من المفروغ منه أن المهنيين بشكل عام يحتاجون إلى تحديث معلوماتهم والاستمرار في تطوير مهاراتهم لمجاراة الطوفان المعرفي وحالات الزعزعة التي تطال المزيد من نماذج الأعمال في مختلف القطاعات. إنّ هذه الحاجة هي أكثر إلحاحاً بالنسبة للخبراء والاستشاريين وذلك لأن القيمة التي يقدمونها مرتبطة مباشرة بقدرتهم على توفير معلومات محدثة، وطرق عمل تلبي الاحتياجات الحالية للمستفيدين.
يواجه الخبراء تحدياً حقيقياً في اكتساب المعارف المطلوبة وإبقاء أنفسهم على اطلاع ودراية بشكل مستمر، وهذا التحدي هو أشد مما يواجهه الموظفون والمهنيون العاديون، وذلك لاختلاف مستوى التوقعات المطلوبة منهم والطبيعة النوعية لعملهم الاستشاري.
من تحديات التعلم التي تواجه الخبير هي عدم توفر الفضول، إذ يتمتع الأطفال والطلاب والخريجون والموظفون الجدد بقدر كبير من الفضول، والذي يشكل المحرك الذي يدفعهم إلى التعلم المستمر وتطوير المهارات الشخصية، والتساؤل الدائم عن سبل كسب المعارف، لكن الخبراء الذين وصلوا إلى مرحلة النضج غالباً ما يقومون بتقييد هذه النزعة وكبح هذا الفضول، وهذا ليس ناتجاً فقط عن عامل السن والحالة الفيزيولوجية التي تمر بها هذه الفئة، والتي هي غالباً من فئة عمرية متوسطة أو متقدمة، وإنما أيضاً هناك حالة نفسية تسهم في ذلك وهي أن الاستشاريين والخبراء قد قاموا خلال عملهم بإنجاز الكثير من المشاريع والأعمال للعديد من المؤسسات والأفراد، وأنفقوا الأوقات الطويلة في استخدام منهجيات وطرق عمل محددة فأصبحوا يألفونها. كما وتحقق لهم المكانة والأفضلية على غيرهم، وإن النزعة الإنسانية تميل إلى الاحتفاظ بما يحقق لها التميز، ومقاومة ما يدفعها إلى التخلي عن هذا التفوق، الأمر الذي يحد من فضول الخبراء في اكتساب معارف جديدة وتطوير ما لديهم من معارف.
اقرأ أيضا: ما علاقة التعليم مدى الحياة بالسوق؟
على الرغم من أن سرعة التعلم لدى الخبراء تصبح أقل مع تقدم العمر، إلا أن العديد من الأبحاث قد أشارت إلى أنّ عمق التعلم واكتساب المعرفة العملية التي تساعد على حل المشكلات تصبح أفضل. والجيد في الأمر وجود مجموعة من الحلول يمكن للخبراء والاستشاريين اللجوء إليها للتعامل مع هذا الواقع، وللتمكن من مجاراة هذا السيل المعرفي الجارف.
محو التعلم: وهو بذل جهد واع للتخلص من المعارف السابقة التي تم اكتسابها وذلك لعدم إمكانية تطبيقها في الوقت الحاضر أو تعارضها مع معارف أخرى أكثر حداثة. ويعتبر محو التعلم أحد أهم متطلبات التعلم لدى الخبراء، فلا يكفي أن تتعلم أشياء جديدة ولكن لا بد من تحييد قناعاتك السابقة والمعارف التي لديك أصلاً عن المهارة التي تعلمتها، لأن المعلومات السابقة في معظمها لم تعد مناسبة لما نعيشه في عالمنا اليوم، وبالتالي فلو أبقيتها كما هي وعلى نفس المقدار من الأهمية والمصداقية فإنها ستقوم بالتشويش على معارفك الجديدة وتؤثر على جودة المعلومات التي تقوم باكتسابها. يقول المفكر المستقبلي جاك أولدريش في كتابه "محو التعلم العالي: 39 درساً متطلباً لتحقيق مستقبل ناجح" (Higher Unlearning: 39 Post-Requisite Lessons for Achieving a Successful Future) أن ما تعرفه من المحتمل أن يضرك أكثر مما لا تعرفه، وذلك في الإشارة إلى ضرورة محو التعلم لتحقيق النجاح في المستقبل.
التعلم من الآخرين: شبكة العلاقات المهنية هي أمر مهم للغاية بالنسبة للخبراء وذلك من خلال اللجوء إلى الأشخاص الذين يسبقونك بخطوة أو أكثر في المجال الذي تريد اكتساب المعارف فيه، من شأن ذلك حصولك على معلومات مفيدة وكذلك اختصار الطريق الذي ستقوم بمشيه وصولاً إلى هدفك، عليك أن تتغلب على الأنا وتحاول قدر استطاعتك التواضع في التعلم، ربما ستقنع نفسك بذلك إذا عرفت أنك أنت المستفيد وأن النصائح والمعلومات التي ستحصل عليها ستساعدك في تطوير نفسك والوصول إلى أمكان لم تصلها من قبل. كذلك فإن التعلم من الآخرين بشكل غير مباشر يعتبر خياراً وذلك من خلال مراقبة الأشخاص الناجحين فيما تود تعلمه، ومحاولة الاستفادة مما يقومون به ويتناسب مع أجندتك الخاصة.
التعلم الفائق: ويكون من خلال تعليم نفسك مهارات محددة بالطريقة التي تناسبك وبالابتعاد عن التعليم والتدريب التقليدي وبشكل أكثر فعالية. هناك عدة طرق ليتمكن الخبراء من التعلم بشكل فعّال، أول طريقة، من خلال تطبيق مفهوم التباعد في التعلم وذلك حين تتعرض للمعلومات بشكل متكرر وعلى فترات متباعدة وهذا الأمر من شانه أن يجعلك قادراً على الاحتفاظ بالمعلومات لفترة أطول. كذلك هناك طريقة التعلم الزائد، وتكون بأن تتعلم شيء جديد بهدف حل مشكلة محددة، أو أداء مهمة معينة، ثم تقوم بممارسة هذه المهارة مع الإضافة إليها بشكل تدريجي وهذا سيجعلك قادراً على الاحتفاظ بهذه المهارة الجديدة لأطول فترة ممكنة.
يقدّم سكوت يونغ في كتابه "التعلم الفائق" (Ultra learning) نصيحة للاستفادة من هذا النوع من التعلم بأن تبدأ باختيار مهارة محددة بشكل واضح وذات أهمية مهنية بالنسبة لك، وأن تقوم بالتدرب عليها حتى تتقنها، سيمنحك هذا شعوراً بالإنجاز كما أنه سيساعد على تحسين أدائك في الموضوع الذي قمت باختياره. ليس مطلوب منك تعلم مهارة كاملة، ولكن أن تُقدم على مهارة ثانوية تساعد في تحسين أدائك العام في اختصاص معين.
حدد أولويات التعلم الفوري: لا يمكن للشخص العادي تعلم كل شيء دفعة واحدة، لذلك هناك مساقات وبرامج تعليمية متسلسلة ومدروسة، ما بالك إذا كان الأمر يتعلق بخبير أو استشاري لديه الكثير من الالتزامات ويرى أمامه مصادر غير منتهية للتعلم وكماً هائلاً من الكتب والمقالات ومقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية، وغيرها.
عليك في هذا الخضم أن تكون انتقائياً وتحدد ما تريد تعلمه بشكل دقيق وواضح، تضمنت دراسة تم نشرها من قبل المنظمة الدولية للبيانات (IDC) أن الشخص العادي يقضي 25% من وقت تعلمه الذاتي في البحث عن مصادر البيانات وإجراء المقارنات والاختيار ما بين المصادر، وهذا وقت طويل وثمين يمكن الاستفادة منه في اكتساب المهارات الطلوبة.
يمكنك استخدام عدة طرق لتحديد أولويات التعلم كاستخدام مصفوفة بسيطة مكونة من أربع خانات موزعة على محورين: المحور الأول هو درجة الاستفادة وتكون قليلة أو كبيرة، أما المحور الثاني فهو الوقت اللازم للتعلم ويكون قليلاً أو طويلاً. يمكن الاستزادة حول هذه الطريقة من خلال مقال منشور في هارفارد بزنس ريفيو العربية.
التعلم المتخصص أم المتنوع: يحرص عدد كبير من الاستشاريين على إنفاق ما لديهم من وقت على تعميق معرفتهم في مجال تخصصهم لاعتقادهم بأن هذا هو الأمر المجدي والذي يستحق العناء وبذل الجهد، ولكن يفوتهم أن المهارات المتعددة والمعارف المتنوعة تغذي الابتكار الشخصي وتلهم الخبير إلى أفكار إبداعية تشكل قيمة مضافة وتنقل عمله إلى مستوى آخر. ولعل المعادلة الأفضل في هذا الإطار هي الحرص على مزج الخبرة المتخصصة مع المعارف العامة، الأمر الذي نصح به العديد من الخبراء واعتبروه طريقة مناسبة للخبير ليوسع أفقه وفي نفس الوقت يكون قادراً على إقناع المختصين بجدوى ما يقوم باقتراحه.
الخبراء والاستشاريون بحاجة ماسة إلى التعلم الذاتي، وبذل جهد مضاعف لاكتساب المهارات أولاً بأول. وذلك للبقاء في دائرة الضوء والاستمرار في تقديم قيمة مضافة في حياتهم المهنية، وأن ذلك لن يتحقق للخبير مهما علا شأنه وسطّر من إنجازات في السابق إذا لم يدفع نفسه للخروج من منطقة الراحة الخاصة به، ويقتنع أن عاصفة التغيير في عالم الأعمال لا تطال المؤسسات ونماذج الأعمال فقط، وإنما المهنيين الأكفاء أيضاً.