غالباً ما يضع أصحاب القرار نصب أعينهم النقاشات التي تتناول إمكانية جعل العالم مكاناً أفضل بواسطة الاقتصاد السلوكي، أي عن طريق الحفاظ على الطاقة وتحقيق رفاهية أكبر للموظفين وزيادة المدخرات الشخصية، في محاولاتهم لرفع جودة قرارات الآخرين. ومن أجل القيام بذلك، يقدم الاقتصاد السلوكي لأصحاب القرار والمدراء مجموعة الأدوات تساعدهم على العمل "كمهندسين للقرار"، ودفع المواطنين وأعضاء الفرق نحو اتخاذ خيارات أفضل. المبدأ بسيط، ما عليك سوى جعل طريق اتخاذ القرار الصحيح أقل صعوبة، وغالباً ما تكون النتائج جيدة. ويبدو أن العديد من تدخلات أسلوب إشارات التنبيه قد نجح في مجموعة واسعة من المجالات الذي طُبق فيها.
ولكن ماذا لو كنت مديراً، أو طبيباً، أو أي مهني آخر، وكنت أنت المتلقي "لإشارات التنبيه" السلوكية؟ هل سيكون شعورك مغايراً إذا ما حاول الآخرون "دفعك" نحو خيارات محددة؟ إذا كان كذلك، فأنت لست وحدك.
لا يُعتبر الدفع عن طريق أسلوب إشارات التنبيه مفيداً دوماً، فقد يبدو، بغضّ النظر عن الهدف منه، وكأنه تعالٍ على الآخرين، أو تلاعب ماهر بهم، وقد يأتي بنتائج عكسية إذا اعتبره المتلقي "لَجاج مزعج". وهذه مشكلة ذات أهمية خاصة للموظفين المهنيين بسبب ثلاث صفات هامة يملكونها، وهي الهدف القوي، والرغبة في الاستقلال، والحرص على الإتقان. ويمكن أن تكون هذه الصفات حواجز في وجه تقبلهم إشارات التنبيه الإدارية.
استناداً إلى مجمل رؤانا التي بنيناها من خلال الممارسة الطبية وقيادة المؤسسات الصحية وأبحاثنا في الاقتصاد السلوكي، استعنا بأمثلة من قطاع الرعاية الصحية من أجل توضيح التحديات التي تواجه تنفيذ إشارات التنبيه لتغيير سلوك الموظفين المهنيين مثل الأطباء، وتقديم مبادئ يمكن تطبيقها للتغلب على تلك التحديات. لا تنحصر إمكانية تطبيق نهجنا على الأطباء فحسب، بل يمكن استخدامه مع غيرهم من الموظفين المختصين مثل المحامين والمهندسين والعلماء وأساتذة الجامعات.
التحديات. لقد بدأت مؤسسات الرعاية الصحية باتباع أسلوب إشارات التنبيه لتحسين القرارات الطبية للأطباء. على سبيل المثال، تم مؤخراً اتباع أسلوب إشارات التنبيه من أجل تقليل وصفات المضادات الحيوية غير المناسبة وتقليل وصف الأطباء للمسكنات الأفيونية ضمن غرفة الطوارئ وتحسين معدلات التلقيح ضد الإنفلونزا. ومع ذلك، في تجربتنا لتطبيق التغيير في مؤسسات مختلفة، أخبرنا العديد من المدراء تحفظاتهم بشأن استخدام أسلوب إشارات التنبيه كفرض أمور على الأطباء بدلاً من القيام بها معهم. أي كونه لجاج خفي بدلاً من إشارة تنبيه شفافة.
وأحد المخاوف الشائعة التي أخبرنا بها المدراء كانت بشأن تلقي الأطباء "لإشارات التنبيه" أحياناً على أنها تهديد لاستقلاليتهم أو تشكيك ببراعتهم المهنية. فالأطباء يتمتعون بقدر عال من المهارة، وهم متمرسون على تحويل الأدلة إلى قرارات طبية. واستقلاليتهم القوية غالباً ما تكون مسوغة، لأن الاستثناءات في الطب غالباً ما تصبح هي القاعدة، والثغرات في الأدلة الطبية تجعل تحديد خيار موحد أمثل أمراً مستحيلاً. وفي الحقيقة لا يزال المجتمع الطبي يفتقد الأدلة القوية التي تساعد على توجيه العديد من القرارات الطبية. إليك مثالين على ذلك: في غياب المبادئ التوجيهية الواضحة، تتفاوت أساليب أطباء الرعاية الصحية الأولية كثيراً فيما يتعلق بعدد زيارات المتابعة. وبسبب تأخر بيانات التقنيات الجديدة في علاج أمراض صمامات القلب (كاستبدال الصمام الأبهري عبر القسطرة مثلاً)، تستند الممارسات الحالية إلى رأي الخبراء بدلاً من الأدلة الطبية القوية.
وبسبب قلق الأطباء حول وجود طب "التوجيهات شديدة التبسيط"، قد ينفرون أيضاً من إشارات التنبيه، لأنها تمثل وجهة نظر تقول إن القادة هم من يعرفون القرارات الأفضل لا الأطباء الذين يعملون في الخطوط الأمامية، وأن هندسة الخيارات تتفوق على الاحتراف المهني. على سبيل المثال، عملنا مع قادة في مشفى كبير من أجل تطبيق أسلوب إشارات التنبيه بهدف تقليل وصف الأطباء للمسكنات الأفيونية في غرفة الطوارئ وعيادات الرعاية العاجلة. وفي حين اعترف الأطباء الموظفون بإمكانية التقليل من وصفات العقاقير الأفيونية، اعتبر بعضهم أن إشارات التنبيه المقترحة هي انتقاد لطريقتهم في اتخاذ القرارات الطبية.
كيف سيتمكن المدراء من التغلب على فهم الأطباء لأسلوب إشارات التنبيه على أنه "تلاعب بهم" واستخدامه في تحسين القرارات التي يتخذها الموظفون المحترفون؟ نقترح المبادئ الثلاثة التالية:
شفافية الهدف. أحد المفاهيم الخاطئة حول استراتيجيات الاقتصاد السلوكي هو ضرورة إخفائها من أجل ضمان فعاليتها. في الواقع، يمكن أن تنجح تدخلات إشارات التنبيه الشفافة كما نجحت التدخلات المخفية تماماً، كالخيارات الافتراضية مثلاً. مثلاً، أجريت دراسة على الإنترنت، طلب فيها الباحثون من 1,000 شخص إتمام ملء تعليمات افتراضية مسبقة، وهي عبارة عن استمارات تُشرح رغباتهم بشأن الرعاية الصحية التي يرغبون بها عند نهاية حياتهم. لم يؤدِ الكشف صراحة عن وجود الاختيارات الافتراضية، أي إخبار المشاركين أنهم يتلقون استمارات تم ملؤها مسبقاً باختيارات افتراضية، إلى التخفيف من أثر أسلوب إشارات التنبيه بدرجة تُذكر.
وفي مجال الرعاية الصحية، تعني هذه الشفافية أنه يجب على المدراء إبلاغ الأطباء أن الهدف من إشارات التنبيه هذه متزامن مع أهدافهم، أي الأطباء، ومع أدوارهم كمناصرين للمرضى وممارسين للطب القائم على الأدلة ومشرفين على الموارد المجتمعية. ويمكن للمدراء الاعتراف أن الحاجة لأسلوب إشارات التنبيه ليست بهدف التغلب على الأهداف المهنية أو الأدلة الطبية، وإنما تحديداً لأن هذه الأمور لم تتمكن من منع التنوع غير المبرر في الرعاية الطبية.
أما أساليب إشارات التنبيه الأخرى، مثل عقود ما قبل الالتزام، والتي يتعهد فيها الموظف بتحمل المسؤولية عن سلوكيات بعينها، فهي شفافة بطبيعتها. مثلاً، وضع مركز فرجينيا ميسون الطبي "ميثاق الطبيب" الذي يشمل جميع أقسام المؤسسة ويحدد التوقعات والمسؤوليات المحددة لكل الموظفين الأطباء والقادة التنظيميين، مما أنشأ جسراً يصل أهداف الأطباء، كالاستقلال، بالأهداف التنظيمية كالكفاءة والحد من التباين. وتُساعد الشفافية في تبديد الشكوك حول هذه الأهداف، مما ينشئ تربة خصبة للحوار حول إشارات تنبيهية محددة وأهدافها.
شارك في إنشاء المحتوى. هناك مفهوم خاطئ آخر يقول إنه لا بد أن تُستقبل إشارات التنبيه على نحو سلبي كي تحقق تغيير السلوك. في الواقع، لا يتوقف تأثير إشارات التنبيه على كونها مفروضة على الموظفين. فقد تكون مشاركة المتلقين في إنشاء إشارات التنبيه أكثر فعالية لأن عملية المشاركة بحد ذاتها يمكنها أن تُعزز إتقان المهارات والهدف والاستقلال. وباحترام استقلالية الموظف، يُمكن للمشاركة في إنشاء إشارات التنبيه أن تساعد في توليد فهم مشترك بين المدير والموظف حول الجوانب الرئيسية لعملهم. كما أنه يساعد على تحديد أولويات الحلول، وتجنب الأخطاء، وتحديد الحالات التي تتطلب مدخلات إضافية.
تتمتع هذه الأساليب بأهمية في مجالات مثل الرعاية الصحية، إذ، يمكِن أن تكون القرارات محددة بالسياق، وتحظى آراء المستخدمين النهائيين بقدر كبير من الأهمية. فالأطباء لا يتأثرون برغبات المرضى فحسب، وإنما بعوامل أخرى (مثل القيود الزمنية، والقوانين المهنية، والمهمات التنافسية، والقدرة على استخدام أدوات العمل مثل السجلات الطبية الإلكترونية). ولذا، يمكن أن تكون إشارات التنبيه أكثر فعالية إذا تشارك المدراء والأطباء بإنشائها من أجل ضمان تطابق التدخلات مع رؤى المؤسسة وثقافتها الواقعيين.
ويُمكن عن طريق المشاركة إنشاء إشارات تنبيهية تلبي احتياجات المهنيين المختصين، على سبيل المثال، يمكن أن يستعير المدراء المبادئ من الشركات التي تستخدم الخيارات الافتراضية الشخصية المرنة التي تطور نفسها على أساس القرارات الحالية التي اتخذها أحد العملاء، في بيع حزم حماية أجهزة الكمبيوتر بناء على حساسية الأسعار لدى المستهلك. إذ يتم عرض الخيارات الافتراضية التي تتألف من حزم ذات أسعار معقولة على العملاء ذوي الحساسية تجاه الأسعار، في حين تكون الخيارات الافتراضية للعملاء الأقل حساسية تجاه السعر مؤلفة من حزم ذات ميزات أفضل، وذلك لجعل عملية الشراء أسهل.
وفي مجال الرعاية الصحية، يمكِن أن يُطبق المدراء الخيارات الافتراضية المرنة عن طريق ملء التشخيصات المختلفة بصورة آلية اعتماداً على تقييم الطبيب الأولي للمرضى، وبذلك يسير العمل على نحو انسيابي وتزداد الكفاءة. فكر بالمرضى الذين يأتون إلى الطوارئ بسبب ألم في الصدر. بالنسبة للمرضى الذين يعتبرهم الأطباء في البداية عرضة لخطر التعرض لنوبة قلبية، يمكن أن يشمل السجل الصحي الإلكتروني مجموعة تلقائية محددة مسبقاً من الفحوصات القلبية. أما بالنسبة للمرضى الذين يعتبرهم الأطباء في البداية غير معرضين لخطورة كبيرة، يمكن أن يشمل السجل الطبي الإلكتروني اختبارات تلقائية محددة مسبقاً من الفحوصات غير القلبية.
كما يمكن أن تشكل المشاركة في إنشاء إشارات التنبيه إلهاماً لإجراء تحسينات أخرى. على سبيل المثال، عمل عدد من المستشفيات والأطباء مع خبراء تقنية المعلومات، من أجل إنشاء برنامج يرسل إشارات تنبيهية للأطباء لدفعهم نحو استخدام التصوير على نحو أفضل، أي طلب إجراء صورة عند وجود حاجة حقيقية لها فقط. وساعدت هذه العملية على تنظيم الخبرات الداخلية مع الحد من خطر صدور أوامر خاطئة، وإبلاغ الأطباء حول الآثار المالية المترتبة على قراراتهم، والحد من وقت الانتظار لبعض المرضى.
التأطير البنّاء. ركزت الجهود المبكرة لتطبيق أسلوب إشارات التنبيه في قطاع الرعاية الصحية على مساعدة الأطباء في تجنب الأخطاء، كوصف مضادات حيوية أو مسكنات أفيونية في غير مكانها. رغم أن هذه النتائج السهلة تشكل نقطة انطلاق، إلا أن أسلوب إشارات التنبيه الذي يشجع على المثاليات المهنية قد يشكل دافعاً أكثر إيجابية.
مثلاً، اتبعت بعض مؤسسات الرعاية الصحية مبدأ الاقتصاد السلوكي للمقارنة الاجتماعية من أجل إرسال إشارات تنبيه للأطباء الذين يستخدمون لوحات القياس التي تقدم لهم تقييماً لأدائهم مقارنة بأداء زملائهم. يمكن للوحات القياس تشجيع الإتقان عن طريق عرض معلومات حول أهداف أكبر وأعقد وتتطلب عملية اتخاذ قرار أكثر تعقيداً. تستخدم شركة تأمين صحي في هاواي مثلاً لوحة قياس أداء صممتها إلى جانب ممارسات الرعاية الصحية الأولية لدفع أطباء الرعاية الأولية نحو خفض التكاليف وتحسين مقاييس الجودة، مثل تحسين مراقبة نسبة السكر في الدم لدى مرضى السكري.
وفي مثال آخر، بدأت مؤسسة "يوتا هيلث" (Utah Health) برنامجاً لقياس تجربة المرضى في الرعاية الصحية لديها، عام 2008، عن طريق جمع آرائهم وعرضها على الأطباء باتباع أسلوب مقارنة الأقران (أي، عرض قيم تقييم الطبيب ومقارنتها مع قيم تقييمات زملائه) وبحلول عام 2012، ووسط تزايد المواقع التجارية التي تقدم تصنيفات وتقييمات خارجية للأطباء، بدأت مؤسسة "يوتا هيلث" بنشر آراء المرضى وتقييمات أطبائها علناً على موقعها الإلكتروني مباشرة. نتيجة لهذا، تجاوزت نسبة رضى المرضى عن أكثر من نصف الأطباء في مؤسسة يوتا هيلث 90%، في حين تجاوزت نسب تقييمات ربع الأطباء 99% مقارنة بأقرانهم على الصعيد الوطني.
يمكن أن يكون أسلوب إشارات التنبيه أداة إدارة فعالة لتوجيه السلوك لدى الموظفين المختصين. ويكمن السر في ضمان أن يعتبره المهنيون أمراً إيجابياً، وليس أمراً مزعجاً أو إلحاحاً مخادعاً.