لا يحظى النظام البيروقراطي بالكثير من المعجبين. إذ يقول دوغ ماكميلون، الرئيس التنفيذي لشركة وول مارت (Walmart)، إنّ البيروقراطية "شريرة". أما تشارلي مونغر، نائب رئيس مجلس إدارة شركة بيركشاير هاثاواي (Berkshire Hathaway) فيقول إنه ينبغي التعامل مع مخالبها مثل "السرطانات التي تشبها كثيراً". ويوافق جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي لشركة جيه بي مورغان تشيس (JPMorgan Chase)، على أنّ البيروقراطية "مرض". يدرك هؤلاء القادة أنّ البيروقراطية تقوّض المبادرة وتُثبط روح تحمّل المخاطر وتدمر الإبداع، إنها ضريبة على الإنجازات التي حققها البشر.
يعتقد العديد من الناس، على الرغم من إدراكهم لشرورها، أنّ البيروقراطية شر لا بد منه. ويستحضر جيمي دايمون أحد المستشارين الخارجيين الذين دافعوا عنها باعتبارها "النتيجة الحتمية للأعمال التجارية المعقدة التي تعمل ضمن بيئات دولية وتنظيمية معقدة". وبالفعل، منذ عام 1983، ارتفع عدد المدراء والمشرفين والإداريين بين صفوف القوى العاملة في الولايات المتحدة بنسبة وصلت إلى أكثر من 100%، بينما ارتفع عدد الموظفين الذين شغلوا جميع الوظائف الأخرى بنسبة 44% فقط. وفي مسح أجرته مجلة "هارفارد بزنس ريفيو"، قال ثلثا المستجيبين تقريباً إنّ مؤسساتهم أصبحت أكثر بيروقراطية خلال السنوات الأخيرة. وقد تنبأ بيتر دراكر (الكاتب الاقتصادي والذي عمل مستشاراً في مجال الإدارة) بأنه سيكون لدى المؤسسات المعاصرة نصف عدد المستويات الإدارية وثلث عدد المدراء الذين كانوا لدى نظيراتها في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، والتي كانت للأسف بعيدة عن أهدافها بسبب البيروقراطية التي كانت مزدهرة.
في هذه الأثناء، تسبب ذلك في توقف نمو الإنتاجية في كثير من الجوانب، فقد نمت إنتاجية القوى العاملة بين عامي 1948 و2004 في الولايات المتحدة ضمن أوساط الشركات غير المالية بمعدل سنوي قدره 2.5%، ومنذ ذلك الحين بلغ متوسط النمو 1.1% فقط. وتلك ليست مصادفة، إذ تُعتبر البيروقراطية شرسة خصوصاً داخل الشركات الكبرى التي أصبحت تهيمن على الاقتصاد الأميركي. ويعمل اليوم أكثر من ثلث القوى العاملة في الولايات المتحدة في شركات تضم أكثر من 5,000 موظف، حيث يُدفن هؤلاء الموظفين في الخطوط الأمامية تحت ثمانية مستويات إدارية في المتوسط.
ينظر البعض إلى الشركات الناشئة على أنها ترياقاً، ولكن على الرغم من أنّ شركات مثل أوبر وإير بي إن بي وفارفيتش وديدي شوكينغ تحصل على الكثير من اهتمام الصحافة، إلا أنّ هذه الشركات وغيرها تمثل جزءاً صغيراً من الاقتصاد. ومع توسع نطاق المشاريع الريادية، فإنهم يقعون ضحية للبيروقراطية بأنفسهم. إذ عملت شركة سريعة النمو في مجال توريد خدمات تكنولوجيا المعلومات على حشد 600 نائب لرئيس الشركة في طريقها نحو الوصول إلى مبيعات سنوية تبلغ 4 مليارات دولار.
لماذا تُعتبر الأنظمة البيروقراطية شديدة المقاومة للجهود التي تُبذل من أجل القضاء عليها؟ تكمن الإجابة في أنها تنجح جزئياً؛ إلى حد معين على الأقل. فمع وجود حدود واضحة للسلطة والوحدات المتخصصة والمهمات الموحدة، تُسهّل البيروقراطية تحقيق الفاعلية على نطاق واسع، كما أنها مألوفة دون عناء، وقلّما تتفاوت بين الصناعات والثقافات والأنظمة السياسية.
ورغم ذلك، فإنّ البيروقراطية ليست حتمية. فهناك الكثير من الأمور التي تغيرت منذ أن وضع هذا المصطلح من حوالي قرنين من الزمان. فموظفو اليوم هم من أصحاب المهارات وليسوا أميين، والميزة التنافسية تأتي من الابتكار وليس نتيجة الحجم الكبير للشركة، وأصبح التواصل آنياً وليس متعرجاً، ووتيرة التغيير تفوق سرعة الصوت وليست متجمدة.
ينتج عن هذه الحقائق الجديدة في النهاية بدائل للبيروقراطية. وربما يمكن العثور على النموذج الواعد في الشركة التي لا تبدو للوهلة الأولى نتاجاً للعصر الرقمي. وتُعتبر مجموعة هاير، التي يقع مقرها الرئيسي في مقاطعة تشاندونغ الصينية، حالياً أكبر مصنع للأجهزة المنزلية في العالم. وبإيرادات تبلغ 35 مليار دولار، فإنها تتنافس مع الأسماء الكبرى في هذا المجال مثل ويرلبول وإل جي وإليكترولوكس. في الوقت الحاضر، يعمل لدى شركة هاير حوالي 75,000 موظف حول العالم، ومن ضمنهم 27,000 موظف يعملون خارج الصين، وقد انضم العديد منهم إلى الشركة عندما استحوذت على شركة جنرال إلكتريك للأجهزة في عام 2016.
لدى المشاريع الصغيرة حرية التشكل والتطور بتوجيه مركزي محدود ولكن جميعها تتشارك في النهج نفسه من أجل وضع الأهداف والتعاقد الداخلي والتنسيق بين الوحدات.
خلال العقد الماضي، نمت أرباح شركة هاير الإجمالية عن أعمالها التجارية الأساسية في الأجهزة بنسبة 23% سنوياً، بينما ارتفعت الإيرادات بنسبة 18% سنوياً، وقد ولّدت الشركة أيضاً أكثر من 2 مليار دولار من القيمة السوقية نتيجة المشاريع الجديدة. والجدير بالذكر، أنه لم يحقق أي من المنافسين المحليين أو العالميين مثل تلك الإنجازات التي حققتها شركة هاير. ولم تكن هذه الرحلة الاستثنائية خالية تماماً من العوائق، ففي السنوات الأخيرة، أوقفت هاير أكثر من 10,000 موظف عن عملهم، إلا أنها ولدت عشرات الآلاف من الوظائف الجديدة في نظامها البيئي المتكامل المتسارع النمو. على سبيل المثال، تضم شبكة الخدمات اللوجستية في شركة هاير الآن أكثر من 90,000 سائق مستقل على مستوى الصين.
يُعتبر نجاح شركة هاير نتيجة لإصلاح جذري لنموذج الإدارة الذي كانت تتبعه في السابق. وبعد أن نظر جان رومين، الرئيس التنفيذي المتمرد لشركة هاير، طويلاً إلى البيروقراطية على أنها عائق أمام المنافسة، بذل على مدى عقد من الزمن جهوداً لتأسيس شركة يتحمل فيها الجميع مسؤولية مباشرة أمام العملاء (ويصفها بسياسة "مسافة الصفر")، حيث الموظفون فيها رواد أعمال نشيطون، ويحل نظام العمل المتكامل والمفتوح للمستخدمين والمخترعين والشركاء محل التسلسل الهرمي الرسمي.
اختزلت شركة هاير هذه الإجراءات في كلمة "ريندانهيي"، وهي مزيج من الأحرف الصينية التي تعني ربط وثيق بين القيمة التي تم خلقها للعملاء والقيمة التي يتلقاها الموظفون. ويحيد نموذج "ريندانهيي" عن القواعد البيروقراطية من خلال سبع طرق جوهرية، والتي سننظر فيها بعمق من خلال هذه المقالة.
1- من شركات متجانسة إلى مشاريع صغيرة
تتألف الشركات الكبرى غالباً من عدد قليل من الشركات المهيمنة، ولكل منها قناعاتها الخاصة حول الاستراتيجية والعملاء والتكنولوجيا. وتجعل هذه الكيانات المندمجة بقوة والثقافات الموحدة من الشركة عرضة لمنافسة غير تقليدية وتعميها عن رؤية الفرص التي تأتي بأشكال جديدة. ولتفادي هذه المخاطر، قسمت شركة هاير نفسها إلى أكثر من 4,000 مشروع صغير (MEs)، والتي يعمل في معظمها بين 10 و15 موظفاً. من المؤكد أنّ بعض تلك المشاريع، ولا سيما في مجال التصنيع، تمنح رواتب أعلى من غيرها، ولكن حتى في هذه القرارات فإنّ مَن يتخذها هي فرق صغيرة مستقلة.
وتتخذ المشاريع الصغيرة ثلاثة أشكال. أولاً، هناك ما يقرب من 200 مشروع وحدة "تحويلية" تستجيب لحاجات السوق، وتحافظ على جذورها فيما يتعلق بأعمال هاير القديمة في الأجهزة المنزلية، ولكنها تعيد ابتكار نفسها لتلائم عالمنا المعاصر الذي يركز على العملاء ويعتمد كثيراً على خدمات شبكة الإنترنت. يُعتبر مشروع "زيشينغ" (Zhisheng)، الذي يُصنّع ثلاجات خاصة بالعملاء الشباب في المناطق الحضرية، مثالاً نموذجياً.
ثانياً، هناك أكثر من 50 مشروع لـ"حاضنات الأعمال"، أو لأعمال جديدة تماماً. ويركز بعضها، مثل حاضنة "ثاندر روبوت" (Thunderobot)، على الأسواق الناشئة مثل الألعاب الإلكترونية. بينما يركز بعضها الآخر، مثل حاضنة "زينتشو" (Xinchu)، وهي ثلاجة "ذكية" تربط المستخدمين بخدمات الطرف الثالث التي تبيع الأغذية الطازجة وتسلمها خلال 30 دقيقة، على خلق نماذج أعمال جديدة من المنتجات المألوفة.
وأخيراً، هناك حوالي 3,800 مشروع "وحدة للأنشطة". تبيع هذه الأعمال التجارية منتجات وخدمات تصنيع المكونات مثل التصميم والتصنيع ودعم الموارد البشرية لمشاريع هاير التي تلبي حاجات السوق.
تعد المشاريع الصغيرة عاملاً رئيساً لتحقيق هدف زانغ في تأسيس أول شركة عالمية في مجال الأجهزة المنزلية تلائم عصر الإنترنت. وذلك يعني أكثر من مجرد تطوير المنتجات القابلة للاستخدام على شبكة الإنترنت، بل يعني أيضاً خلق نموذج تنظيمي يحاكي بنية الإنترنت، وكما صاغها عالم التكنولوجيا في جامعة هارفارد ديفيد واينبرغر: "قطع صغيرة، اقترنت ببعضها على نحو ملائم". تُعتبر شبكة الإنترنت متنوعة للغاية ومع ذلك ما تزال مترابطة، ففي حين أنها أنتجت عدداً لا حصر له من الابتكارات، إلا أنها متماسكة مع بعضها من خلال معايير تقنية مشتركة، تجعل الفضاء السيبراني موجهاً وتتيح للمواقع تبادل الموارد، كالبيانات مثلاً.
إنّ البنية النموذجية لشركة هاير مرنة ومتماسكة في الوقت نفسه على نحو مماثل لشبكة الإنترنت. وإنّ لدى مشاريعها الصغيرة حرية التشكّل والتطور بتوجيه مركزي محدود، ولكنها تتشارك جميعها في النهج نفسه فيما يتعلق بتحديد الأهداف والتعاقد الداخلي والتنسيق بين الوحدات.
2- من أهداف تدريجية إلى أهداف رئيسة
في أغلبية المؤسسات، هناك القليل من الدعم فيما يتعلق بطرح الأفكار واتخاذ الإجراءات الجريئة. ولا يتم معارضة الافتراضات القديمة إلا بعد وصول الشركة إلى طريق مسدود، لكن الأمر مختلف في شركة هاير.
كل مشروع مسؤول عن السعي إلى تحقيق الأهداف الطموحة للنمو والتحول، والمعروفة داخلياً باسم "الأهداف الرئيسة". وبدلاً من أخذ أداء العام الماضي كنقطة بداية، يتم وضع الأهداف "من الخارج إلى الداخل". وتعمل وحدة بحوث مخصصة على جمع إحصاءات عن معدلات نمو السوق في جميع أنحاء العالم لكل منتج على حدة، ثم تستخدم تلك البيانات لوضع أهداف تلك المشاريع.
يتوقع من كل المشاريع الصغيرة التي تلبي حاجات السوق تحقيق قفزة تحولية من بيع المنتجات والخدمات إلى بناء نظام بيئي متكامل.
ويُتوقع من المشاريع التي تلبي حاجات السوق أن تزيد من الإيرادات والأرباح بمعدل أربع إلى عشر مرات أسرع من متوسط القطاع. وضمن فئات المنتجات التي تتخلف فيها شركة هاير، يتم تعيين المعيار على أعلى مستوى، وذلك نظراً لوجود متسع كبير لرفع المشاركة. في المجالات التي تقودها شركة هاير، يكون الهدف أكثر تواضعاً ولكنه يبقى ضعف الحد المرجعي للسوق. وكما عبّر عن ذلك أحد قادة مشاريع هاير قائلاً: "إذا كنت تحتل المركز الثالث أو الرابع في السوق، فإنّ الأهداف الرئيسة تدفعك إلى التفكير في كيفية بلوغ المركز الأول؛ أما إذا كنت تحتل المركز الأول بالفعل، فإنها تجبرك على التفكير في كيفية توسيع نطاق دورك القيادي".
ورغم أنّ الأهداف تعتبر طموحة، فإنها تُعدل عندما تتغير الظروف. على سبيل المثال، عندما قامت الحكومة الصينية بتعديل معايير كفاءة الطاقة الخاصة بها للأجهزة بطريقة تواتي ثلاجات هاير الفعالة في الأصل، رفع مشروع "زيشينغ" من حدود أهدافه.
من المتوقع أيضاً أن يحقق كل مشروع من المشاريع التي تلبي حاجات السوق في شركة هاير قفزة تحويلية من بيع المنتجات والخدمات إلى بناء نظام بيئي متكامل. وأحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو منصة "كوميونيتي لاندري" (Community Laundry)، فبعد أن طورت تطبيقاً شهيراً للهواتف الذكية يسمح لطلاب الجامعات في جميع أنحاء الصين بجدولة تكاليف استخدام مرافق غسل الملابس الخاصة بسكنهم الجامعي ودفعها، منح المشروع الموردين الخارجيين إمكانية الوصول إلى أكثر من 9 ملايين مستخدم للتطبيق. وتستضيف منصة "كوميونيتي لاندري" اليوم العديد من الأعمال التجارية الأخرى وتستحوذ على حصة من الإيرادات التي تحققها.
تتعقب شركة هاير تحوّل كل مشروع لها من خلال تقرير "القيمة المضافة المربحة للطرفين"، والذي يسجل مقاييس مفصلة مثل مدى مشاركة المستخدم في تطوير المنتج، وكم تقدم منتجات هاير قيمة فريدة لعملائها، ونسبة الأرباح الناتجة عن إيرادات النظام البيئي المتكامل.
ومثل أشقائها في المشاريع التي تلبي حاجات السوق، فإنّ لدى وحدات أنشطة المشاريع أهدافاً رئيسة مرتبطة بالمعايير الخارجية. على سبيل المثال، قد تكون الوحدة المصنعة مسؤولة عن خفض التكاليف وخفض وقت التسليم وتحسين الجودة وتطبيق المزيد من الأتمتة على مرافق الإنتاج الخاصة بها.
3- من الاحتكارات الداخلية إلى التعاقدات الداخلية
في معظم المؤسسات، يتم عزل نسبة كبيرة من الموظفين عن قوى السوق. وهم يعملون في وظائف تُعتبر في الأساس احتكارات داخلية، مثل الموارد البشرية والبحث والتطوير والتصنيع والمالية وتكنولوجيا المعلومات والشؤون القانونية. ومهما كان هؤلاء المزودون الداخليون للخدمة غير ملائمين أو غير كفوئين، فإنه لا يمكن إيقافهم عن عملهم من قبل الوحدات التي يعملون فيها.
ضمن مجموعة هاير، لدى كل مشروع صغير حرية شراء الخدمات من غيره من المشاريع، (يكون لدى "مشروع المستخدم" العادي اتفاقات مع العديد من الوحدات). وإذا رأى قائد المشروع أنّ مزوداً خارجياً سوف يلبي حاجاته بصورة أفضل، فيمكنه التوجه إلى الخارج للحصول على الخدمات، ولا يتدخل كبار التنفيذيين في المفاوضات الداخلية.
في كل عام، يدرس كل مشروع من المشاريع التي تركز على السوق أهداف أدائه ويطرح على المعنيين السؤال التالي: "ما نوع التصميم والتكنولوجيا والإنتاج ودعم التسويق الذي نحتاج إليه لتحقيق هذه الأهداف؟" وبمجرد الحصول على الإجابات، يُطلب من الوحدات تقديم العروض. تستجيب عادة وحدتان أو ثلاث للمقترحات، وتتيح المناقشات التي تلي ذلك الفرصة لجميع الأطراف من أجل تحدي الممارسات القائمة وطرح توجهات جديدة.
قد تبدو العملية مرهقة، إلا أنها سُهلت من خلال "الإعدادات المسبقة" مثل وضع قواعد محددة مسبقاً حول اقتسام هامش الأرباح وقبول الحد الأدنى من معايير الأداء التي تقلل من الاحتكاك أثناء المفاوضات. ويمكن إعادة التفاوض بشأن الشروط على مدار عام طالما تتغير الظروف، وبالتالي تفضل هاير كلمة "اتفاق" على "عقد". أخبرنا أحد قادة المشاريع أنه استبدل العديد من وحدات الأنشطة بموردين آخرين في الأشهر الثمانية عشر الماضية. ويمكن للوحدة التي لا يمكنها تقديم خدمة تنافسية أن تخرج عن العمل.
يعتمد جزء كبير من إيرادات وحدة الأنشطة على نجاح المشروع الذي يركز على العملاء. وعندما تفشل وحدة العميل في تحقيق أهدافها الرئيسة، فإنّ الوحدة تتحمل النتيجة، وبالتالي يتم استثمار كل وحدة أنشطة في أداء الوحدات التي تلبي حاجات السوق، ويرتبط راتب كل موظف بنتائج السوق. يبالغ زانغ قليلاّ عندما يقول: "لم نعد ندفع لموظفينا في هاير، إذ يتم الدفع لهم من قبل العملاء".
لنموذج التعويضات هذا ثلاث فوائد. أولاً، لا يشجع على تقديم مستوى متوسط من الجودة، إذ تفقد وحدات الأنشطة التي لا تقدم مستويات عالية من الخدمة عملائها الداخليين. ثانياً، يوحّد هذا النموذج الجميع حول هدف خلق تجارب رائعة للعملاء، فعندما يبدو أن أحد مشاريع المستخدم معرضاً لخطر عدم تحقيق أهدافه، فإنّ ممثلي جميع وحدات مورديه يجتمعون بسرعة من أجل إيجاد حل للمشكلة. ثالثاً، يزيد من المرونة: حيث تتمتع المشاريع التي تلبي حاجات السوق بحرية إعادة تشكيل شبكتها من مزودي الخدمة عندما تبرز فرص جديدة.
4- من التنسيق التنازلي إلى التعاون الطوعي
كيف تعمل شركة لديها أكثر من 4,000 وحدة تشغيل مستقلة على مزامنة الاستثمارات الكبرى في التكنولوجيا والمرافق؟ وكيف تبني مؤهلات على مستوى الشركة مثل أتمتة التصنيع؟
في الشركات الناشئة، يحدث التنسيق تلقائياً. فعندما يكون هناك مشكلة، يكتفي المعنيون بالاجتماع ومناقشة الأمور. وعندما تنمو الشركة وتصبح وحدات التشغيل فيها أكثر انعزالاً، يصبح التنسيق أكثر صعوبة. وينطوي الحل النمطي على تفعيل المزيد من الطبقات الإدارية والصلاحيات والوظائف على مستوى الشركة.
لدى شركة هاير منهج مختلف، فهي تنظم جميع مشاريعها ضمن منصات. وتجمع بعض المنصات بين المشاريع التي تعمل ضمن فئة مشابهة، مثل المنتجات الخاصة بأجهزة التنظيف أو المنتجات السمعية البصرية. بينما يركز بعضها الآخر على بناء كفاءات جديدة، مثل التسويق الرقمي والتخصيص الشامل. وتضم منصة الصناعة النموذجية أكثر من 50 مشروعاً صغيراً، (انظر إلى مخطط "مبدأ تنظيمي جديد" لصورة مأخوذة لإحدى اللقطات).
تتمثل مهمة المسؤول عن المنصة في جمع فرق المشروع معاً ومساعدتهم على تحديد فرص التعاون، مثل تطوير الخبرة في مجال إنترنت الأشياء. والأهم من ذلك، أنه لا يوجد مرؤوسون مباشرون للمسؤول عن المنصة، وهو ليس مسؤولاً في الأساس عن طاقم عمل. إليك كيف يصف وو يونغ، المسؤول عن منصة منتجات التبريد، دوره في جعل المشروع يتبنى تقنية جديدة تمنع تشكل الصقيع، وهي خطوة تطلبت تحديثاً مكلفاً لمرافق الإنتاج: "لقد ساعدت في تسهيل العملية، لكن فرق المشروع هي التي خططت بين بعضها البعض ونفذت المهمة".
ولادة مشروع صغير
في شهر مايو/أيار من عام 2013، بدأ لو كايلين برفقة ثلاثة من زملائه في شركة هاير، ببناء كمبيوتر محمول لألعاب الفيديو. لقد بدا المؤشر الإيجابي هائلاً، وقد عزز ارتفاع مستويات الدخل وأسعار التكنولوجيا الأرخص من أي وقت مضى الطلب على الألعاب عبر الإنترنت، بينما لم تكن أجهزة الكمبيوتر المحمولة في السوق الموجهة نحو قطاع الأعمال مناسبة للألعاب الاحترافية.
كانت خطوة الفريق الأولى هي التمعن في أكثر من 30,000 مراجعة عبر الإنترنت فيما يتعلق بأجهزة الكمبيوتر الشخصية الخاصة بالألعاب. وبعد أن استخلص لو وزملاؤه 13 مشكلة محددة كتبوا رسالة إلى تشو تشاو لين، رئيس منصة هاير التي شملت الأعمال المتعلقة بالكمبيوتر المحمول، متوسلين إليه عقد اجتماع. كان تشو في البداية متشككاً حول المشروع، ويقول: "كانت غريزتي الأولى تميل إلى إلغاء المشروع". ولكنه أدرك بعد ذلك أنه في الواقع؛ ليس هو الشخص الذي يجــب عليه اتخاذ هذا القرار، ويقول: "فيما يتعلق باتخاذ القرارات، علينا أن نسمح للمستخدمين ورواد الأعمال، وليس المدراء، بالتحدث". ثم منح الفريق رأس مال صغير قدره 1.8 مليون يوان صيني، (أي ما يعادل 270,000 دولار)، مع إدراك أنّ المزيد من التمويل مشروط باختبار ناجح للسوق.
بدأ الفريق في إنتاج جهاز كمبيوتر محمول جديد بمساعدة شركاء خارجيين مثل شركة كوانتا كمبيوتر (Quanta Computer)، وهي شركة تايوانية تصنّع أجهزة كمبيوتر لشركة ديل وهيوليت-باكارد (آتش بي). وبحلول شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2013، أي بعد سبعة أشهر فقط من بدء العمل، كان المشروع جاهزاًً لتقديم المنتج. وتم الاستعانة بموقع جي دي دوت كوم (JD.com)، وهو موقع صيني للتجارة الإلكترونية، من أجل الدفعة الأولى المؤلفة من 500 جهاز كمبيوتر محمول ذات الألوان الزاهية والتصميم الجريء، والتي بيعت في غضون خمسة أيام. وبعد بضعة أسابيع بيعت دفعة ثانية، مؤلفة من 3,000 وحدة، في غضون 20 دقيقة. نظراً إلى ذلك النجاح المبهر، صاغ أعضاء الفريق خطة عمل تفصيلية، وفي شهر أبريل/نيسان من عام 2014، وحصلوا على مبلغ إضافي قدره 1.2 مليون يوان من شركة هاير، وأضافوا إليه مبلغ 400,000 يوان من أموالهم الخاصة مقابل 15% من الحصة، وانضمت شركات رأس المال الجرئ في جولات التمويل اللاحقة.
بعد فترة قصيرة من مضي ثلاث سنوات، تم الإعلان عن مشروع "ثاندر روبوت" في سوق نيك (NEEQ) الصيني للأوراق المالية بقيمة 1.2 مليار يوان (أي حوالي 180 مليون دولار). وبوجود طاقم عمل مؤلف من 80 شخصاً، يُعتبر المشروع اليوم رائداً في مجال تصنيع أجهزة الكمبيوتر المحمولة للألعاب الإلكترونية في الصين، كما أنه يحقق إنجازات كبيرة في الأسواق الآسيوية الأخرى. وبعد التعلم من الشركة الأم، ولّد مشروع "ثاندر روبوت" مشاريعه الناشئة الخاصة، والتي تتضمن عملاً تجارياً يبثّ ألعاب الفيديو، ومنصة لتنظيم فرق الرياضة الإلكترونية والمباريات، ومشروع يغزو تكنولوجيا الواقع الافتراضي.
لدى المسؤولين عن المنصات أهداف رئيسة ويُتوقع منهم تنمية منصاتهم من خلال تطوير مشاريع صغيرة جديدة. في عام 2014، على سبيل المثال، وبدافع من هدف شركة هاير في أن تصبح الشركة الرائدة عالمياً في مجال الأجهزة المنزلية الذكية، عمل وو يونغ على تمويل مشروع "زينتشو" الجديد لإنتاج ثلاجات متصلة بشبكة الإنترنت. ويوضّح هذا أنّ المسؤولين عن المنصات هم رواد الأعمال بقدر ما هم جهات ميسرة للأعمال.
تساعد وحدات أنشطة "الدمج" الموجودة ضمن كل منصة صناعية المشاريع الصغيرة على استيراد التكنولوجيا على مستوى شركة هاير، وتحديد الشركاء الداخليين الذين يمكنهم المشاركة في الاستثمار في مبادرات جديدة. وعلى غرار المسؤولين عن المنصات، تشجع وحدات الدمج على التعاون بدلاً من فرض السلطة.
تعتمد المشاريع الصغيرة أيضاً على خبرة المنصات التي تركز على الكفاءة. ومن أهمها منصتي التصنيع والتسويق الذكيين، وتوظف كل منهما أقل من 100 شخص. وتعمل أكبر وحدة أنشطة ضمن منصة التصنيع على تزويد الدعم الفني للتخصيص الشامل للمنتجات. وتوزع وحدة أخرى، هي وحدة الهندسة الذكية، أدوات إنتاج متقدمة للشركة.
الدور الأساسي لمنصة التسويق هو تزويد العملاء بالمعلومات. وفي حين أنّ كل مشروع مستخدم يجمع مقداراً هائلاً من المعلومات عبر قنواته على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ وحدة أنشطة "البيانات الضخمة" الخاصة بمنصة التسويق تدمج المعلومات من الموقع الإلكتروني لشركة هاير ومن مصادر أخرى داخل الشركة وخارجها. تتمثل الفكرة في الكشف عن الرؤى على مستوى الشركة وبناء نماذج تنبؤية تساعد المشاريع الصغيرة على الاستجابة إلى حاجات العملاء الجديدة. على سبيل المثال: إصدار تنبيه للمشاريع الصغيرة على المنصة الخاصة بمنتجات أجهزة التنظيف أنّ أحد العملاء اشترى ثلاجة وفرناً وقد يكون بصدد تجديد أجهزة منزله، ما سيتطلب منه شراء غسالة جديدة أيضاً.
ورغم أنّ منصات التسويق والتصنيع تضع معاييراً من أجل الوسائل البصرية للعلامة التجارية وبرمجيات أتمتة المصنع على سبيل المثال، إلا أنها تصدر القليل من الأوامر. ومثل الوحدات الأخرى في هاير، فإنّ لديها حصة مالية من تحقيق النجاح لعملائها الداخليين.
يتمثل الجزء الأخير من جهد المتسابقين من أجل تقديم التعاون الداخلي في مسؤولية هاير المشتركة تجاه العملاء. فعندما بدأت عدة مشاريع على سبيل المثال في معرفة أنّ المنتجات الذكية لشركة هاير لم تتعرّف على بعضها البعض، عقدوا اجتماعاً وتوصلوا إلى "صفقة كبيرة" بحيث يقدم مشروع "زينتشو " منصة برمجية مشتركة للأجهزة المتصلة بشبكة الإنترنت التابعة للشركة، في حين أنّ المشاريع الأخرى سوف تسهم في بحوث العملاء ودعم التقنيات. ويشمل النظام البيئي المشترك، "زيكوك" (XCook)، اليوم 100 مليون مستهلك نهائي و400 شريك.
في معظم الشركات، ما يعنيه التنسيق هو التضحية بالسرعة والاستجابة لرفع الكفاءة. ويعتقد زانغ أنّ أفضل من يعمل على مثل هذه المقايضات هم أولئك الأقرب إلى العملاء، وبموجب ذلك فإنّ لدى المشاريع الصغيرة الحرية الخاصة باختيار أين سيتم التعاون ومتى.
بالعودة إلى عبارة واينبرغر " قطع صغيرة، اقترنت ببعضها على نحو ملائم"، فإنّ الربط بين المشاريع الصغيرة هو قطعاً فضفاضاً لكنه يبقى ملائماً بما يكفي ليضمن أنّ شركة هاير تستغل حجمها ونطاقها على أفضل وجه. وقد تبين حقاً أنه يمكن تحقيق التنسيق دون إضفاء الطابع المركزي.
5- من الحدود الصارمة إلى الابتكار المفتوح
تتصف الأنظمة البيروقراطية بالانعزالية، وعادة فإنها تميّز بدقة بين الأفراد داخل المؤسسة وخارجها، وتتميز بالسرية والإحجام عن الاستعانة بشركاء خارجيين لأداء مهامها الأساسية. وتكمن المشكلة في النظام المغلق أنه لا يتكيف، بل إنه يعاني من الضمور. وانطلاقاً من إدراك ذلك، لا ترى هاير نفسها كشركة بل كمركز ضمن شبكة واسعة جداً. وتُعتبر الآثار المترتبة على تلك الرؤية عميقة.
لا تحصل العروض الجديدة في شركة هاير على ميزانية كبيرة حتى يصادق المستخدمون عليها. خذ مثالاً نموذج جهاز "إير كيوب" (Air Cube)، الذي تم بيعه وهو في مرحلة ما قبل الإنتاج إلى 7,500 شخص على موقع تمويل جماعي.
أولاً، يُطور كل منتج أو خدمة جديدة في هاير في الخارج. على سبيل المثال، عندما بدأت الشركة في بناء مكيف هواء منزلي جديد، استخدمت موقع بايدو للتواصل الاجتماعي للطلب من المستخدمين المحتملين مشاركة حاجاتهم وتفضيلاتهم، وانهال على الشركة أكثر من 30 مليون رد. ودعا لي يونغفنغ، رئيس المشروع، أكثر من 700,000 مستخدم إلى التعمق أكثر ومشاركة أفكارهم حول المشاكل الرئيسة وميزات المنتج المفصلة. وعلى نحو غير متوقع، كانت المخاوف الكبرى متمحورة حول خطر الإصابة بمرض حمى الفيلق، لذا أصبح العمل على الحد من هذا الخطر أولوية رئيسة وقد أدى ذلك إلى إعادة التفكير جذرياً في شفرة مروحة الجهاز.
ثانياً، جمعت شركة هاير شبكة تضم 400,000 "جهة تتقن حل المشاكل"، وهم مؤسسات وخبراء تقنيين من جميع أنحاء العالم، يساعدون الشركة على مواجهة التحديات ضمن حوالي 1,000 مجال. وتم نشر أكثر من 200 مشكلة سنوياً على منصة النظام التشاركي المفتوح لشركة هاير (HOPE). على سبيل المثال، طلب فريق لي المساعدة في تصميم الشفرات لمكيف الهواء الجديد، وجذب ذلك التحدي في غضون أسبوع عدة مقترحات، وكان التصميم الفائز، الذي يحاكي شفرات محرك طائرة توربينية، قد قُدم من قبل باحثين في مركز بحوث وتطوير الديناميكا الهوائية في الصين (China Aerodynamics Research and Development Center). إجمالاً، ساهمت 33 مؤسسة في تطوير مكيف الهواء، وعند إطلاقه في نهاية عام 2013، حقق مشروع "تيانزون ويند تانل" (Tianzun Wind Tunnel) نجاحاً فورياً.
في المشاريع الجماعية مثل "تيانزون"، تخلق شركة هاير "طاقم عمل" يشارك فيه شركاء هاير سراً براءات اختراعاتهم، مع علمهم المسبق أنهم سيكافؤون إذا تم استخدام تقنيتهم في المنتج النهائي. ويحصل الموردون الذين يساهمون في عملية التصميم الأولى أيضاً على الأفضلية عندما يتعلق الأمر باختيار الموردين.
من خلال نقل عملية تطوير منتجاتها عبر الإنترنت، خفضت شركة هاير الوقت بين زمن طرح الفكرة وإطلاقه في السوق بنسبة تصل إلى 70%. وﺗﻌﻣل وحدات أنشطة اﻟﺗﺻﻧﯾﻊ واﻟﺗﺻﻣﯾم، ومشاريع المستخدم واﻟﻌﻣﻼء اﻟﻣﺣﺗﻣﻟﯾن واﻟﺷرﮐﺎء اﻟﺗﺟﺎرﯾﯾن بالتوازي في جميع المراحل، ﺑدءاً ﻣن اﻟﻣﻧﺎﻗﺷﺎت اﻷوﻟﯽ ﺣول حاجات اﻟﻌﻣﯾل. إنّ ذلك يرفع من احتمال إيجاد حلول مبتكرة ويقلل من مخاطر عمليات التسليم غير المتقنة بينما ينتقل المنتج نحو عملية الإطلاق في السوق. وفي حين يرى العديد من المسؤولين التنفيذيين أعمالهم كسلسلة قيمة، بدءاً بالبحث والتطوير وانتهاء بالمبيعات والدعم، فإنّ شركة هاير تعتبرهم "شبكات" قيمة تتعاون فيها جميع الأطراف في كل مرحلة.
وهناك سمة ثالثة لالتزام شركة هاير بالانفتاح، وهي استعانتها بالمصادر الخارجية لجمع الآراء حول المنتجات وتحمل تكاليف التطوير. ويُعتبر هذا في جزء منه استجابة لسياسة الشركة في "التمويل الصفري"، إذ لا تحصل العروض الجديدة على ميزانية كبيرة حتى يُصادق المستخدمون عليها. خذ مثالاً جهاز "إير كيوب" (Air Cube)، وهو مزيج غير مسبوق من جهاز ترطيب الجو وجهاز تنقية الهواء. خلال فترة بناء الجهاز، قدم أكثر من 800,000 "معجب" عبر الإنترنت آرائهم حول ذلك الجهاز. وبمجرد أن أصبح النموذج الأولي جاهزاً، تم إتاحته على موقع رائج للتمويل الجماعي، إذ اختار أكثر من 7,500 شخص شراء نموذج ما قبل الإنتاج. وقد ساعدت ملاحظاتهم شركة هاير على تحسين "إير كيوب" قبل إطلاقه الرسمي.
أخيراً، تستخدم شركة هاير منصة النظام البيئي التشاركي المفتوح وغيرها من المنصات عبر الإنترنت لتوظيف المواهب. ويقود العديد من هذه المشاريع أشخاص انضموا إلى الشركة بعد تقديمهم لمساهمات مميزة عبر الإنترنت. يلخص تان ليكسيا، رئيس الشؤون المالية في شركة هاير، عقلية الشركة فيما يتعلق بالابتكار المفتوح على هذا النحو: "حدود الشركة ليست مهمة، فإذا كان بإمكانك المساعدة في خلق قيمة للمستخدمين، لا ينبغي أن يكون مهماً إذا كنت موظفاً أم لا".
6- من فوبيا الابتكار إلى ريادة الأعمال على نطاق واسع
هناك سبب يجعل الشركات الجديدة تتفوق على الشركات الكبرى مراراً وتكراراً، وهو أنّ البيروقراطية متحفظة في جوهرها. ويعبّر لورانس بيتر، مؤلف كتاب "مبدأ بيتر" عن ذلك بقوله: "تدافع البيروقراطية عن "الوضع الراهن" منذ زمن طويل، لدرجة أن يفقد الأمر الواقع مكانته". ومن أجل مواجهة هذا التقديس لما هو قائم، أنشأت العديد من الشركات مراكزاً خارجية في وادي السليكون وغيرها من المناطق الساخنة التي تعزز الابتكار.
بالمقابل، حولت شركة هاير مؤسستها بالكامل إلى مصنع يشبه في عمله الشركات الريادية الناشئة. وتمثّل مشاريع حاضناتها التي يبلغ عددها 50 حاضنة فردية حالياً أكثر من 10% من قيمة شركة هاير في سوق الأوراق المالية. وتدير تلك الحاضنات سلسلة "هايريونجي" (Hairyongi)، المشروع الناشئ في مجال التكنولوجيا المالية الذي يحوّل القروض إلى أوراق مالية (أو ما يسمى بالتوريق) من أجل الأعمال التجارية الصغيرة، لا سيما موردين وموزعين شركة هاير، ثم يحولها إلى "إكسبريس كابينتس" (Express Cabinets)، وهي شبكة من وحدات التخزين التي تسمح للمزارعين المحليين بتسليم محصولهم مباشرة إلى المستهلكين في حوالي 10,000 مجتمع محلي. (للمزيد حول كيفية قيام شركة هاير ببناء مشاريع جديدة، انظر الفقرة الجانبية "ولادة مشروع صغير").
هناك ثلاث طرق لإطلاق عمل تجاري جديد في شركة هاير. في الحالة الأولى والأكثر شيوعاً، ينشر أحد رواد الأعمال الداخليين فكرة عبر الإنترنت ويدعو الآخرين إلى المساعدة في بلورة خطة عمل ناشئة. (هكذا بدأ زانغ يي، الذي كان في ذلك الوقت مديراً لخدمات ما بعد البيع ويعمل في هذا المجال، بمشروع "إكسبريس كابينيتس"). ثانياً، يمكن للمسؤول عن إحدى المنصات أن يدعو أفراداً داخل المؤسسة وخارجها من أجل تقديم مقترحات لاستغلال فرص ما يسمى الفضاء الأبيض (أو المكان الذي يُكشف فيه عن الحاجات غير الملباة من أجل خلق فرص للابتكار). ثالثاً، يمكن لرواد الأعمال المحتملين الترويج لأفكارهم في أحد العروض المتنقلة الشهرية التي تنظمها شركة هاير على مستوى الصين، والتي تربط بين المبتكرين المحليين وقادة المنصات وأعضاء منصة الاستثمار والابتكار الخاصة بشركة هاير.
كل مشروع حاضنة هو عبارة عن كيان قانوني منفصل، ممول جزئياً من قبل الفريق المؤسس. وطالما يدرك قادة شركة هاير أنهم قد لا يكونون قادرين على الحكم على مزايا فكرة جديدة، فهم غالباً ما يحتاجون إلى فريق لبدء العمل من أجل الحصول على تمويل خارجي من أحد شركاء رأس المال المغامر (أو ما يعرف برأس المال الجريء) للشركة قبل الموافقة على المساهمة بموارد داخلية. في الآونة الأخيرة، تلقى تسعة من أصل 14 مشروعاً أُسسوا حديثاً استثماراً خارجياً قبل الحصول على المال من شركة هاير. على الرغم من ذلك، غالباً ما ينتهي الأمر بحصول هاير على الحصة الكبرى في المشاريع الناشئة، لأنه عادة ما يكون لديها خيار شراء شركائها في المشروع باستخدام نموذج التقييم المسبق.
ومثل الوحدات الأخرى داخل شركة هاير، فإنّ عقد مشاريع الحاضنات مع وحدات الأنشطة هو من أجل التطوير والتوزيع والدعم الإداري. وتسمح الاتفاقات الداخلية المستقلة للمشاريع حديثة العهد بتعزيز حجم وقوة التفاوض في شركة هاير بينما تتجنب مخاطر التدخل البيروقراطي.
من أجل توضيح نزعة هاير لريادة الأعمال، يقول أحد رؤساء مؤسسات رأس المال المغامر أو (ما تعرف بمؤسسات رأس المال الجريء): "إنّ المشاريع الصغيرة تشبه وحدة الاستطلاع، فهم يعملون على مسح ساحة المعركة وتحديد أكثر الفرص الواعدة، إنها مثل أداة بحث عملاقة". وتدرك شركة هاير أنّ الابتكار دائماً عبارة عن لعبة أرقام، والسبيل الوحيد لإيجاد فرصة المليار دولار التالية هي إطلاق عدد كبير من المشاريع الناشئة ومنح كل منها حرية السعي وراء حلمه.
7- من موظفين إلى مالكين
في الشركات الناشئة، يميل الناس إلى التفكير والتصرف مثل المالكين. وغالباً ما يملكون أسهماً في المشروع، وحتى أنّ البعض قد يخاطر برأس المال الخاص به على أمل تحقيق أرباح كبيرة. وتتمتع فرق تلك المشاريع أيضاً بدرجة كبيرة من الاستقلالية، ولا يُلقى اللوم على أحد في حال ساءت الأمور. هذا المزيج من كسب المزايا والحرية والمسؤولية هو الذي يجعل الشركات الناشئة تتفوق.
بحثت دراسة أجريت على 780 شركة أميركية نُشرت من قبل المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (إن بي إي آر) (National Bureau of Economic Research) الرابط بين مشاركة المكاسب والاستقلالية ومعدلات دوران الموظفين الطوعي، والذي استخدمه المؤلفون كبديل لمشاركة الموظفين. وقد تبين أنه لم يكن لمشاركة المكاسب ولا للاستقلالية بمفردها تأثير كبير على معدلات دوران الموظفين. ولكن في الشركات التي قدمت كلا الأمرين للموظفين، كان معدل دوران الموظفين الطوعي أقل من نصف المعدل الذي لوحظ عند تقديم أحد هذين الشرطين أو عدم تقديم أي منهما.
هذا يبدو منطقياً، إذا أنه بزيادة سلطة الموظفين دون رفع المزايا، فقد تُعتبر المسؤولية الإضافية عبئاً ثقيلاً. وفي المقابل، إذا كنت تمنح الموظفين أسهماً دون زيادة سلطتهم، فسيبقى الشعور داخلهم بأنهم أتباع.
في شركة هاير، يُتوقع من المشاريع الصغيرة أن تكون ذاتية الإدارة، وتمتعهم بحرية اتخاذ القرارات وتنفيذ الإجراءات مجسدة رسمياً في ثلاثة حقوق:
الاستراتيجية. الحق في اتخاذ القرارات بشأن الفرص التي سوف يسعون وراءها، وتحديد الأولويات، وتشكيل الشراكات الداخلية والخارجية.
إدارة الأفراد. الحق في اتخاذ قرارات التوظيف، والمواءمة بين الأفراد والأدوار، وتحديد علاقات العمل.
توزيع الأرباح. الحق في تحديد معدلات الرواتب وتوزيع المكافآت.
تُمنح هذه الحقوق مع درجة متناسبة من المسؤولية. ويتم تقسيم الأهداف إلى أهداف ربع سنوية وشهرية وأسبوعية خاصة بكل عضو في فريق المشروع. إنّ هذا يجعل من السهل معرفة من يلبون توقعات الأداء عن سواهم. ويقترن التعويض بأداء الشركة إلى درجة كبيرة، وكما هو الحال في معظم الشركات الناشئة، فإنّ الرواتب الأساسية منخفضة، وترتبط فرص الحصول على تعويض إضافي بثلاثة مستويات للأداء:
الحد المرجعي. عندما يتجاوز نمو مبيعات المشروع وأرباحه الربع سنوية الهدف الأساسي، يحصل أعضاء الفريق على مكافأة تتناسب مع المقدار الذي تجاوزه الهدف.
آلية القيمة المعدلة (VAM). إذا حقق المشروع هدفاً عند منتصف المدة بين الحد المرجعي الربع سنوي والأهداف الرئيسة، تتم مضاعفة مكافأة الفريق. على هذا المستوى، يُسمح للموظفين أيضاً بالمساهمة بأموالهم الخاصة، وعادة ما تكون 15,000 يوان صيني (حوالي 2,200 دولار) في كل ربع سنة؛ يُضاف إلى حساب استثمار مميز. وإذا حقق الفريق هدف القيمة المعدلة في الربع التالي، فإنّ ذلك الاستثمار يُنتج عائداً بنسبة 100%.
الهدف السنوي لآلية القيمة المعدلة. عندما يحقق فريق المشروع هدف القيمة المعدلة الخاص به لأربع فصول متتالية، يصبح مؤهلاً للمشاركة في الربح. ويتم توزيع العشرين في المائة من أرباح المشروع الصافية التي تزيد عن هدف القيمة المعدلة على الفريق، ولكن يُخصص 30% من هذا المبلغ من أجل تمويل مكافآت العام التالي. مع اقتراب المشروع من هدفه الرئيس، تزداد حصة الربح على نحو متناسب، وقد تتجاوز أحياناً نسبة 40%.
هذا المزيج من المكافآت والعوائد ومشاركة الأرباح يعطي الموظفين فرصة الحصول على تعويضات ضخمة.
ومع وجود الكثير على المحك، لا غرابة في أن يكون لدى أعضاء فريق المشروع القليل من التسامح مع القادة غير المؤهلين. فإذا فشل أحد المشاريع في تحقيق أهداف الحد المرجعي الخاص به لمدة ثلاثة أشهر على التوالي، يتم تفعيل احتمالية تغيير القيادة تلقائياً. وإذا حقق المشروع أهدافه الأساسية ولكنه فشل في الوصول إلى أهداف القيمة المعدلة الخاصة به، فإنّ تصويت ثلثي أعضاء المشروع يمكن أن يطيح بالقائد الحالي.
يتم اختيار القادة الجدد على أساس تنافسي. وعادة ما يقدم ثلاثة أو أربعة مرشحين خططهم لفريق المشروع. وتكون المناقشات مكثفة، إذ يُصر أعضاء الفريق على الحصول على تفاصيل حول خطة القادة المرتقبين من أجل العودة إلى المسار الصحيح. وفي بعض الأحيان، يرفض الفريق قائمة المرشحين بأكملها وتنتقل عملية البحث إلى الجولة الثانية.
كما أنّ القادة أصحاب الأداء الضعيف معرضون أيضاً للاستيلاء غير الودي على مناصبهم، إذ يمكن لأي شخص في هاير والذي يعتقد أنه قادر على إدارة المشروع المتعثر على نحو أفضل أن يُرشح نفسه من أجل قيادة فريقه. تتسم بيانات أداء كل مشروع بالشفافية على مستوى الشركة، لذا من السهل تحديد فرص الاستيلاء على الدور القيادي. وإذا كانت خطة ذلك الشخص الدخيل مقنعة، فسوف ينجم عن ذلك تغيير القيادة. قد يبدو هذا أمراً مبالغاً فيه، ولكنه ببساطة نظير لنهج السوق في السيطرة على الشركات، فإذا كان أداء الشركة سيئاً باستمرار، يعمل مجلس إدارتها على تنحية الرئيس التنفيذي، أو قد يتم شراء الشركة من قبل منافس يعتقد أنه قادر على إدارة الأصول على نحو فعال.
في معظم الشركات الكبيرة، تكون فرص كسب المزايا متواضعة، وتتجاوز غالباً نسبة 10% أو 20% من الراتب الأساسي. وتكون الرسالة الضمنية من المسؤولين التنفيذيين إلى الموظفين: "لا نعتقد أنه بإمكانكم تقديم الكثير الذي من شأنه إحداث فرق جوهري بالفعل في شركتنا". ونظراً للافتقار إلى التمتع بالحرية وكسب المزايا، فإنّ موظفي الخطوط الأمامية لا يملكون الكثير من الخيارات؛ سوى التعايش مع هذه التوقعات الهزيلة، وبذلك تُعزز فكرة عدم ثقة الإدارة بقدراتهم. وعلى خلاف ذلك، تعمل شركة هاير كل ما هو ممكن من أجل تحويل الموظفين إلى مالكين. وهنا نلمس التفسير الأعمق لسجل شركة هاير الناجح في القطاع في مجال النمو والابتكار. على عكس شركة علي بابا أو تنسنت، لا تُعتبر شركة هاير واحدة من نجوم الاقتصاد الجديد في الصين. فقد كانت هاير قبل ثلاثين عاماً مؤسسة مملوكة للدولة وتعاني من تحول أعمالها إلى منتجات ذات جودة مشكوك فيها. أما اليوم فقد أصبحت نموذجاً لدراسة حالة ما يمكن إنجازه عندما ترغب شركة قائمة في تحدي الهياكل السلطوية للبيروقراطية وممارسات القواعد الخانقة. من كان يتصور أنه من الممكن إدارة شركة عالمية كبرى من خلال مستويين للإدارة فقط بين فرق الخطوط الأمامية والرئيس التنفيذي؟
هاير التي نراها اليوم أمضت قرابة عقد من الزمن وهي في طور التكوين. فقد بدأت الشركة اختبار مفهوم الفرق الريادية الصغيرة في مجال المبيعات والتسويق في عام 2010. وبعد ذلك بعام واحد، تم تقديم فرق الإدارة الذاتية ضمن وحدات المنتج. كانت تلك الاختبارات الأولية مفيدة، ففي البداية كانت التعاقدات الداخلية إشكالية، وكانت المفاوضات مطوّلة وعدائية بسبب سعي كل وحدة إلى تحقيق أقصى قدر من نجاحها الخاص. وتمثل الحل في إدراج بند يربط التعويض بنتائج السوق، وقد قللت تلك السياسة من الاحتكاك ورفعت من مستوى المواءمة، ما حول المجموع الصفري إلى جهد مشترك من أجل خلق قيمة للعملاء.
وكما يذكر زانغ زملائه في كثير من الأحيان، من غير الممكن هندسة نظام معقد من الأعلى إلى الأسفل، بل يجب أن ينشأ من خلال عملية تكرارية من الخيال والتجريب والتعلم. وعندما سُئل عن كيفية تمكّن هاير من تسريع تحولها، كان لديه إجابة بسيطة: أطلق المزيد من التجارب، وكرر أكثر تلك التجارب نجاحاً بسرعة أكبر، لأنّ أفضل سبيل لتحقيق الأهداف الثورية هي من خلال وسائل ثورية.
على مدى عقود من الزمن، عملت معظم الشركات بجدية على تحسين عملياتها، وقد سارعت في الآونة الأخيرة إلى رقمنة نماذج أعمالها. وبقدر ما يكتسي ذلك من أهمية، عملت شركة هاير على تنفيذ إجراء أكثر أهمية، إذ أنها أضفت الطابع الإنساني على نموذج إدارتها. وكما ذكر زانغ خلال اجتماع عُقد منذ فترة طويلة مع أحد مؤلفي هذه المقالة: "نريد أن نشجع الموظفين على أن يصبحوا رواد أعمال لأنّ الموظفين ليسوا وسيلة لتحقيق غاية بل هم غاية في حد ذاتهم. هدفنا هو جعل كل شخص الرئيس التنفيذي لشركته الخاصة، ومساعدة الجميع على إدراك إمكاناتهم". إنّ نموذج الإدارة التمكينية والمحفزة في شركة هاير هو نتاج السعي الدؤوب من أجل تحرير البشر في أماكن العمل من قيود البيروقراطية.