مفارقة القيادة في الشرق الأوسط: لماذا يثق الموظفون بمدرائهم دون أن يشعروا بالتحفيز؟

4 دقيقة
مفارقة القيادة في الشرق الأوسط
shutterstock.com/Gajus

تواجه منطقة الشرق الأوسط مفارقة واضحة تتمثل في ارتفاع مستوى توافق الموظفين مع مؤسساتهم وثقتهم بقادتهم مقابل انخفاض كبير في مستوى الاندماج، ما يسبب خسائر إنتاجية ضخمة ويهدد أهداف التحول الاقتصادي. تعود هذه المفارقة إلى استمرار أنماط القيادة التقليدية الهرمية التي تركز عل…

يشهد الشرق الأوسط أحد أكثر التحولات الاقتصادية طموحاً في التاريخ، إذ تسخر الاستراتيجيات الوطنية، مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، رؤوس أموال ضخمة في مشروعات عملاقة وقطاعات قائمة على المعرفة، مانحة بذلك أولوية استثنائية للقيادة الفعالة. وعلى الرغم من ذلك، يخفي هذا التقدم السريع في طياته تناقضاً خطيراً، وهو مفارقة القيادة في الشرق الأوسط. إذ تكشف البيانات أن القوى العاملة في هذه المنطقة هي من بين الأكثر توافقاً مع مؤسساتها والأقل إدماجاً في العالم في الوقت نفسه؛ ففي حين أن 85% من الموظفين يفهمون أهداف شركاتهم ويثق 80% منهم بقادتهم، فإن 15% فقط منهم مدمجون في العمل.

ينتج عن مفارقة ارتفاع التوافق وانخفاض الاندماج خسائر في الإنتاجية تبلغ نحو 10.3 مليارات دولار أميركي في الإمارات العربية المتحدة وحدها، إذ تؤدي أساليب القيادة السائدة في المنطقة إلى ضمان الامتثال التعاملي، لكنها لا تحفز الموظفين على تبني التحول الضروري لإنشاء الاقتصاد القائم على الابتكار، ما يجعل حل هذه المشكلة ضرورة اقتصادية وطنية.

كشف الانفصال

تنبع هذه المفارقة من التعارض بين القيادة التقليدية وتوقعات القوى العاملة الحديثة. فعلى مدى عقود، صمم البشر المؤسسات بناءً على هياكل القيادة والتحكم الهرمية التي تمنح الأولوية للسلطة والتوجيه التنازلي. وعلى الرغم من فعالية هذا النهج في المشروعات الصناعية السابقة، فإنه يتعارض مع توجه القوى العاملة الحالي نحو "إعادة التقييم الكبرى"، والميل الكبير للتنقل الوظيفي (44% من الموظفين يفكرون في تغيير شركاتهم، وهو معدل أعلى بكثير من المتوسط ​​العالمي) بدافع النمو وليس الأجور، التي يعتقد 82% من الموظفين أنها عادلة. فالدافع الرئيسي للموظفين الذين يتطلعون إلى تغيير وظائفهم هو الحصول على فرصة تعلم مهارات جديدة، وهو مطلب ناتج عن وعيهم العميق بالتحولات التكنولوجية والبيئية. وبالتالي، فإن استعداد هذه القوى العاملة للتنقل الوظيفي يمثل خطراً منهجياً على رؤى المنطقة الاقتصادية التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات، ما يتطلب إنشاء عقد اجتماعي جديد قائم على التطوير والثقة والاستقلالية.

آلية الكشف عن الانفصال: نهج قائم على الأدلة

لا يمكن حل مشكلة الانفصال بين القيادة التقليدية ومتطلبات القوى العاملة الحديثة بتطبيق النصائح الإدارية العامة، بل يتطلب ذلك تطبيق منظور تشخيصي جديد لفهم العوامل المحددة التي تسد الفجوة بين التوافق والإدماج. وهنا، يبرز متغير مهم جداً يميز القادة الفعالين فقط عن القادة أصحاب الأثر الحقيقي، يمكن أن نسميه "الأثر التكاملي". يتجاوز هذا المفهوم الثقة التعاملية ويمثل الاعتقاد الراسخ لدى الموظف أن قائده يستثمر بصدق في نموه الشامل وسيهيئ وسطاً آمناً نفسياً للابتكار وسيربط بوعي بين غاية الموظف ورسالة المؤسسة.

تكمن أهمية هذا المفهوم في قدرته على تفسير مفارقة القيادة، إذ يكشف عن الترابط الإيجابي بين تمتع القادة بمستويات عالية من الأثر التكاملي وإبلاغ الفرق عن تمتعها بتوافق استراتيجي كبير وإدماج جوهري وعميق.

الدليل الإرشادي الجديد المتمحور حول الإنسان

إذا أراد القادة حل مفارقة القيادة والاحتفاظ بأفضل أصحاب المواهب، فعليهم تبني نهج جديد يدفعهم للتركيز على الأثر المتمحور حول الإنسان بدلاً من الرؤية التنازلية. يتطلب ذلك التمتع بأربع قدرات مترابطة ليست مجرد مهارات شخصية، بل قدرات استراتيجية أساسية لتخفيف المخاطر ودفع عجلة النمو المستدام.

1. القيادة بشجاعة في ظل الغموض: في عالمنا المتغير باستمرار، لم يعد وضوح التعليمات كافياً، بل يجب على القادة التحلي بالشجاعة الكافية للتصرف بحزم في ظل حالة عدم اليقين. يعني ذلك تعزيز الفضول الكافي لطرح أسئلة أعمق وتوضيح الغايات حتى في المواقف المعقدة وتعزيز التواصل بين الفرق المتنوعة لتحفيزها على اتخاذ الإجراءات الجريئة، وهو ما يتطلب التمتع بالمرونة الذهنية للتعامل مع التناقضات واستخدام الأسلوب التوجيهي تارة والنهج الأكثر تكيفاً وتمكيناً لتعزيز الابتكار تارة أخرى.

2. خلق ثقافة الأمان النفسي: أصبح الدور الأهم للقائد الآن هو دور المهندس الثقافي، فالميزة التنافسية اليوم تنبع من الإبداع والتجريب، اللذين لا يمكن أن يزدهرا إلا في وسط آمن نفسياً. يعني ذلك خلق مناخ يشعر فيه الموظفون بالأمان والقدرة على التعبير عن اختلافهم مع الآخرين والمخاطرة على نحو مدروس والتعلم من الفشل دون خوف من العقاب، وفيما يخص منطقة الشرق الأوسط التي تضم أكثر من 200 جنسية، يعني ذلك أن خلق ثقافة الأمان النفسي يتطلب أيضاً تعزيز "الثقافات المصغرة" التي تتيح للفرق تطوير طرق عمل فريدة تسخر التنوع بصفته واحداً من الأصول الاستراتيجية، بدلاً من فرض ثقافة مؤسسية واحدة متجانسة.

3. اتباع نهج يركز على الإنسان في استخدام التكنولوجيا: تبدي القوى العاملة في الشرق الأوسط تفاؤلاً استثنائياً بشأن الذكاء الاصطناعي، إذ يشعر أكثر من 82% من العاملين في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بالتفاؤل حيال إمكانات هذه التكنولوجيا، وبالتالي، يجب على القادة الفعالين تبني نهج "يقوده الإنسان ويعتمد على التكنولوجيا" يؤطر الذكاء الاصطناعي على أنه أداة معززة، وليس مجرد أداة للأتمتة. ينطوي ذلك على تثقيف الموظفين بالذكاء الاصطناعي في مختلف أنحاء المؤسسة وإعادة تصميم آليات العمل لتعزيز قيمة الإنسان. فمن خلال استخدام الذكاء الاصطناعي لأداء المهام الروتينية يستطيع القادة توفير الوقت للتركيز على المهام المقتصرة على الإنسان، مثل تدريب الموظفين وتوجيههم وتطويرهم، ما يلبي الرغبات الأساسية للقوى العاملة الحديثة مباشرة.

4. إتقان التواصل العابر للثقافات: تعد القدرة على قيادة الأفراد على اختلاف ثقافاتهم مهارة ضرورية للنجاح، ولا يمكن الاستغناء عنها في المؤسسات التي تضم المواهب من مختلف أنحاء العالم، ويتطلب امتلاك هذه المهارة التمتع بحساسية ثقافية عالية والقدرة على بناء الثقة مع الأفراد بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والوطنية. وعليه، يجب على القادة أن يتجاوزوا الأطر المرجعية الخاصة بهم لإطلاق العنان لـ "العبقرية الجماعية" الكامنة في مجموعة أصحاب المواهب من مختلف أنحاء العالم، ما يحول التنوع من تحد إلى أكثر مصادر الابتكار فعالية في المؤسسة.

دعوة لإعادة ابتكار القيادة

يقف الشرق الأوسط عند مفترق طرق تاريخي، الرؤية واضحة ورأس المال وافر، لكن نجاح هذا التحول الكبير يتوقف على كفاءة قيادته، فالنهج التقليدي لم يعد كافياً لتحقيق هذه الغاية. والاستمرار في تطبيق النموذج الذي يحقق التوافق المرتفع مع الإدماج المنخفض هو مخاطرة استراتيجية قد تضعف أسس الاقتصاد الجديد.

الحل هو تبني النهج الجديد المتمحور حول الإنسان على نحو هادف، وأدركت المؤسسات ضرورة ذلك بالفعل، فعلى سبيل المثال، بدأت كلية هارفارد للأعمال ومركز القيادة الإبداعية بتوسيع برامج التطوير التنفيذي في المنطقة لتنمية هذه القدرات، لكن يجب توسيع نطاق هذه الاستثمارات ليشمل المؤسسات جميعها.

والخلاصة، لن يبني القادة الذين يفرضون الطاعة فحسب مستقبل الشرق الأوسط، بل سيبنيه أولئك القادرون على إلهام الموظفين على الالتزام وتعزيز الإبداع والتركيز في النمو على أثر الإنسان. هذا هو الأسلوب القيادي الذي يحل مفارقة القيادة ويطلق العنان للازدهار المستدام الموجه نحو الابتكار الذي تسعى إليه المنطقة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي