها عمليات الشركة. لقد كانت الأرباح مؤشراً معرفاً بوضوح لتلك القيمة وكانت تهدف إلى تحويل المفهوم المجرد إلى مفهوم ذا طابع ملموس أكبر. لكن توليد الأرباح المحاسبية هو ليس بالضرورة مشابهاً لتحقيق القيمة. ففي نهاية المطاف، لا تعرض القوائم المالية صورة كاملة عما يحصل في الشركات، ولاسيما إذا كان هناك تلاعب بالأرقام. والمستثمرون الذين يمارسون الإبدال قد يدعمون قرارات مالية لا تؤدي إلى تحقيق قيمة، مثل خفض التكاليف الذي يقوّض خدمة الزبائن والأداء المالي على المدى البعيد.
رغم عدم وجود برهان رسمي على أن المستثمرين يمارسون الإبدال، إلا أن ردود الأفعال غير المتناسبة التي نراها في السوق عندما نرى شركة تحقق أرباحاً تقل بسنت واحد عن توقعات المحللين تدل على أن كثراً يسقطون في الفخ.