ظل الجانب الشرير للإقناع موضوعاً للاستجواب الفلسفي منذ زمن أرسطو، وحذر إخوانه الإغريق من الأخطار التي قد تحيط بهم فيما لو أعماهم حضور المرء وشخصيته. وكان يناشد جمهور مستمعيه ليركّزوا على الحقائق التي تتضمنها الحجة المعينة التي يسوقها المتحدث ليتجنبوا الوقوع في براثن التلاعب بهم عاطفياً. فما هي إجابة سؤال كيف أحمي نفسي من التسويق والتضليل الحاصل؟
وما زالت هذه النصيحة سليمة بعد مرور أكثر من ألفي سنة. لنكن صادقين مع أنفسنا، فنحن تلاميذ فاشلون. ومهما حاولنا جاهدين حتى نظل موضوعيين، تبقى الحملات الإعلانية البارعة تغرينا، وكذلك العروض التقديمية البراقة، والوعود الكبرى، وممثلو المبيعات والزملاء والشركاء، والمتقدمون لشغل الوظائف ممن يتسمون بحلاوة المنطق والقدرة على جعل الأفكار السيئة تبدو رائعة.
اقرأ أيضاً: إذا أردت كسب الدعم لفكرتك... فكر كخبير تسويق
لكن هناك أمل. على الرغم من أن معظم الكتب والبحوث التي تتناول الإقناع، إنما موجهة نحو مساعدة الناس على أن يكونوا دعاة لمستوى رفيع من التفكير، يمكن لهذه الأعمال أيضاً أن تفيد في عكس هذا الغرض، من خلال تعليم القراء كيفية تفادي أن يصبحوا هدفاً للتلاعب. لو أننا حرصنا على فهم حيل المهنة والأسباب التي تجعلنا عرضة للتأثر بها، فبإمكاننا أن نتعلم حماية أنفسنا بطريقة أفضل.
الخطوة الأولى، هي الاعتراف بمواطن ضعفنا، وهذا ليس بالأمر السهل. يزعم جونا بيرغر، أستاذ التسويق في "كلية وارتون لإدارة الأعمال" وصاحب كتاب "تأثير غير منظور" (Invisible Influence)، وهو من المؤلفات الجيدة المتخصصة في الأعمال التي يجدر بك أن تقرأها، أن معظمنا ينكر عيوبه، ولا سيما فيما يتعلق بالتأثير الاجتماعي. فنحن نكون واعين تماماً عندما نرى زملاءنا وأصدقاءنا يقودهم الآخرون، لكننا مع ذلك نعتقد أننا رعاة بين قطعان من الخراف.
ويحدث هذا نتيجة ما يسميه بيرغر "وهم الاختلاف". فنحن لا نرى أننا نرتدي قميصاً ماركة "بروكس براذرز" كالذي يرتديه زميلنا تماماً؛ لأن القميصين بلونين مختلفين. ولا ندرك أننا نسير على خطى رئيسنا؛ لأن أفكارنا تبدو أكثر تفصيلاً بدرجة بسيطة. بمعنى آخر، إن الفوارق الطفيفة يمكنها أن تعمينا عن أوجه التشابه الصارخة، وتقودنا إلى الاعتقاد أن أفكارنا بالكامل نابعة من داخلنا بينما هي ليست كذلك.
يقدم بيرغر نصيحة بشأن تجنب أحادية التفكير الجماعي الذي ابتليت به الكثير من المؤسسات. ينبغي أن يعبر الناس عن آرائهم مثيرين التحديات وطارحين الأسئلة، ونستنتج من هذا بالطبع أن المدراء ينبغي أن يكونوا منفتحين على مثل هذه الأفكار المضادة، بل الأفضل من هذا، أنه يقترح جمع أفكار الموظفين من خلال اقتراع سري؛ بما أننا لا يمكن أن نتأثر بأشياء لا نراها ولا نسمعها. على الرغم من أن معظم هذه الأفكار والأمثلة ليست معلومات يتم الكشف عنها لأول مرة، فإن كتابه تذكِرة ممتعة لنا بأن الحرب ضد الإغراء السيئ يجب أن تبدأ من الداخل.
اقرأ أيضاً: أسباب فشل مؤشر صافي نقاط الترويج
يتخذ المنظّر الأدبي ستانلي فش موقفاً مماثلاً في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان "الفوز في المجادلات" (Winning Arguments). وهو يعترف بأنه لا يمكن لأحد أبداً أن يصبح كائناً عقلانياً تماماً، ومنزهاً عن مواطن القصور والانحيازات. وسيكون العالم دائماً مليئاً بالمقنِعين البارعين الذين يستخدمون مواهبهم لأغراض غير شريفة (تتراوح القصص التي يستشهد بها هؤلاء من هبوط آدم وحواء إلى صعود دونالد ترامب). ومع ذلك، فإنه يقترح أيضاً على ما يبدو أن التحلي بالمزيد من التواضع قد يساعدنا على التعرف على الواقع بسرعة وسهولة أكثر عندما نتصرف مثل الخراف.
لا شك أن الخطوة التالية هي تعلم كيف يعمل الجانب الآخر. ربما يكون روبرت تشالديني، أبرز خبير في الإقناع الفعال، والنصيحة المبيّنة في مقاله المنشور عام 2001 في "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان "تسخير علم الإقناع" (حيث دعا فيه القراء إلى تعزيز تأثيرهم بتوظيف مبادئ الميل والمعاملة بالمثل والعقل الجمعي والاتساق والحجية والندرة) صارت أساسية في هذا المجال.
يبني كتاب تشالديني الأخير، بعنوان "الإقناع المسبق" (Pre-Suasion)، على ذلك العمل، مجادلاً بأن أفضل المقنِعين ليسوا مجرد أشخاص ساحرين فصيحي اللسان تجري على ألسنتهم حجج وأقوال صيغت بعناية وهذّبت بإتقان، بل هم أيضاً معدّون خلاقون يركزون على إيجاد أفضل السبل لإطلاق عروضهم وأفكارهم، وهو ما يطلق عليه اسم الإقناع المسبق، بمعنى القدرة على إقناعنا بأهمية شيء بعينه واستحبابه قبل حتى أن نسمع الحقائق.
يقدم الكتاب قائمة ضخمة من الأبحاث والأساليب، وكثير منها يتعلق بالتسويق: سماع الموسيقى الألمانية يمكن أن يجعلنا أكثر ميلاً إلى شراء مشروب ألماني باهظ الثمن، وسؤالنا عما إذا كنا مغامرون يمكن أن يزيد من رغبتنا في تجربة مشروبات غازية جديدة، ورؤية صورة سحابة يمكنه إقناعنا بأن نفضل "النعومة" و"الراحة" على السعر في أثناء تصفح موقع الويب بحثاً عن أثاث فاخر.
ربما يبدو "الإقناع المسبق" بفضل تلك الأمثلة أشبه بعض الشيء بفرضية. لكن من جديد نقول الوعي لا بد منه. لو تعرفنا على الألاعيب العقلية التي يجري استخدامها للإيقاع بنا في الشرك، فقد نتمكن من تجنب الوقوع في الشرك. وهناك شيء نتعلمه من الأمثلة الأكثر تفصيلاً. على سبيل المثال، يستحضر تشالديني قصة استشاري كان يواجه صعوبة في إقناع العملاء بالموافقة على قيمة أتعابه. في الماضي، حاول شرح تكلفة كل بند في أثناء المفاوضات، لكن هذا لم يفلح قط. بعد ذلك، خلال عرض تقديمي، قرر تجربة نهج جديد. قبيل ذكره أتعابه البالغة 75 ألف دولار مباشرة، كان يقول مازحاً: "كما تعلمون، فأنا لن أتمكن من تقاضي مليون دولار منكم مقابل هذا العمل". ضحك الجميع في الغرفة. لم يعترض أحد على العرض الفعلي. لماذا ؟ لقد أعد المستشار جمهوره من أجل الاعتقاد بأن خدماته ليست باهظة الثمن، مستغلاً ما يسميه علماء النفس "وهم التركيز" (وهي عادتنا في التركيز على جانب واحد من حجة أو تجربة معينة، والتي في حالتنا هي المليون دولار). كان العملاء الأكثر ذكاءً فقد اكتشفوا هذه الحيلة ومضوا قدماً في عمليتهم المعتادة للتفاوض على السعر.
اقرأ أيضاً: 8 طرق تمكّن خبراء التسويق من إظهار النتائج المالية لعملهم
بوجه أعم، يحذر تشالديني من أننا عندما تواجهنا أي حجة مقنعة (حتى وإن كانت حجة نتفق معها فطرياً)، يجب أن نقضي من الوقت في تأمل احتمال الفشل قدر ما نقضي من وقت ونحن نحلم بآفاق النجاح.
وهو يطلق أيضاً ملاحظة طمأنة عندما يعترف بأن الإقناع هو فن أكثر منه علم. ليس من المرجح أن نتعرض للاحتيال على يد شخص يحاول إقناعنا بشيء ما متبعاً دليلاً إرشادياً أو قائمة تضم عدداً من البنود. والحقيقة أنه كما يقول: "يمكننا عادة اكتشاف مروجي الأفكار الكاذبة الذين يستخدمون أساليب الإقناع المسبق لأنهم يلفتون اهتماماً خارجياً إلى مواطن ضعفهم.
بالطبع، لا توجد طريقة مضمونة من أجل معرفة كيف أحمي نفسي من التسويق أو لمنع تضليلنا والتلاعب بنا، ولإقناعنا بفعل أشياء نأسف عليها لاحقاً، وهذا قول متفق عليه بين المؤلفين الثلاثة. لكن إذا ذكّرنا أنفسنا بمدى عيوبنا وأخطائنا بصفتنا مفكرين، وفي الوقت نفسه نتكيف مع الأساليب الماكرة التي يستخدمها المتلاعبون البارعون، فلدينا فرصة لزيادة نسبتنا المئوية لاتخاذ قرار جيد (حتى ولو بفاصل بضع نقاط فقط)، دون أن نغلق أنفسنا. في وجه الأفكار ووجهات النظر الجديدة.
روبرت غوتليب: ماذا أقرأ - أوبلوموف، تأليف إيفان غونتشاروف
"هذه هي الرواية الروسية الشهيرة التي تتحدث عن رجل يفضل ألا ينهض من فراشه. كان تولستوي يحبها، وكان تشيخوف يحبها، وأنا أحبها".
روبرت غوتليب هو رئيس التحرير السابق لمجلة نيويوركر، ومؤلف كتاب "القارئ الشرِه" (فارار، شتراوس أند جيرو، 2016).
اقرأ أيضاً: 4 طرق لتحسين التسويق بالمحتوى في شركتك