دراسة: إحراز تقدُم بسيط يومياً أفضل طريقة لتحفيز نفسك ومن حولك

15 دقيقة
مبدأ التقدم
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ما أفضل طريقة لتحفيز العمل الابتكاري في المؤسسة؟ تخفي قصص أشهر المبتكرين في ثناياها إشارات مهمة على الإجابة؛ إذ تبين أن أي عالم أو خبير تسويق أو مبرمج أو موظف معارف مغمور لديه قواسم مشتركة مع هؤلاء المبتكرين المشهورين أكثر مما يتخيله المدراء، فكل هؤلاء يعيشون الأحداث نفسها التي تؤجج مشاعرهم وتغذي دافعيتهم وتطلق العنان لتصوراتهم في العمل يومياً.

في كتاب “اللولب المزدوج” (The Double Helix) الذي دوّن فيه العالم جيمس واتسون مذكراته في عام 1968 عن اكتشاف بنية الحمض النووي، يصف ما اختبره مع زميله فرانسيس كريك من تقلبات في المشاعر وعثرات في أثناء تقدمهما في العمل الذي كان سبباً في حصولهما على جائزة نوبل. فبعد الحماس الذي اجتاحهما عند بناء نموذج الحمض النووي لأول مرة لاحظا بعض الأخطاء الجسيمة فيه، ويقول واتسون: “لم تكن الدقائق الأولى مع النماذج سارّة، ولاحقاً في ذاك المساء بدأت تتجلى لنا صيغة رفعت معنوياتنا من جديد”. ولكن عندما عرضا “اكتشافهما” على زملائهما لاحظا أن النموذج لم يكن صالحاً، ومرت عليهما أيام حالكة تصارعا فيها مع الشك والإحباط، وعندما توصلا في النهاية إلى الابتكار الحقيقي الذي لم يجد زملاؤهما عيباً فيه. يصف واتسون شعوره قائلاً: “ارتفعت روحي المعنوية بدرجة كبيرة حين شعرت أني توصلت إلى حلّ اللغز”. بلغ حماس واتسون وكريك درجةً دفعتهما لقضاء جلّ أوقاتهما في المختبر محاولَين إكمال العمل.

في أثناء هذه الأحداث، كانت ردود أفعال واتسون وكريك محكومة بما يحققانه من تقدم أو إخفاق، وقد صادفنا في بحثنا الذي قمنا به مؤخراً عن العمل الإبداعي في الشركات ظاهرة مشابهة إلى حد كبير؛ إذ أجرينا تحليلاً مستفيضاً ليوميات بعض موظفي المعارف، وتوصلنا إلى “مبدأ التقدم” الذي يتمثل في فكرة أنه أهم عامل يعزز مشاعر الموظفين ودافعيتهم وتصوراتهم في أثناء يوم العمل هو إحراز تقدم في عمل هادف، وكلما تكرر شعور الموظف بأنه أحرز تقدماً ازداد احتمال أن يكون مبتكراً في إنتاجه على المدى الطويل. سواء كان يحاول حلّ معضلة علمية كبيرة أو صنع منتج أو تقديم خدمة بجودة عالية، فالتقدم الذي يحرزه يومياً حتى وإن كان مجرد انتصار صغير له أثر كبير في أدائه ومشاعره.

توصلنا إلى “مبدأ التقدم” الذي يتمثل في فكرة أنه أهم عامل يعزز مشاعر الموظفين ودافعيتهم وتصوراتهم في أثناء يوم العمل هو إحراز تقدم في عمل هادف.

تتمتع قوة التقدم بأهمية جوهرية للطبيعة البشرية؛ لكن القليل من المدراء يفهم أو يعرف كيف يستفيد من تقدُّم موظفيه في العمل لتعزيز دافعيتهم. في الواقع لطالما كانت الدافعية في العمل موضع جدل، ففي دراسة استقصائية حول أسرار تحفيز العاملين، قال بعض المدراء إن تقدير العمل الجيد هو الأهم، في حين اعتبر آخرون أن الحوافز المادية هي الأهم. كما ركز بعضهم على قيمة الدعم الشخصي المتبادل، بينما رأى آخرون أن سر تحفيز الموظفين يكمن في وضوح الأهداف. من المثير للاهتمام أن عدداً قليلاً من المدراء المشاركين في الاستقصاء وضع إحراز التقدم على رأس القائمة. 

مفاجأة للمدراء   

في عدد مجلة هارفارد بزنس ريفيو الذي صدر في عام 1968، نشر فريدريك هيرزبرغ مقالاً يُعتبر اليوم من أهم المقالات الكلاسيكية بعنوان “مرة أخرى: كيف تحفّز موظفيك؟” (One More Time: How Do You Motivate Employees?) (انظر الفصل 8)، وتتوافق نتائجنا مع رسالته في هذا المقال؛ يشعر الموظف برضا أكبر عن وظيفته (وبالتالي يزداد حماسه فيها) عندما تمنحه فرصة اختبار الشعور بالإنجاز.

تمكنا عن طريق بحثنا الذي وصفناه في هذا المقال والذي أجرينا فيه دراسة ليوميات الموظفين حللنا من خلالها بصورة متعمقة أحداث آلاف أيام العمل في الوقت الحقيقي، من الكشف عن الآلية التي تولّد الإحساس بالإنجاز والمتمثلة في إحراز تقدم مطرد وهادف.

ولكن يبدو أن المدراء لم يأخذوا درس هيرزبرغ على محمل الجد. أجرينا مؤخراً دراسة استقصائية شارك فيها 669 مديراً في مستويات مختلفة من عشرات الشركات في العالم بهدف تقييم وعي المدراء المعاصرين لأهمية التقدم اليومي في العمل، وسألنا فيها عن الأدوات الإدارية التي تؤثر في دافعية الموظفين وعواطفهم. قام المشاركون في الاستقصاء بتقييم 5 أدوات بحسب أهميتها، وهي دعم الموظف من أجل إحراز تقدم في العمل وتقدير العمل الجيد وتقديم الحوافز وتقديم الدعم الشخصي وتحديد الأهداف الواضحة.

لم يضع 95% من المدراء المشاركين في دراستنا الاستقصائية دعم التقدم في العمل في المرتبة الأولى في الاستبيان، وسيذهلون لمعرفة أنه في الواقع أهمّ وسيلة لتعزيز دافعية الموظفين، في حين اعتبره بقية المشاركين المحفز الأول، وهم 35 مديراً فقط (5%). صنفت غالبية المشاركين العظمى دعم إحراز التقدم في العمل في أدنى مرتبة بالنسبة لتحفيز الموظفين، وفي المرتبة الثالثة بالنسبة للعوامل المؤثرة في عواطفهم، إلى جانب تصنيف “تقدير العمل الجيد (سراً أو علناً)” في المرتبة الأولى على اعتباره أهم عامل في تعزيز دافعية الموظفين وإسعادهم. تبين لنا في دراستنا التي أجريناها على يوميات الموظفين أن التقدير عزز الحياة الداخلية في العمل بالفعل ولكنه لم يكن بنفس أهمية إحراز التقدم، إلى جانب أنه إذا لم يحقق الموظفون إنجازات في العمل، فعلامَ سيقدّرهم مدراؤهم؟

إن كنت مديراً فستجد في مبدأ التقدم إشارات واضحة على المواضع التي يجب أن تركز جهودك فيها؛ إذ يشير إلى أن تأثيرك في رفاهة الموظفين ودافعيتهم وإنتاجهم الإبداعي أكبر مما تدركه، ويبيّن أن سرّ نجاحك في إدارة موظفيك وعملهم بفعالية يكمن في معرفة ما يفيد في تحفيز تقدمهم وتعزيزه وما يسبب إحباطهم وتعثرهم.

نشارك في هذه المقالة ما تعلمناه عن قوة التقدم وطرق استفادة المدراء منه، وسوف نوضح كيف يمكن أن يُترجم التقدم إلى سلوكيات إدارية ملموسة ونقدّم قائمة مراجعة تساعد على ترسيخ هذه السلوكيات. لكن كي نتمكن من توضيح السبب الذي يمنح هذه السلوكيات قوتها الكبيرة؛ سنبدأ أولاً بوصف دراستنا وما أظهرته يوميات موظفي المعارف عما يسمى “الحياة الداخلية في العمل” (inner work life). 

الحياة الداخلية والأداء في العمل

أجرينا على مدى 15 عاماً دراسة على التجارب النفسية للموظفين الذين يقومون بعمل معقد داخل المؤسسات وأدائهم، وكنا قد لاحظنا سابقاً أن الدافع الرئيس للأداء المنتِج الإبداعي كان جودة الحياة الداخلية في العمل المتمثلة في خليط المشاعر والدوافع والتصورات التي يختبرها الموظف طوال يوم العمل. كيف يشعر الموظف السعيد، هل لديه اهتمامات ذاتية تحفزه في العمل؟ هل ينظر إلى مؤسسته وإدارته وفريقه وعمله ونفسه نظرة إيجابية؟ إما أن تجتمع هذه العوامل لتدفع الموظف للارتقاء بسوية أدائه، وإما أن تسبب تراجعه.

لفهم هذه القوى المحركة الداخلية بصورة أوضح؛ طلبنا من أعضاء بعض فرق المشاريع الإجابة، كل على حدة، عن استبيان يُرسل إليهم عبر البريد الإلكتروني في نهاية كل يوم طوال فترة العمل على المشروع أي على مدى أربعة أشهر وسطياً. (لمعرفة المزيد عن هذا البحث اقرأ مقالنا الذي يحمل عنوان “الحياة الداخلية في العمل: فهم ما بين السطور في أداء الشركات” (Inner Work Life: Understanding the Subtext of Business Performance) المنشور في مجلة هارفارد بزنس ريفيو، شهر مايو/أيار 2007). كانت المشاريع جميعها تتطلب إبداعاً مثل ابتكار أدوات للمطبخ وإدارة خطوط إنتاج أدوات التنظيف وحل مشكلات تكنولوجيا المعلومات المعقدة لسلسلة فنادق عالمية. وكان الاستبيان اليومي يستفسر عن مشاعر المشاركين وحالتهم المزاجية ومستويات دافعيتهم وتصوراتهم عن بيئة العمل في ذلك اليوم، بالإضافة إلى ما قاموا به من عمل وما بقي في ذاكرتهم من أحداث.

شارك في الاستبيان 26 فريق مشاريع من 7 شركات، وبلغ عدد المشاركين الإجمالي 238 موظفاً، فنتج منه نحو 12 ألف مذكرة يومية. بطبيعة الحال مرّ المشاركون جميعهم بتقلبات في أحوالهم، وكان هدفنا اكتشاف حالات الحياة الداخلية في العمل وأحداث يوم العمل التي ارتبطت بأعلى المستويات من الإنتاج الإبداعي.

توصلنا إلى نتيجة مفاجئة تفنّد الادعاء الشائع بأن الضغط الكبير والخوف يحثان الموظف على الإنجاز؛ في عالم العمل المعرفي على الأقل يكون الموظف أكثر إبداعاً وإنتاجية عندما تكون حياته الداخلية في العمل إيجابية أي عندما يشعر بالسعادة ويكون العمل بحد ذاته محفزاً له، وتكون نظرته إلى زملائه ومؤسسته إيجابية، إلى جانب أن الموظف يبدي التزاماً أكبر تجاه العمل ويتعاون بدرجة أكبر مع من حوله. ولاحظنا أنَّ الحياة الداخلية في العمل قد تشهد تقلبات يومية وعنيفة أحياناً ويتقلب معها الأداء أيضاً؛ إذ تحفز الحياة الداخلية في العمل أداء الموظف يوماً وتثبطه في اليوم التالي.  

ما إن اتضح تأثير الحياة الداخلية في العمل، رغبنا في التحقق من قدرة إجراءات الإدارة على توليد هذا التأثير وطرق توليدها له؛ ما الأحداث التي تثير المشاعر السلبية أو الإيجابية وتحفّز الدافعية وتولّد التصورات؟ كانت مذكرات المشاركين في دراستنا تخفي الأجوبة بين سطورها؛ إذ تبيّن أن ثمة عوامل محرِّضة قابلة للتوقع ترفع سوية الحياة الداخلية الإيجابية في العمل أو تخفضها وهي نفسها لدى الأفراد جميعهم على اختلافهم.

قوة التقدم

قادنا بحثنا عن العوامل المحرضة للحياة الداخلية في العمل إلى مبدأ التقدم، فعندما قارنّا بين أفضل الأيام التي مرّ بها المشاركون في دراستنا وأسوئها (اعتماداً على مزاجهم العام ومشاعر معينة ومستويات دافعيتهم) لاحظنا أن العامل الأكثر شيوعاً لتحريض “أفضل الأيام” هو إحراز الموظف أو الفريق تقدماً بغضّ النظر عن حجمه، أما العامل الأكثر شيوعاً لتحريض “أسوأ الأيام” فهو التعثر.

خذ مثلاً ارتباط التقدم بأحد مكونات الحياة الداخلية في العمل وهو تقييم المزاج العام؛ إذ أحرز الموظفون خطوات تقدم في 76% من الأيام التي كانوا فيها بأفضل حالة مزاجية، في حين أنهم لم يمروا بعثرات إلا في 13% من هذه الأيام. (انظر إلى عمود “الأيام الجيدة” في الرسم التوضيحي بعنوان “ماذا يحدث في الأيام الجيدة والأيام السيئة؟”).

تكرر في أفضل الأيام نوعان آخران من عوامل تحريض الحياة الداخلية في العمل، وهما: المحفزات أي الأفعال التي تدعم العمل بصورة مباشرة مثل الحصول على المساعدة من شخص أو مجموعة أشخاص، والمعززات وهي أفعال مثل إظهار الاحترام وكلمات التشجيع. ولكل منها مضاد: المثبطات أي الأفعال التي لا تدعم الفرد أو تعيق العمل، والمسممات وهي الأحداث المحبطة أو الهادمة، علماً أن المحفزات والمثبطات تكون موجّهة نحو المشروع، في حين أن المعززات والمسممات موجّهة نحو الفرد وهي مثل العثرات نادرة في الأيام حين تكون الحياة الداخلية في العمل رائعة.

تكوّن أحداث أيام الحالة المزاجية الأسوأ صورة معكوسة نوعاً ما عن أحداث أيام الحالة المزاجية الأفضل (انظر الشكل “ماذا يحدث في اليوم السيئ؟”)؛ حيث هيمنت العثرات على 67% من هذه الأيام، في حين أحرز الأفراد تقدماً في 25% منها فقط. وبالمثل ميزت المثبطات والمسممات أيام الحالة المزاجية الأسوأ، وكانت المحفزات والمعززات نادرة فيها. 

وهنا يظهر مفعول مبدأ التقدم؛ إذا كان الموظف مفعماً بالحماس والسعادة في نهاية يوم العمل فلا شك في أنه أحرز تقدماً ما، وإذا خرج من عمله متثاقلاً ومنفصلاً ذهنياً عنه وتعيساً فعلى الأرجح أنه تعثر.

عندما حللنا جميع الاستبيانات اليومية التي أجاب عنها المشاركون في دراستنا (وصل عددها إلى 12 ألفاً)، اكتشفنا أن التقدم والتعثر يؤثران في الجوانب الثلاثة من الحياة الداخلية في العمل؛ إذ أبلغ المشاركون أنهم في الأيام التي أحرزوا فيها تقدماً تملّكتهم مشاعر إيجابية أكثر لم تقتصر على حالية مزاجية جيدة عموماً بل شعروا بالسعادة والمودة والفخر بدرجة أكبر، في حين ولّدت العثرات لديهم مشاعر الإحباط والخوف والحزن.

كما تأثرت الدافعية أيضاً؛ إذ شعر الموظفون بدافعية ذاتية في أيام التقدم تمثلت في الاهتمام والاستمتاع بالعمل نفسه، أما في أيام التعثر فقد تراجعت دافعيتهم الذاتية وقلّ تأثرهم بالحافز الخارجي المتمثل في التقدير. يبدو أن العثرات تجعل الموظف لا مبالياً عموماً وتُفقده الرغبة بالعمل!

وكذلك اختلفت التصورات بطرق عديدة، ففي أيام التقدم كانت نظرة الموظفين إلى التحدي في العمل إيجابية أكثر؛ إذ اعتبروا أن فِرقهم تبدي دعماً متبادلاً بدرجة أكبر وقالوا إنها تتفاعل مع المشرفين عليها على نحو إيجابي أكثر. أما في أيام التعثر فقد أصبحت التصورات سلبية من عدة نواحٍ؛ إذ لم تكن نظرتهم إلى التحدي في العمل إيجابية فقد شعروا بأنهم مقيدون في أداء العمل ولا يملكون ما يكفي من الموارد، بالإضافة إلى أن فرقهم ومشرفيهم لم يقدموا دعماً كبيراً.

توضّح تحليلاتنا بالتأكيد علاقات متبادلة في هذه الديناميات لكنها لا تثبت سببيتها؛ هل كان تباين الحياة الداخلية في العمل نتيجة لإحراز التقدم والعثرات أم العكس بالعكس؟ لا يمكننا معرفة ذلك بالأرقام وحدها ولكننا نعرف من قراءة المعلومات التي أدخلها المشاركون في آلاف المذكرات اليومية أن إحراز التقدم كانت تعقبه غالباً تصورات إيجابية بدرجة أكبر وشعور بالإنجاز والرضا والسعادة وحتى النشوة. خذ مثلاً ما كتبه أحد المبرمجين في مذكرته اليومية النمطية بعد أن أحرز تقدماً: “تمكنت من معالجة تلك المشكلة البرمجية التي سببت لي الإحباط على مدى أسبوع كامل. قد لا يبدو هذا الأمر حدثاً مهماً بالنسبة لك ولكنه كذلك بالنسبة لي نظراً لحياتي الرتيبة، ولذا فأنا في غاية الحماس”.

وبالمثل؛ لاحظنا أن العثرات تبعتها غالباً تصورات سلبية ومشاعر الإحباط والحزن وحتى المقت. كتب أحد المشاركين وهو خبير في تسويق المنتجات: “قضينا وقتاً طويلاً في تحديث قائمة مشروع تخفيض التكاليف، وبعد تدوين كل الأرقام لم نتمكن من تحقيق هدفنا. إنه لمن المحبط فعلاً أن نفشل بعد كل ما بذلناه من وقت وجهد”.

نكاد نجزم أن العلاقة السببية هنا ثنائية الاتجاه، وبوسع المدراء الاستفادة من حلقة الملاحظات هذه بين التقدم والحياة الداخلية في العمل من أجل دعم كليهما.

الإنجازات الصغيرة 

عندما نفكر في التقدم، نتخيل عادة الشعور الجميل الذي ينتابنا عند تحقيق هدف طويل الأمد أو ابتكار مهم. هذه الانتصارات الكبيرة رائعة ولكنها نادرة نسبياً؛ ولكن حتى الانتصارات الصغيرة قادرة على تعزيز الحياة الداخلية في العمل بدرجة هائلة، وكان العديد من أحداث التقدم التي أبلغ عنها المشاركون في بحثنا مجرد خطوات صغيرة إلا أنها أثارت ردود فعل إيجابية كبيرة. خذ مثلاً هذه المعلومة من يوميات خبيرة برمجة في إحدى شركات التكنولوجيا الفائقة، وقد رافقها تصنيف ذاتي إيجابي جداً لمشاعرها ودافعيتها وتصوراتها في ذلك اليوم: “اكتشفت مشكلة برنامج لم يكن يعمل على نحو جيد، فشعرت بارتياح لأن ذلك كان انتصاراً صغيراً بالنسبة لي”.

وحتى التقدم العادي التدريجي قادر على زيادة تفاعل الموظفين وسعادتهم خلال يوم العمل، فمن بين الأحداث المختلفة التي أبلغ عنها المشاركون، أوقعت نسبة لافتة للنظر من الأحداث (28%) أثراً كبيراً في مشاعر الموظفين على الرغم من أن أثرها في المشروع كان بسيطاً. وبذلك نستنتج أن التقدم غير الملحوظ له أهمية حاسمة في الأداء الكلي للمؤسسة نظراً للتأثير القوي الذي توقعه الحياة الداخلية في العمل في قدرة الموظفين الإبداعية وإنتاجيتهم، إلى جانب قدرة خطوات التقدم الصغيرة والمستمرة والمشتركة بين العديد من الموظفين على التراكم لتشكّل تنفيذاً ممتازاً للعمل.

لكن للأسف لهذه المعادلة وجه آخر؛ يمكن أن توقِع الخسائر الصغيرة أو العثرات أثراً سلبياً قوياً في الحياة الداخلية في العمل، حتى أن دراستنا ودراسات الآخرين أظهرت أن للأحداث السلبية أثراً أقوى من أثر الأحداث الإيجابية، ولهذا من المهم جداً أن يحرص المدراء على الحدّ من المنغصات اليومية.

إحراز التقدم في العمل الهادف

أثبتنا أن إحراز الموظف تقدماً نحو تحقيق هدف ما يولّد لديه شعوراً قوياً بالرضا والسعادة لكن تذكر ما قلناه سابقاً: سرّ النجاح في تحفيز الأداء هو دعم التقدم في العمل الهادف؛ أي أن إحراز التقدم لن يعزز الحياة الداخلية في العمل إلا إذا كان العمل مهماً بالنسبة إليك.

فكر في أكثر وظيفة مملّة عملت فيها يوماً، يرشح الكثيرون عملهم الأول في سنّ المراهقة مثل غسيل القدور والأوعية في مطبخ مطعم أو استلام المعاطف في متحف. تبدو قوة التقدم في هذه الوظائف وهماً، فمهما اجتهدت سيكون لديك دوماً المزيد من الأوعية لغسلها والمزيد من المعاطف لاستلامها، ولا شيء يمنحك شعوراً بالإنجاز إلا مغادرة العمل في نهاية اليوم أو الحصول على الراتب في نهاية الأسبوع.

ولكن حتى في الوظائف التي تنطوي على تحديات أكبر وتتيح مجالاً أوسع للإبداع مثل وظائف المشاركين في بحثنا، لا يضمن “تحقيق التقدم” من خلال إنهاء المهام ببساطة أن يحظى الموظف بحياة داخلية جيدة في العمل. لعلك عشت هذه الحقيقة المُرّة في أيام أو مشاريع شعرت فيها أنك محبط أو حانق أو لا تحظى بما تستحقه من التقدير على الرغم من أنك تعمل بجد لإنجاز العمل، والسبب على الأرجح هو أنك تعتبر المهام التي أنجزتها ثانوية أو غير مهمة؛ كي يكون مبدأ التقدم فاعلاً يجب أن يرى الموظف أن عمله هادف.

في عام 1983 كان ستيف جوبز يحاول إقناع جون سكالي بترك عمله الناجح جداً في شركة بيبسي ليصبح الرئيس التنفيذي الجديد لشركة آبل. يُقال إن جوبز سأله: “هل تريد أن تقضي بقية حياتك في بيع الماء المحلى أم ترغب في أن تحظى بفرصة لتغيير العالم؟” بقوله هذا عوّل جوبز على القوة النفسية الفعالة المتمثلة في الرغبة الإنسانية العميقة بالقيام بعمل له هدف حقيقي.

لحسن الحظ فليس بالضرورة أن تبتكر أول جهاز كمبيوتر شخصي يمكن لأي شخص عادي استخدامه أو أن تعالج مشكلة الفقر في العالم أو تساعد على علاج مرض السرطان كي تشعر بأن عملك هادف؛ بل يمكن أن يرى الموظف أهمية أي عمل يقوم به إذا أضاف قيمة إلى شيء أو شخص يهمه حتى وإن لم يتمتع بأهمية جوهرية كبيرة بالنسبة إلى المجتمع. يمكن أن يكون الهدف أمراً بسيطاً كصنع منتج مفيد وعالي الجودة لأحد الزبائن أو توفير خدمة حقيقية للمجتمع، أو ربما دعم أحد الزملاء أو رفع أرباح المؤسسة من خلال تقليل مَواطن القصور في عملية الإنتاج. سواء كانت الأهداف كبيرة جداً أو متواضعة، يمكن لتحقيق تقدم نحوها أن يحفّز الحياة الداخلية في العمل ما دام الموظف يرى فيها أهمية ويدرك دوره في تحقيقها بوضوح.

من حيث المبدأ، ليس من المفترض أن يبذل المدراء جهداً هائلاً لجعل العمل هادفاً فمعظم الوظائف في المؤسسات الحديثة هادفة بالنسبة إلى من يقومون بها؛ لكن يمكن للمدراء الحرص على أن يفهم الموظفون بدقة دور عملهم في تحقيق الأهداف، والأهم هو أن يكون بإمكانهم تفادي الإجراءات التي تجرد عملهم من قيمته [انظر العمود الجانبي “كيف يتجرد العمل من مغزاه” (How Work Gets Stripped of Its Meaning)]. كان المشاركون في دراستنا يقومون بعمل من المفترض أنه هادف، فلم يكن أي منهم يغسل الأوعية أو يستلم المعاطف؛ لكننا ذُهلنا في معظم الأحيان لرؤية عمل صعب ذي أهمية محتملة كبيرة يفقد القدرة على إلهام الموظفين.

يمكن للمدراء الحرص على أن يفهم الموظفون بدقة دور عملهم في تحقيق الأهداف، والأهم هو أن يكون بإمكانهم تفادي الإجراءات التي تجرد عملهم من قيمته.

كيف يتجرد العمل من مغزاه؟

ساعدتنا معلومات اليوميات التي قدمها 238 موظف معارف من أفراد فرق المشاريع الإبداعية الذين شاركوا في دراستنا على تحديد 4 طرق أساسية تؤدي من غير قصد إلى تجريد العمل من مغزاه.

  • قد يرفض المدير الإقرار بأهمية عمل الموظف أو أفكاره. خذ مثلاً حالة أحد كبار تقنيي المخابر في شركة صناعات كيميائية، واسمه رائد، الذي شعر بأهمية عمله في غايته المتمثلة في مساعدة فريقه الجديد لتطوير المنتج على حلّ المشكلات التقنية المعقدة. 

ولكن في اجتماعات الفريق على مدى 3 أسابيع، شعر رائد أن قائد فريقه يتجاهل الاقتراحات التي يقدمها هو وزملاؤه، وبالنتيجة شعر أن مساهمته ليست مهمة وأُحبطت روحه المعنوية. وعندما شعر مجدداً أنه يقدم مساهمات مهمة في نجاح الفريق تحسنت حالته المزاجية بدرجة كبيرة. يقول: “شعرت بتحسن كبير اليوم لأني لاحظت أن ما أقدمه من آراء ومعلومات له أهمية في المشروع وأننا أحرزنا تقدماً بالفعل”.

  • قد يدمر المدير شعور الموظفين بالسيطرة على عملهم، ولإعادة توزيع المهام بصورة متكررة ومفاجئة نفس الأثر. وذلك ما حدث مرة تلو الأخرى مع أفراد فريق تطوير المنتج في شركة كبيرة للمنتجات الاستهلاكية، ويوضحه أحد أفراده، واسمه باسل، في قوله: “عندما كنت أعمل على تسليم بعض المشاريع، كنت أدرك أني لا أحب التخلي عنها، لا سيما أني أكون غالباً قد عملت عليها منذ البداية وأوشكت على إنهائها. كان ذلك يفقدني السيطرة على عملي، ونعاني هذا الأمر بصورة متكررة”.
  • من الممكن أن يرسل المدير رسالة مفادها أن العمل الذي يقوم به موظفوه لن يرى النور أبداً، ومن الممكن أن يشير إلى ذلك من دون قصد إما بمنح الأولوية لأمر آخر وإما بتغيير رأيه فيما يتعلق بطريقة تنفيذ مهمة معينة؛ كما حدث في إحدى شركات تكنولوجيا الإنترنت بعد أن قضى أحد مطوري واجهة المستخدم، واسمه برهان، أسابيع في العمل على تصميم أساليب انتقال سلِسة بين الواجهات للمستخدمين غير المتحدثين باللغة الإنجليزية، فكان من الطبيعي أن يشعر بإحباط شديد في معنوياته ذاك اليوم، يقول: “تم تقديم الخيارات الأخرى المتعلقة بالواجهات المخصصة للغات الأخرى في أثناء اجتماع الفريق، وهي تسلب كل العمل الذي أقوم به جدواه”.
  • يمكن ألا يهتم المدير بإبلاغ موظفيه عن التغييرات غير المتوقعة في أولويات العميل، ويكون ذلك غالباً نتيجة لسوء إدارة العلاقات مع العملاء أو ضعف التواصل ضمن الشركة. خذ مثلاً خبير تحويل البيانات في إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات، سامح، الذي أبلغ عن إحباطه الشديد وضعف دافعيته يوم عرف أن الجهد الذي بذله فريقه على مدى أسابيع قد يذهب هباءً، ويقول: “عرفت أن احتمال توقف المشروع كبير بسبب تغير في جدول أعمال العميل؛ وبالتالي سيكون كل الوقت والجهد الذي بذلناه في العمل على هذا المشروع قد ضاع سدىً”.

دعم التقدم: المحفزات والمعززات

كيف يمكن أن يضمن المدير بقاء موظفيه على درجة عالية من الحماس والالتزام والسعادة في العمل؟ كيف يمكنه دعم الموظفين ليحرزوا تقدماً يومياً؟ يمكنه الاستفادة من المحفزات والمعززات؛ أي الأنواع الأخرى من الأحداث التي اكتشفنا أنها تتكرر في “أفضل الأيام”.

المحفزات هي الإجراءات التي تدعم العمل، وتشمل وضع أهداف واضحة للموظفين ومنحهم الاستقلالية وتوفير ما يكفيهم من الموارد والوقت ومساعدة الزملاء على العمل والتعلم من المشكلات والنجاحات بصدر رحب والسماح بتبادل الأفكار الحر. وفي مقابلها نرى المثبطات التي تشمل كلاً من العجز عن تقديم الدعم والتدخل في العمل بدرجة كبيرة. تؤثر المحفزات والمثبطات في قدرة الموظفين على إحراز التقدم وبالتالي فهي تؤثر في حياتهم الداخلية في العمل أيضاً، بيد أن لها تأثيراً فورياً يتمثل في أن الموظف الذي يدرك أن لديه هدفاً حقيقياً واضحاً وموارد كافية لتحقيقه وزملاء متعاونين، فسيشعر بتحسّن فوري في مستوى مشاعره ودافعيته للقيام بعمل رائع وتصوراته عن العمل والمؤسسة. 

المعززات هي سلوك الدعم المتبادل بين الأفراد مثل الاحترام والتقدير والتشجيع والراحة النفسية وفرص الانتماء، أما المسممات المضادة لها فتشمل عدم الاحترام وتثبيط العزيمة وعدم مراعاة المشاعر والنزاعات الشخصية. توقع المعززات والمسممات تأثيرها السيئ أو الجيد في الحياة الداخلية في العمل بصورة مباشرة وفورية.

بإمكان المحفزات والمعززات وأضداد كل منها تغيير مغزى العمل بتغيير تصورات الموظفين عن وظائفهم وعن أنفسهم أيضاً. مثلاً عندما يحرص المدير على أن يحصل الموظفون على ما يحتاجون إليه من موارد، فهو يشير بذلك إلى أهمية ما يقومون به وقيمته، وعندما يوجّه المدير التقدير للموظفين على عملهم فهو يشير بذلك إلى أهميتهم في المؤسسة؛ بهذه الطريقة يمكن للمحفزات والمعززات أن تمنح العمل معنىً عظيماً وتضخّم مفعول مبدأ التقدم.

الإجراءات الإدارية التي تشكل المحفزات والمعززات معروفة للجميع، وقد يرى البعض أنها لا تختلف عن المبادئ الأساسية للإدارة أو أنها أمور بديهية من أساسيات اللباقة العامة؛ إلا أن دراستنا لليوميات تذكّرنا بأننا نتجاهلها أو ننساها باستمرار. وحتى بعض المدراء الأكثر وعياً في الشركات التي درسناها لم يقدموا المحفزات والمعززات باستمرار، خذ مثلاً أحد اختصاصيي سلاسل التوريد واسمه حسّان؛ إذ كان يُعتبر في أغلب الأيام وفي كثير من النواحي مديراً رائعاً لأحد الأفرقة الفرعية لكنه كان يصاب بالإرهاق بين الفينة والأخرى لدرجة تجعله يتعامل مع أفراد فريقه بأسلوب مؤذ. مثلاً عندما لم يتمكن أحد الموردين من تجهيز طلب “عاجل” في الوقت المحدد اضطر فريقه إلى الاستعانة بالشحن الجوي لتسليم البضاعة للزبون في الموعد، وعندها أدرك حسّان أن هامش الربح على عملية البيع سيكون معدوماً فانفجر غضباً وأخذ يوبخ مرؤوسيه محقّراً الجهد الكبير الذي بذلوه في العمل غير آبه بأنهم هم أيضاً يشعرون بالإحباط بسبب ذلك المورّد. قال في يومياته: “أنفقنا منذ يوم الجمعة 28 ألف دولار أمريكي مقابل خدمة الشحن الجوي لإرسال 1,500 قطعة من مماسح الأرضيات ذات البخاخ بسعر 30 دولاراً للقطعة الواحدة إلى ثاني أهم عميل لدينا، لا يزال علينا إرسال 2,800 قطعة أخرى لإنهاء هذه الطلبية، وعلى الأرجح سنضطر إلى شحنها بالطائرة أيضاً. لقد تحولتُ من مدير سلسلة توريد لطيف إلى جلاد مرعب. خلعنا أثواب الحضارة ووقعنا في مأزق لا مفرّ منه، وبات لا بدّ لنا من المواجهة!”.

وحتى إن لم يجد المدير نفسه في مأزق، فقد يرى أن العمل على تطوير استراتيجية طويلة الأمد وإطلاق مبادرات جديدة مهم وجذاب أكثر من الحرص على توفير ما يحتاج إليه مرؤوسوه لإحراز تقدم مستمر وتقديم الدعم الذي يحتاجون إليه بطبيعتهم البشرية؛ ولكننا رأينا مراراً وتكراراً في أبحاثنا أن أفضل الاستراتيجيات ستفشل بالتأكيد إذا أهمل المدراء الموظفين الذي يبذلون أكبر الجهود لتنفيذها.

رأينا مراراً وتكراراً في أبحاثنا أن أفضل الاستراتيجيات ستفشل بالتأكيد إذا أهمل المدراء الموظفين الذي يبذلون أكبر الجهود لتنفيذها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .