تطور مفهوم "القيم المشتركة" في السنوات الأخيرة من قبل مايكل بورتر ومارك كرامير. وهو يعني توجه الشركات إلى الاهتمام بأولويات الزبون والمجموعات السكانية التي تشتغل فيها الشركات أو تسوق منتجاتها لديها. ولا تعني مقولة "القيم المشتركة" عملاً خيرياً تقدمه الشركات ولا ينم عن إحساسها بمسؤوليتها الاجتماعية، بل "هي طريقة جديدة للشركات لتحقيق الربح الاقتصادي"، كما قال مايكل بورتر ومارك كريمر.
منذ سنوات والشركات تبحث عن وسائل مبتكرة للمساهمة في تنمية المناطق الفقيرة أو المهمشة، ووضعت برامج لتشغيل ذوي الإعاقات أو الأقليات، وأسهمت في دعم الولوج إلى المدارس لأبناء مجموعات إثنية أو اجتماعية معينة، وأوجدت مؤسسات للدعم الاجتماعي أو الرعاية الاجتماعية، وبنت مرافق ومدارس ودور للطلبة. وكانت المنح المخصصة للطلبة المتفوقين من أبناء الطبقات الفقيرة لدخول الجامعة من أهم البرامج التي وضعتها الشركات للمساهمة في التنمية الاجتماعية ضمن المناطق والبلدان التي تشتغل فيها.
ويتم هذا بمنطق المساهمة في التنمية وإعادة جزء من الأرباح لمن يحتاجون إلى دعم اجتماعي. وهذه المقاربة هي مقاربة خيرية وإحسانية تنم عن إدراك متنامٍ من قبل الشركات لدورها كفاعل مجتمعي مثل الحكومات والمنتخبين والمجتمع المدني للمساهمة بالموارد والبرامج في سبيل الحد من الفقر والبطالة والتهميش والمساهمة في التنمية المحلية.
لهذا أصبحت مقولة "المسؤولية الاجتماعية للشركات" متجذرة في الكثير من الشركات واعتبارها وسيلة لتطوير إشعاع ريادة الأعمال وإعطاء علامتها المميزة بعداً اجتماعياً وخلق "علامة" (brand) مقبولة "اجتماعياً". وعملت بعض الشركات على تطوير المفهوم ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الرؤية والقيم التي تتبناها من أجل دعم الإنتاج والرفع من الأرباح كما بين ذلك اوريليان أكوير وفرانك أجيري.
وعلى الرغم من إيجابياتها المتعددة، تبقى "المسؤولية الاجتماعية للشركات" محدودة التأثير من حيث نسج علاقة متطورة ومتجددة بين السكان وشركات القطاع الخاص والعام. وفي بعض الحالات تظل مساهمتها غير مستديمة وذلك لأنها سرعان ما تتقلص حين تعرف الشركات انخفاضاً في الأرباح، أو يتم تبني استراتيجية جديدة، أو يصل فريق جديد له آراء مختلفة إلى سدة التدبير.
هناك شركات تجعل من "المسؤولية الاجتماعية" ركيزة أساسية لوجودها وعملها وإشعاع العلامة الذي تعطيه لنفسها، لكنها قليلة بالمقارنة مع تلك التي تتخلى عن هذه المسؤولية في وقت الأزمات. لهذا يوصي الدارسون بالتركيز على رضا الزبون كوسيلة لتقريب الإنجاز ممن يهمهم الأمر. يقول سيدا براستو سعيدي وسيد علي رضا سعيدي: "إن التركيز على السمعة والتميز التنافسي ورضا الزبائن ليست مسؤولية اجتماعية، بل هي أمور أساسية في تدبير التسويق وصورة الشركة وعلاقتها مع محيطها التجاري". لهذا أرى أن "المسؤولية الاجتماعية للشركات" تبقى مفهوماً محدوداً من حيث جعل المهتمين شركاء في وضع مصالح مشتركة بين الشركة وزبائنها والسكان الذين يتأثرون إيجابياً أو سلباً بعملها.
يُعتبر مفهوم "القيم المشتركة" الذي وضعه بورتر وكرايمر مهماً لتجاوز محدودية "المسؤولية الاجتماعية للشركات". إذ أكدا أن الشركات التي تتبنى مقاربة "القيم المشتركة" تحاول البحث عن حلول للمشاكل الاجتماعية لدى الزبائن من أجل الرفع من نسبة الأرباح. لهذا يتجاوزان المفهوم الإحساني/الخيري/الأخلاقي الذي له إيجابيات عدة فيما يخص زرع قيم التكافل والتضامن، لكنه يبقى غير مستدام لأنه لا يقوم على أسس تجارية محضة.
وبين ذلك الباحثون في ميدان التنوع. فلا يجب أن يكون اعتماد التنوع الاجتماعي والإثني والسوسيولوجي للرأسمال البشري العامل داخل ريادة الأعمال بدافع الأخلاق، إنما ينبغي أن يُبنى على حسابات تجارية بحتة، حيث يؤدي انخراط العاملين ورضاهم إلى رضا الزبائن ويسهم في الرفع من اقتنائهم لمنتجات الشركة والحديث عنها بشكل إيجابي. والأمر نفسه ينطبق على القيم المشتركة: يجب ألا يكون المانع أخلاقياً، بل اقتصادياً محضاً.
هناك من سيعارض هذا التوجه قائلاً: "إن القيم ليست بضاعة تباع وتشترى". وهذا أمر صحيح. ولا يعني مفهوم "القيم المشتركة" تحويل القيم إلى سلع ولكن البحث عن وسائل لجعل العمل التجاري مفيداً ومربحاً للشركة وللسكان المحليين على حد سواء. لهذا يشدد بورتر وكريمر على إعطاء أمثلة حول شركات غيّرت من طريقتها في التوزيع لإشراك موزعين محليين، أو هيئت شباب المنطقة ليعملوا موزعين أو مستخدمين، أو طورت بضائع جديدة وخدمات مكيفة حسب الطاقة الشرائية لزبائن فقراء أو من الطبقات الدنيا.
ولكن في رأيي على الشركات أن تذهب أبعد من ذلك وتشارك السكان المحليين في إبداء الرأي بالحلول المقدمة وطريقة تعليب المنتجات وتوزيعها. هذا ما يسميه خبراء "البنك الدولي" ومؤسسات أُخرى "إشراك المواطن" خصوصاً في مشاريع التنمية التي تهم السكان. ويُعتبر "إشراك المواطن" مفهوماً جديداً في التنمية، ويعني الأخذ برأي المواطنين وردودهم ومواقفهم من مشاريع التنمية والعمل على إدماج هذه الأفكار في المشاريع لكي يتبناها المواطنون، وبذلك يضمن الفاعلون استدامة المشاريع ويخلقون جواً من الشفافية والثقة فيما بينهم وبين السكان الذين يستفيدون من مشاريع التنمية.
يجب على ريادة الأعمال أن تفعل الشيء نفسه لبناء "قيم مشتركة" فعلية. يجب أن تنتقل ريادة الأعمال إلى مستوى أعلى وتعمل على "إشراك الزبون" في تحديد "القيم المشتركة". لا يقول كل من بورتر وكرايمر من هي الجهة التي تحدد "القيم المشتركة"، ويظهر من كتابتهما أن الشركات هي التي تحدد هذه "القيم". يمكن القول إنها مقاربة متفاوتة ويمكن للشركات أن تُخطئ في تحديد "القيم المشتركة". لهذا وجب التركيز على الأخذ برأي الزبون ومن يهمه الأمر. وهذا يقتضي تشاوراً، وتقييماً وفهم أولويات الزبون المحلية وحاجاته والقيم التي يؤمن بها وفهم دينامية النوع الاجتماعي وعلاقات السلطة والثقافة ما بين النساء والرجال والشباب والشيوخ وغيرهم. ولا يكفي فقط فهم الأولويات، لهذا يجب العمل على إدماج آراء الزبائن ومن يهمهم الأمر في طرق الإنتاج والتسويق والتوزيع. وهذا يتطلب مهارات خاصة، لكن يتطلب أيضاً اعتماد نموذج إنتاجي وتسويقي يتركز حول الزبون وليس على ما يظنه الخبراء أو المستشارون أنه رأي الزبون.
إلى جانب ذلك، سيستفيد رائد الأعمال العربي بدوره من مفهوم "القيم المشتركة" إذا تبناه خصوصاً في بيئة عربية تدعم قيم التكافل والتعاضد. ولكن يجب ألا تكون هذه القيم مبنية على الإحسان فقط. علماً أن الإحسان قيمة مهمة في المجتمعات العربية ولكن على ريادة الأعمال أن ترى في القيم المشتركة وسيلة لإرضاء الزبون والتكيف مع بيئته لتحقيق ربح أكثر. وعلى رائد الأعمال العربي أن يذهب أبعد ويشرك الزبون في تحديد نوعية السلع والخدمات المقدمة إليه، وهذا يقتضي طريقة جديدة في التسويق والترويج والتواصل والتوزيع. وكذلك تجاوزاً لعقلية "الشركة تفهم أكثر من الزبون". أخيراً، يساعد إشراك الزبون رائد الأعمال العربي على أن يكون أكثر تنافسية خصوصاً وأنه يفهم بيئته وثقافته أحسن وبطريقة تمكنه من أخذ آرائهم بسهولة.