انتهى عصر سوق الفيديو التقليدية. بفضل مزيج من التقنيات، بما في ذلك الوصول فائق السرعة إلى الإنترنت، ومليارات الأجهزة المحمولة، والأسعار المتراجعة للشاشات عالية الدقة، يشهد التلفزيون على النحو الذي شهدناه لعقود إعادة ابتكار جذرية ستعيد تشكيل بيئة عمل وسائل الإعلام بأسرها. ففي الأشهر القليلة الماضية فقط أعلنت شركات عملاقة في صناعة خدمات البث التدفّقي، بما في ذلك شركة "ديزني" وشركة "إن بي سي العالمية" (NBCUniversal)، وأطلقت بالفعل خدمات بث تغير قواعد اللعبة، بتشجيع نوعاً ما من استثمارات بمليارات الدولارات من شركات جديدة وافدة مثل "نتفليكس" و"جوجل" و"آبل".
وبينما تتدافع الشركات الحالية للاستجابة إلى التحديات الفنية والتجارية والتنظيمية التي تمثلها الشركات المزعزعة المبتكرة، يتساءل المستثمرون والمستهلكون على حد سواء عمن سيفوز بمعركة التفوق الإعلامي الجديد. واتضح أن الإجابة ربما تعول على عمرك وعمر زبائنك وتعريف كلٍ منكم لـ "محتوى الفيديو".
ولكي نستوعب السبب، لنبدأ بالنحو الذي تتقلب به الأسواق. في نموذج الزعزعة المعروف باسم "الانفجار العظيم"، يبدأ الابتكار استناداً إلى تقنية أفضل وأرخص تكلفة بفترة من التجريب غير المنضبط، حيث يطلق رواد الأعمال العنان لعروض ونماذج عمل جديدة، بحثاً عن المنتجات والخدمات التي سيتبناها المستهلكون العاديون على نطاق واسع. وعندما يعثرون عليها، يمكن أن تصبح العروض الناضجة للشركات الحالية مهجورة على حين غرة.
وفي وسائل إعلام البث التدفّقي، استمر هذا التجريب لأكثر من عقد من الزمان. فقد انتقلت شركة "نتفليكس" إلى المحتوى المبثوث عام 2007 مثلاً. وفي عام 2013، تحولت إلى المسلسلات الأصلية التي تنتجها بنفسها. وتمخض نجاح الشركة عن ظهور عشرات من الخدمات المنافسة، بما في ذلك خدمات لشركات تقنية عملاقة مثل "آبل" و"أمازون" و"يوتيوب" و"سوني".
واستجابة لهذه الموجة، أطلق منتجو وموزعو خدمات التلفزيون المدفوعة التقليدية، أو ما يُعرف باسم البرامج التلفزيونية "الخطية"، بدائل بث تنافس منتجاتهم القديمة، مثل خدمة "سلينج تي في" (Sling TV) من شبكة "ديش" (Dish) و"دايركت تي في ناو" (DirecTV Now) من شركة "أيه تي آند تي" (AT&T). وثمة إحصائية مذهلة مفادها أن عدد ساعات مشاهدة موقع "يوتيوب" بلغ الآن مليار ساعة يومياً، وهو ما يتجاوز عدد ساعات مشاهدة خدمات التلفزيون التقليدية.
ولكن، تسارعت فجأة عملية إعادة تشكيل هوليوود على يد وادي السيليكون. في وقت سابق من الشهر الماضي، أطلقت شركة "آبل" خدمة "آبل تي في بلاس" (Apple TV+) المطورة بالكامل، وتشتمل على محتوى حصري من طائفة من المخرجين والممثلين والمنتجين البارزين، بمن فيهم ستيفن سبيلبرغ وجيفري جاكوب أبرامز (جيه جيه أبرامز) وأوبرا وينفري، وصناع سلسلة "شارع السمسم" (Sesame Street)، وكلها لقاء 4.99 دولار شهرياً.
ورغبة منها في احتلال الصدارة، وبعد استحواذها مباشرة على القسم الأكبر من أصول محتوى شركة "فوكس"، أطلقت شركة "ديزني" تواً خدمة "ديزني+" (Disney+)، وهي خدمة إلكترونية تمنح المشاهدين إمكانية الوصول إلى الكثير من أرشيفات أفلام "ديزني"، وكذلك برامج أصلية ذات ملكية مرخصة من وكالات صاحبة امتياز من استوديوهات "ستار وورز" (Star Wars) و"مارفل" (Marvel) و"بيكسار" (Pixar). وبسعر يبدأ من 6.99 دولار شهرياً، تمثل خدمة "ديزني+" تحدياً خطيراً للجيل الأسبق من عمالقة خدمات البث التدفّقي، بما في ذلك شركات "نتفليكس" و"أمازون فيديو" و"يوتيوب" و"هولو" (Hulu)، وتمتلك "ديزني" الآن الأخيرة بالكامل.
بالنظر إلى هذه التطورات، ليس عجيباً أن يفقد مزودو خدمات التلفزيون المدفوعة مشتركيهم بوتيرة مذهلة. في عام 2018 وحده، وفقاً لتقارير الشركات، فَقَد مزودو خدمات البرامج التقليدية أكثر من 3 ملايين مشترك، أو 4.2% من إجمالي زبائنهم، بزيادة نسبتها 2% في عام 2016. وأنهى مليون مستخدم آخر اشتراكاتهم في الربع الأول من عام 2019، و1.5 مليون مستخدم في الربع الثاني، وحوالي 1.7 مليون في الربع الثالث - أي ما يقرب من 4% من العملاء الباقين كل ثلاثة أشهر.
وفي تلك الأثناء، تبين أن إيرادات خدمات البث التدفّقي تجاوزت ضِعف ما كانت عليه خلال الفترة بين عامي 2016 و2018، من 30 مليار إلى 68 مليار دولار. وينفق أكثر من ربع المستهلكين الأميركيين الآن ما يربو على 100 دولار شهرياً لقاء العديد من اشتراكات البث التدفّقي.
وبينما تسارع الشركات الحالية لأجل إتاحة برامجها حسب الطلب وعلى أجهزة أخرى بخلاف التلفزيون (كما في خدمة "آتش بي أو جو" HBO GO و"سي بي إس أول أكسيس" CBS All Access)، فقد مُنِع مزودو خدمات التلفزيون المدفوعة من المشاركة الكاملة في بيئة عمل البث التدفّقي الناشئة بسبب التعقيد الشديد والمربك للقيود الفيدرالية وقيود الولايات ولجنة الاتصالات الفيدرالية المفروضة على المحتوى الذي يستطيعون تقديمه والجهة التي يستطيعون ترخيصه منها. وللتحايل على بعض القوانين التي عفا عليها الزمن بشكل خطير، يحول الموزعون بوصلتهم إلى مجالات المحتوى والتقنية، ما شجع على موجة من الاندماجات والاستحواذات والاستثمارات عالية الخطورة في الشركات الناشئة.
وفي المرحلة التالية لما يُعرف باسم "حروب البث التدفّقي"، يحتاج الذين يبحثون عن سوق متخصصة مجزية - أو حتى الذين يفرزون مجموعة الخيارات المذهلة التي تُعرض عليهم بصفتهم مستهلكين - إلى فهم الخصائص المميزة للتركيبة السكانية المختلفة المحتملة: مواليد جيل الطفرة، وأبناء الجيل "إكس" (المواليد بين ستينيات وثمانينيات القرن العشرين)، وأبناء جيل الألفية، وأبناء الجيل "زد" (مواليد الجيل التالي لجيل الألفية). كل شريحة أظهرت تفضيلاتها الخاصة بخصوص الطريقة التي تدفع بها لقاء الفيديوهات وبحثها عنها واستهلاكها لها. وتتطلب هذه التفضيلات أن يوازن مزودو الخدمات ما بين العروض المختلفة لكل جيل. لنلق نظرة على بعض أوجه الاختلاف بينهم تفصيلاً:
مواليد جيل الطفرة: ما زال مواليد جيل الطفرة يمثلون قاعدة خدمة التلفزيون المدفوع التقليدية. وحتى في ظل التراجع المتسارع لخدمات التلفزيون المجمعة، ما زالت 80 مليون أسرة أميركية مشتركة في خدمات التلفزيون الكبلي والبث عن طريق الأقمار الصناعية وخدمات بث الفيديو المعتمدة على الألياف البصرية.
ومن المرجح أن يبلغ معدل تخلي المشتركين المتسارع عن الخدمات العتيقة مرحلة التوازن، ولو أن التوقيت ليس واضحاً بعد. وسيخلف ذلك مجموعة مستقرة من الزبائن القدماء الأكبر سناً بفارق كبير. جدير بالذكر أن جوهر برامجهم الخطية، بحسب موقع "ذا بيج ليد" (The Big Lead) الإخباري، تهيمن عليه بالفعل البرامج الرياضية الحية، التي تعتبر المعقل الأخير لصناعة الفيديو الحالية. وفي الولايات المتحدة، كان 98 من أبرز 100 برنامج تلفزيوني يُقبِل عليه المشاهدون عام 2018 فعاليات حية، منها 64 بثاً حياً لمباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية.
ومع ذلك، فهؤلاء المستخدمون، إضافة إلى أقرانهم الذين أنهوا اشتراكاتهم في خدمات التلفزيون التقليدية، يستبدلون البرامج الخطية بأفضل خيارات البث التدفّقي الأحدث أو يكمّلونها بها، بما في ذلك المحتوى الأصلي من "يوتيوب" و"نتفليكس"، وعروض مجمعة مصغرة من خدمة "سلينج تي في" و"دايركت تي في ناو"، والخدمات وحيدة الشبكة مثل "آتش بي أو جو". وأكثر من نصف المستهلكين الأكبر عمراً بكثير يشتركون بالفعل في واحدة من خدمات البث التدفّقي على الأقل، حيث أنهى ربع الأميركان الذي تتجاوز أعمارهم الخمسين اشتراكاتهم في الخدمات الخطية بنهاية عام 2018.
الجيل "إكس": يدمج البالغون الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و54 عاماً ما بين المحتوى الخطي ومحتوى البث التدفّقي، وكذلك يجمعون ما بين الأجهزة التي يستهلكون عليها نوعي المحتوى. ويتوقعون أن تتاح البرامج أينما كانوا، ويرتاحون أكثر من آبائهم للاختيار من بين عدد هائل من الخيارات سريعة التطور، حيث يخصصون تجاربهم الشخصية وفقاً لتوصيات أقرانهم من شبكاتالتواصلالاجتماعي.
وترى هذه التركيبة السكانية الوسيطة فارقاً أقل دائماً وبشكل حاسم بين المحتوى المُعالج الذي تنتجه شركات الإعلام العملاقة الحالية والمحتوى الأصلي من خدمات البث التدفّقي المستندة إلى التقنية، والأعمال الإنتاجية "للهواة" على موقع "يوتيوب" وغيره من منصات استضافة المحتوى.
ويرجع ذلك نوعاً ما إلى أن التقنية قلصت إلى حد كبير من تكاليف الإنتاج. فمقابل معدات تقل قيمتها عن 10 آلاف دولار (كاميرا رقمية ومصابيح وبرامج تحرير الفيديو) واتصال فائق السرعة بالإنترنت، يستطيع مستخدمو موقع "يوتيوب" إنتاج برامج عالية الجودة والوصول إلى جمهور عريض يُقدر بالملايين. وحظيت أكثر من ألفي قناة على موقع "يوتيوب" ما يزيد على مليون مشترك عام 2016، وهو الرقم الذي تضاعف بحلول عام 2018. ويجني بعض نجوم موقع "يوتيوب" الآن أرباحاً تتجاوز بكثير 10 ملايين دولار سنوياً، لقاء مزيج من إيرادات الإعلانات المشتركة وبرامج الرعاية، والعودة إلى أيام الدعم، حيث يتعهد المعجبون بتقديم دعم شهري عبر منصات مثل باتريون (Patreon).
جيل الألفية والجيل "زد": من الأرجح أن أصغر مستهلكي مقاطع الفيديو لم يشتركوا قط في خدمات التلفزيون الكبلي، وليس من المتوقع أن يشتركوا أبداً في عرض مجمع من عروض التلفزيون الخطية. وشأنهم شأن أبناء الجيل "زد"، فهم مرتاحون جداً للمزج والمواءمة بين الشركات المحترفة والهواة والشركات الحالية والناشئة. وهم لا يميزون ما بين شاشة وأخرى، والأرجح أنهم يشاهدون مقاطع الفيديو على أجهزة أخرى بخلاف التلفزيون.
بالنسبة لهؤلاء المستهلكين، يتخذ المحتوى المصنوع بيد المستخدمين أشكالاً جديدة غريبة. فإن مستخدمي موقع "إنستغرام" الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، وأغلبهم يعيشون خارج الولايات المتحدة، يمضون الآن أكثر من 32 دقيقة يومياً في إنتاج مقاطع فيديو ومشاهدة مقاطع بعضهم بعضاً. ويفخر تطبيق "سناب شات"، الذي تختفي فيه "القصص" بعد أربع وعشرين ساعة، بتجاوز عدد مشاهدات مقاطع الفيديو عليه 14 مليار مشاهدة يومياً، و70% منها من مستخدمين تحت عمر 25 عاماً وبأيديهم.
إن التفاعل مكون أساسي من استهلاك مقاطع الفيديو للجمهور الأصغر عمراً. يمتلك تطبيق "تويتش" (Twitch) المملوك لشركة "أمازون"، وهو منصة تواصل اجتماعي للاعبين، أكثر من 15 مليون مستخدم يومي، ممن يشتركون لمشاهدة فعاليات بث للخبراء وهم يلعبون ألعاب الفيديو الشهيرة مثل "فورتنايت" (Fortnite)، ويتبادلون الرسائل مع اللاعب وغيرهم من المشاهدين. ويحقق ألمع نجوم هذه الخدمة أرباحاً تقارب المليون دولار شهرياً من حصتهم فقط من الاشتراكات الشهرية.
وليس من عجب إذاً أن التوغل الأكبر لشركة جوجل في عالم البث التدفّقي لا يتمثل في خدمة فيديو مطلقاً، وإنما منصة ألعاب هي الأولى من نوعها تُعرف باسم "ستاديا" (Stadia) من المقرر إطلاقها في وقت لاحق الشهر الجاري. ستتيح منصة "ستاديا" للمستخدمين اللعب بسلاسة من جهاز إلى آخر دون الحاجة إلى وحدة تحكم منفصلة للألعاب. وبينما تعمل اعتماداً على مراكز بيانات شركة "جوجل"، وكابل ألياف بصرية يمتد لمئات الملايين من الأميال، فستبث الخدمة أحدث الألعاب بسرعة 60 إطار في الثانية، وستدعم دقة عرض 4,000 بكسل، على أن تتضاعف السرعة ودقة العرض في المستقبل القريب.
إعادة تشكيل استهلاك المستهلكين بشكل جذري
بغض النظر عن التركيبة السكانية، فإن المستهلكين غارقون حتى آذانهم بالفعل في وفرة المعروض، حيث يتعرضون للمزيد من خيارات المحتوى الأصلي التي تتجاوز قدرتهم على الاستهلاك. ويحاول صناع وموزعو المحتوى الحاليون أن لا يفككوا ما تبقى لديهم من قاعدة العملاء المهتمين بالمحتوى الخطي، غير أن أغلبهم يعلي من أولوية الأسعار المتدنية لخدمات البث التدفّقي الجديدة والضرورية لمنافسة شركات مثل "نتفليكس" و"أمازون".
وبما إن كثيراً من الخدمات الجديدة، إن لم يكن أغلبها، من المستبعد أن تحقق أي أرباح بأسعارها الحالية، تعتبر هذه الفترة حقبة ذهبية لمستخدمي وسائل الإعلام، حيث يسعى المطورون إلى بناء قاعدة جماهيرية وضمان الولاء لعلامتهم التجارية سلفاً لتحقيق إيرادات مستدامة. ويمتلك المتخلون عن خدمات التلفزيون الكبلي خيارات أكبر من قدرتهم على فرزها أو حتى أخذ عينات منها.
وبالطبع، فإن التجريب الممول من شركات رأس المال المغامر (أو شركات رأس المال الجريء) لن يدوم إلى الأبد. ففي مرحلة ما، ربما في المستقبل القريب، إما ستتطور كثير من الخدمات التي أُطلقت في السنوات القليلة الماضية وإما ستندمج وإما ستختفي كلياً. (أعلنت واحدة من تلك الخدمات بالفعل، ألا وهي "بلاي ستيشن فيو" (PlayStation Vue) لشركة "سوني"، عن استسلامها). وسينصب تركيز المستهلكين ذوي ساعات المشاهدة المحدودة والقدرة على السداد على نماذج ومنصات تقنية وخدمات قليلة باقية، بما في ذلك بعضها الذي لم يُطلق بعد.
وفي الوقت الراهن، يستقر صانعو المحتوى وموزعوه ومستهلكوه حالياً في قلب مرحلة الزعزعة المعروفة باسم "الانفجار العظيم". غير أن المرحلة التالية، وهي مرحلة الحساب الكارثي المعروفة باسم "الانسحاق الشديد"، آتية لا محالة، وربما عاجلاً لا آجلاً. وبينما يظهر الفائزون الحقيقيون من المزيج الحالي البدائي للابتكار، ربما تشهد خدمات البث التدفّقي المتبقية الأرباح أخيراً.
وللوصول إلى خط النهاية، على المنتجين والموزعين الحاليين، وكذلك الوافدين الجدد، كبيرهم وصغيرهم، فهم هوية جمهورهم الحقيقي، وعليهم تشكيل عروضهم بحيث تتماشى مع المتطلبات الخاصة لكل مجموعة سكانية بأفضل ما يمكنهم. وكلما سارعوا بتبني ذاك الواقع، كان من الأرجح أن يصمدوا في مواجهة التحالف القوي الذي بدأ بالفعل.