أدوات علم السلوك القائمة على الذكاء الاصطناعي
"نظام التفكير 1" في علم السلوك: تعمل أدوات علم السلوك القائمة على الذكاء الاصطناعي بطريقة مشابهة "لنظام التفكير 1" في الدماغ البشري، فقد تدربت على معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة، والتعرف على الأنماط، وصنع القرارات أو وضع التوقعات الفورية، وهي تتميز بالسرعة والكفاءة، ما يمنحها قيمة كبيرة في المواقف التي تتطلب رؤى سريعة مدعومة بالبيانات. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل سلوك المستخدم على موقع الويب من أجل تحسين تجربته على الفور، أو توقّع اتجاهات المستهلكين من خلال معالجة مجموعات بيانات كبيرة من وسائل التواصل الاجتماعي.
ولكن، على غرار "نظام التفكير 1"، فإن الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي ليست خالية من العيوب؛ فهي عرضة للأخطاء خاصة عندما تكون البيانات الأساسية متحيزة أو غير كاملة أو غير شاملة. وغالباً ما تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي بمثابة "صناديق سوداء"، لأن عملية صنع القرار ليست واضحة للمستخدمين وحتى للمطورين إلى حد ما. ويمكن أن يؤدي نقص الشفافية إلى أخطاء لا ينتبه لها أحد فتولّد توصيات غير صحيحة، مثل تعزيز التحيزات في خوارزميات التوظيف أو إجراء تشخيصات طبية غير صحيحة استناداً إلى بيانات معيبة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تواجه أدوات الذكاء الاصطناعي صعوبات، حتى الآن على الأقل، في المهام التي تتطلب فهماً عميقاً للسياق أو التعاطف أو صنع قرارات مبنية على المبادئ الأخلاقية، وهي مجالات يكون فيها حدس البشر وتفكيرهم حاسمين.
على الرغم من أن أدوات علم السلوك القائمة على الذكاء الاصطناعي فعالة جداً وقوية في قدرتها على تحليل البيانات ذات الحجم الكبير، فهي في جوهرها عرضة للأخطاء والتحيزات مثل "نظام التفكير 1"، إن لم تكن أكثر عرضة منه، وهي قادرة على صنع قرارات سريعة وتلقائية ولكنها قد تفتقر إلى الدقة والتفاصيل التي يتميز بها تفكير الإنسان.
علم السلوك القائم على البحث البشري: "نظام التفكير 2" في علم السلوك
من ناحية أخرى، يمكن أن يكون ما نطلق عليه "علم السلوك القائم على البحث البشري" أكثر توافقاً مع "نظام التفكير 2"، فالبشر يتبعون نهجاً أبطأ ومدروساً أكثر ينطوي على الملاحظة الدقيقة واختبار الفرضيات وتكرارها بهدف تحسينها، كما يندمج الباحثون بعمق في سياق السلوك الذي يدرسونه وينظرون في مجموعة واسعة من العوامل التي قد لا تكون واضحة أو قابلة للقياس منذ البداية، بدءاً من العوامل المؤثرة الثقافية وصولاً إلى الاختلافات النفسية الفردية.
يسمح هذا النهج القائم على التأمل للباحثين البشر بكشف رؤى دقيقة مخصصة للسياق المحدد. على سبيل المثال، عند دراسة سلوك المستهلك، قد يجري الباحث البشري حوارات متعمقة لفهم الدوافع والعواطف التي تحفز قرارات الشراء؛ ومن الصعب أن يقلد الذكاء الاصطناعي هذه الرؤى النوعية، إذ تعتمد على التعاطف البشري وفهم الثقافة والقدرة على تفسير الإشارات الدقيقة الصادرة عن المستهلك، كما يتمتع البشر بقدرة فريدة على الإبداع في تصميم الإجراءات التدخلية لتغيير السلوك وأدوات الترغيب المبتكرة والمتناسقة مع السياق لتؤثر بفعالية في السلوك البشري المعقد. ويعزز هذا الإبداع غالباً فهم الباحثين للحساسيات الثقافية والاختلافات الفردية والاعتبارات الأخلاقية، وهي المجالات التي قد يصعب على الذكاء الاصطناعي فيها فهم هذه التفاصيل بالدقة نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون حدس عالم السلوك، كما يصفه عالم النفس الألماني، غيرد غيغيرنزر، ذكاءً غير واعٍ تصقله الخبرة وتزداد فعاليته في مواقف معينة مثل توليد الفرضيات وصنع القرارات، ولا سيما عند التعامل مع بيئات معقدة حيث قد تكون البيانات وحدها غير كافية.
ولكن هذا النهج أبطأ؛ إذ يجب على الباحث جمع البيانات وتحليلها يدوياً واختبار فرضياته غالباً من خلال تجارب تستغرق وقتاً طويلاً أو من خلال الدراسات الطولية. وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب يولّد غالباً نتائج دقيقة ومعقدة، فهو ليس عملياً في الحالات التي تتطلب رؤى أو قرارات فورية. باختصار، يجسّد علم السلوك القائم على البحث البشري خصائص "نظام التفكير 2"؛ فهو منهجي ومتأنٍّ وقادر على توليد رؤى دقيقة ومخصصة لكنه بطيء ويتطلب الكثير من الموارد.
الموازنة بين "نظام التفكير 1" و"نظام التفكير 2"
مثلما يعمل "نظام التفكير 1" و"نظام التفكير 2" معاً في الدماغ البشري للموازنة بين السرعة والدقة في صنع القرارات، يمكن أن تتعاون أدوات الذكاء الاصطناعي مع علم السلوك القائم على البحث البشري وتكمّله في سبيل فهم سلوك الإنسان بصورة أوضح وأعمق. توضح الخطوات الآتية هذا التعاون:
- المرحلة صفر - تعريف المشكلة والسياق: يجب على علماء السلوك أولاً توضيح أهداف البحث أو السلوك أو الظاهرة المراد دراستها بدعم من الذكاء الاصطناعي. تتضمن هذه المرحلة تحديد الباحثين للمعارف الحالية والأدبيات والأطر النظرية ذات الصلة بالمشكلة لضمان أن تكون تحليلات الذكاء الاصطناعي قائمة عليها، كما يتعين على الباحثين النظر بعناية في المستخدمين النهائيين للتحليل (مثل صنّاع القرار والمعلمين والمتخصصين في الرعاية الصحية) وتحديد الشخصية المناسبة التي تمثّلهم والتركيز عليها في أثناء الدراسة.
- الخطوة الأولى - استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي: يمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل مجموعات البيانات الكبيرة بسرعة، وتحديد الأنماط، وتوليد الافتراضات الأولية. تعود هذه القدرة السريعة على المعالجة بفائدة كبيرة في مجالات مثل التسويق، الذي يتطلب قرارات فورية غالباً، أو الصحة العامة، حيث تكون الاستجابة الفورية فيه مهمة لإنقاذ الأرواح.
- دور الباحثين البشر في التحليل العميق والتصميم: بمجرد أن تحدد أدوات الذكاء الاصطناعي الأنماط أو الافتراضات المحتملة، يمكن للباحثين التدخل لتأمّلها ولتقديم تحليلات أعمق، ويمكنهم دراسة السياق الذي تم أخذ البيانات منه، والنظر في التبعات الأخلاقية، وتنقيح النتائج لضمان دقتها وملاءمتها، وهذا بدوره يتيح للباحثين تصميم إجراءات تدخلية إيجابية لتغيير السلوك تتناسب مع السياق والأشخاص المعنيين.
- إنشاء حلقات تبادل المعلومات والتحسين المستمر: من خلال الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي لدعم الإشراف البشري، يمكن للمؤسسات إنشاء حلقات لتبادل المعلومات يعمل الباحثون البشر فيها على تحليل البيانات وتصميم الإجراءات التدخلية من أجل الاستمرار بصقل الرؤى التي قدمها الذكاء الاصطناعي. يسهم هذا النهج في تعزيز دقة نتائج أدوات الذكاء الاصطناعي مع مرور الوقت إلى جانب ضمان توافق الرؤى التي تقدمها مع القيم والأعراف الاجتماعية، ويساعد على منع مخاطر التحيزات المحتملة في أنظمة الذكاء الاصطناعي. التحيزات البشرية موثقة جيداً، وهي تشمل مجموعة واسعة من الأخطاء الإدراكية مثل التحيز التأكيدي والتحيز للمتوافر وغيرهما من التحيزات التي يمكن أن تشوب القرارات. ولكن على الرغم من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي مصممة لتخفيف بعض التحيزات البشرية، فمن الممكن أن تعجز عن تفادي هذه التحيزات، بل تعمل على تعزيزها عن غير قصد، وخاصة عندما تكون الخوارزميات مدرّبة على بيانات متحيزة أصلاً.
تعايش دقيق له فوائد محتملة عظيمة
تقدم نظرية "نظام التفكير 1" و"نظام التفكير 2" إطاراً قيّماً لفهم مكامن القوة ونقاط الضعف لدى كل من الذكاء الاصطناعي والباحثين البشر في علم السلوك؛ يتمتع الذكاء الاصطناعي مثل "نظام التفكير 1" بالسرعة والكفاءة ولكنه عرضة للأخطاء والتحيزات، ويتميز البحث البشري مثل "نظام التفكير 2" بالعمق والدقة ولكنه أبطأ ويتطلب موارد أكثر.
من خلال الاعتراف بالتكامل الطبيعي بين هذين النهجين، يمكننا الاستفادة من قوة كل منهما لتعميق فهمنا لسلوك الإنسان في عالم يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي؛ ومثلما يعتمد الدماغ البشري على التفكير السريع والتفكير البطيء معاً للتعامل مع تعقيدات الحياة، يعتمد مستقبل علم السلوك على التكامل المتوازن بين أدوات الذكاء الاصطناعي وخبرات البشر ما يضمن لنا صنع قرارات مستنيرة تركز على الإنسان.