يتطلب نموذج العمل الجديد للصحة أن تعالج مؤسسات الرعاية الصحية المشاكل الطبية والاجتماعية مثل الجوع، والشعور بالوحدة، والصدمات النفسية على حد سواء. وذلك لأن هذه الأنواع من القضايا، المعروفة باسم العوامل الاجتماعية المحددة للصحة (SDOH)، تشكل العوائق الرئيسة أمام تحقيق النتائج التي يتم تحفيز مؤسسات الرعاية الصحية لتحقيقها.
وتُعتبر هذه العوامل الاجتماعية مجالاً مجهولاً بالنسبة للعديد من مؤسسات الرعاية الصحية، ولكن هذا لم يمنعهم من دخوله. لقد ازداد عدد برامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة، والقائمة على النظام الصحي أكثر من عشرة أضعاف في العقد الماضي. وربما كان رد الفعل هذا دليلاً على نوع التغيير الذي طالما انتظره المدافعون عن المجتمع. إلا أن هناك مشكلة واحدة، وهي أن الكثير من هذه البرامج يحمل خطورة فشل عالية، فهي تفتقر إلى التخطيط المنظم.
ويتمثل التصور النموذجي في قيام الطبيب أو التنفيذي في قطاع الرعاية الصحية، بنية حسنة، بتأمين التمويل لاختبار برنامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة. وغالباً ما يقوم هؤلاء الأبطال، الذين أثقلت الجداول الزمنية الضيقة ومسؤوليات التنافس كاهلهم، بتجميع سريع لبرامج تجريبية محدودة تتمحور حول مفاهيم رفيعة المستوى، مثل الاستفادة من الأخصائيين الصحيين للمجتمع المحلي، أو بناء منصات الإحالة. فيضحّون بالتخطيط في سبيل النفعية، وبذلك، يعتزم قادة القطاع الصحي، الذين لا يتسامحون إطلاقاً مع أي نهج هاوٍ في تطوير العقاقير، استعجال تطوير الإجراءات الاجتماعية المعقدة. لماذا نحترم قوانين اكتشاف الطب الحيوي في حين أننا نستخف بما يخص الابتكار الاجتماعي؟.
يبدو أن الكثير من التسرع بشأن هذه البرامج تسببه كلمة "التجريبي" واسعة الانتشار، والتي تعني القبول بخفض المعايير أو تأجيل التخطيط بسبب أن تكرار التجربة في المستقبل أمر متوقع. كما يعود السبب وراء تمكين هذا النهج مفرط الثقة إلى عناوين الأخبار الرئيسية التي تعلن العائدات الضخمة على الاستثمار. إذ تدعم الدراسات القبْلية والبعدية، التي لا تقيس سوى التراجع نحو الوسط، عدداً كبيراً من النتائج المبالغ فيها. والواقع وفقاً لتحليل ميتا الذي أجري مؤخراً، هو أن عدداً قليلاً جداً من إجراءات برامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة يتمكن من تخفيض استخدام الرعاية الصحية أو تكاليفها، ولكن ربما كان ذلك بسبب التصميم الرديء لهذه البرامج، وليس بسبب عدم قدرتها على العمل بفعالية.
بالنظر لهذه العوامل كلها، نجد أنها ولّدت ضجيجاً حول برامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة كان له أثر مدمر على المدى الطويل. ومن المُحتمل ألا يُحقق كثير من هذه البرامج النتيجة المرجوة، وبالتالي قد يستنتج قادة قطاع الرعاية الصحية الذين خاب أملهم أن هذه البرامج جميعها غير ناجحة.
أمضيت مع فريقي في جامعة "بنسلفانيا" العقد الماضي، بينما نعمل على تطوير برنامج "إمباكت" (IMPaCT) ، وهو برنامج موحد للأخصائيين الصحيين في المجتمع المحلي، يعالج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة على نحو فعال. إذ اخبرنا برنامج "إمباكت" في عدة تجارب عملية عشوائية، أظهرت إحداها تحسناً مستمراً في الجودة، مع تقليل أيام الإقامة في المستشفى بنسبة 65%. وتُتَرجم هذه النتائج إلى عائد بقيمة دولارين لكل دولار يُستثمر في البرنامج سنوياً. ونحن نعتقد أن الأداء العالي لنموذج "إمباكت" إنما هو نتيجة مباشرة للتخطيط والتفكير التصميمي اللذين استخدمناهما في تطويره. والآن، نشارك المعلومات التي استقيناها من بناء نموذج "إمباكت"، ومن المساعدة التقنية التي قدمناها، في مساعدة المؤسسات على الوصول إلى حلول خاصة بها لبرامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة.
ابدأ بفريق صغير
كثيراً ما نرى قادة قطاع الرعاية الصحية يتنازلون عن تصميم برامج العوامل الاجتماعية المحددة لصالح لجنة استشارية أو هيئات استشارية مجتمعية. وفي حين أن الشمولية أمر حيوي ومنعش، إلا أن مطبات التصميم الذي تضعه اللجنة معروفة جيداً. إذ يمكن أن تكون الديناميات التنظيمية بين مؤسسات الرعاية الصحية المعقدة ووكالات الخدمة الاجتماعية مشحونة جداً. وقد وجدنا أنه من الملّح إشراك وجهات نظر متنوعة، في الوقت الذي يتم فيه استثمار السلطة في المؤسسات التي تكرس الوقت والخبرات اللازمة. فأنا مثلاً أقود مجموعة عمل مؤلفة من خمسة أشخاص، تضم باحثين يتمتعون بالخبرة في العوامل الاجتماعية المحددة للصحة، وقائد مؤسسة صحية، وواحداً من أفراد المجتمع.
حدِّد المشاكل بدقة
يتخطى العديد من القادة، الذين يعتقدون أن برامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة هي علاج شامل، الخطوة المتمثلة بتحديد المشكلات، أو وضع قائمة بعشرات النتائج التي يتوقعون من برنامجهم تحسينها. لذلك قمنا بتعداد ثلاث أو أربع مشكلات اجتماعية ومالية هامة، ونتائج مجدية بصورة مسبقة. على سبيل المثال، ركزنا على تحسين فرص الحصول على الرعاية الأولية في مرحلة ما بعد المستشفى، لأنها مهمة للمرضى أصحاب الدخل المنخفض، كما أنها كانت مرتبطة بالتعويض المعزز للمورّد. وركزنا أيضاً على الجودة، وعدد الأيام التي يقضيها المريض خارج المستشفى، وهما أمران مهمان لجميع المعنيين.
وقد أتاح لنا تحديد المشاكل والنتائج المرجوة مقدماً إيجاد حلول لها في تصميم برنامجنا، وقياسها في التجارب العملية، ومن ثَم ترجمة التحسينات إلى عائد على الاستثمار.
افهم المستخدم النهائي
صحيح أن إشراك المستخدمين النهائيين في التخطيط هو فكرة جيدة دائماً، إلا أنها الأهم بالنسبة لبرامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة تحديداً. هذا لأن المستخدمين النهائيين لهذه البرامج، وهم ذوي الدخل المحدود، ليس لهم أصوات تمثلهم داخل قطاع الرعاية الصحية غالباً. ولكن يقوم بعض قادة الرعاية الصحية الحكماء بإشراك المرضى من خلال الهيئات الاستشارية، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، قد يتم اختيار هذه الهيئات ذاتياً، ومن غير المحتمل أن تضم بين أعضائها امرأة مشردة تعاني من مرض السكري، وبالتالي قد تكون مخاطر التمثيل رمزية.
ولذا، أجرينا مقابلات مع 1,500 مريض من ذوي الدخل المتدني، على الشرفات، وأسرة المشافي، وفي السجون والملاجئ. وسألناهم عما يجعل الحفاظ على الصحة الجيدة أمراً صعباً، وما يجب علينا فعله لمساعدتهم. وسجلنا هذه المقابلات في ملفات صوتية، وأفرغنا محتواها ثم حللناه، واستخدمنا المعلومات الناتجة لتصميم نموذج "إمباكت". وبالتأكيد، ليس إجراء مقابلات مع آلاف المرضى ضرورياً، ولا سهلاً على كل مؤسسة في قطاع الرعاية الصحية، إلا أن إجراء حوالي عشرة محادثات تقريباً قادر على تزويد البرنامج بمعلومات كثيرة.
ادرس النجاحات السابقة، وفكر ملياً في إخفاقات الماضي
رغم أن برامج العوامل الاجتماعية المحددة لا تزال جديدة نسبياً في قطاع الرعاية الصحية، إلا أنها ليست مفهوماً جديداً. ويملك الباحثون في التفاوتات الاجتماعية وعلماء الاجتماع خبرة عميقة في تصميمها وتنفيذها وتقييمها. كما تتقدم البلدان النامية على الولايات المتحدة في هذا المجال في كثير من الأحيان، بسبب حاجتها الأشد لتوفير الرعاية الوقائية، وتحديد نفقات الرعاية الصحية بفعالية.
وفي أثناء التخطيط لنموذج "إمباكت"، انغمسنا في خبرات الأخصائي الصحي في المجتمع المحلي في الولايات المتحدة وخارجها على حد سواء، عن طريق القراءة والمناقشة مع الخبراء. وأولينا اهتماماً خاصاً لإخفاقات الماضي، وهو أمر ضروري للتغلب على الثقة المفرطة لدى "المؤمنين" الذين لديهم إيمان أعمى بهذه البرامج. وبناء على الدروس التي استقيناها من البرامج السابقة للأخصائيين الصحيين في المجتمع المحلي، بنينا خوارزميات توظيف، لتقليل معدل دوران الموظفين، وإيجاد رقابة صارمة من أجل ضمان الجودة.
تَبنّ كتيب توجيهات البرامج وأقم "فعاليات لوضع التصاميم"
إن تعبير ابتكار "الدورة السريعة" رنان أكثر من برامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة، ومع ذلك يمكن أن يكون إجراء تقييمات سريعة ومتكررة للبرامج أمراً صعباً من الناحية العملية. ففي كثير من الأحيان، تكون لدى مصممي البرنامج تقييمات متضاربة وشخصية لما ينجح أو ما لا ينجح في برامجهم. وتفتقد برامج كثيرة الأهداف والفرضيات المتوقعة المكتوبة صراحة، والقابلة للقياس، والتي استخدمها العلماء لسنوات من أجل ضبط عملياتهم، وغالباً لا يكون هناك أي نظام مكتوب للبرنامج. ومن الصعب أن تُنقح ما لم يوصف النظام أو لم تحدد معاييره أساساً.
لهذا، قمت أثناء عملية التخطيط بصياغة كتيبات توجيهية للبرنامج وهي توجيهات واضحة تصف كيفية تشغيل برامج الأخصائي الصحي في المجتمع المحلي المماثلة لبرنامجنا. وبدأنا تنفيذ برنامجنا على نطاق ضيق جداً، مع أخصائيين صحيين اثنين فقط، يعملان بدوام جزئي. وتابعتهما لأسابيع وأنا أمسك كتيب التوجيهات في يد وقلماً أحمر في اليد الأخرى. وعندما كانا ينحرفان عن نظامنا كنت أسألهما عن السبب، وإذا وجدت أن تبريرهما منطقياً، كنت أعيد النظر في النظام وأنقحه. ولكن لم تنته عملية "التصميم في الموقع" هذه عند مرحلة التخطيط، ولا زلنا نُجري مراقبة دورية قائمة على كتيب التوجيهات للأخصائيين الصحيين في المجتمعات المحلية العاملين في المجال. كما نُقيم "فعاليات لوضع التصاميم" على نحو دوري، أو اجتماعات تضم جميع أفراد الفريق البالغ عددهم 60 فرداً، نراجع خلالها الكتيبات التوجيهية وننقحها.
إن علاج الفقر يساوي في صعوبته علاج السرطان أو أمراض القلب، إن لم يكن أكثر صعوبة. فعلى الأقل يوجد فهم أولي يقول إن مرض السرطان هو مرض وراثي أساساً، وإن المرضى الذين يعانون من قصور القلب لديهم حساسية تجاه استهلاك الملح، بينما لا نملك فكرة واضحة عن كيفية تسبب الفقر بالمشاكل الصحية، أو كيفية تسبب الوحدة بموت الإنسان. اليوم، ورغم أن الأنظمة الصحية تولي العوامل الاجتماعية المحددة للصحة اهتماماً كبيراً، وهذا أمر مشجع، إلا أنها ستحتاج للانضباط ذاته الذي ساعدها في تطوير العلاجات الطبية الحيوية.
ليس من الضروري أن تكون هذه البرامج مثالية عند انطلاقها، ولكن إذا كانت معدة للفشل، فسيكون هو مصيرها على الأرجح. ولهذا، من المهم جداً محاولة جعلها تسير في المسار الصحيح منذ البداية، فضلاً عن بنائها بطرق إنشاء البرامج مما يتيح تصحيح المسار حسب الحاجة. أضف إلى ذلك أن تحديات إدارة التغيير تجعل إصلاح البرنامج المعطوب أصعب من وضعه على المسار الصحيح منذ البداية. ليس من الضروري أن يُكلف التخطيط الدقيق وقتاً طويلاً أو موارد كثيفة، فقد استمرت مرحلة التخطيط لبرنامجنا نحو ستة أشهر فقط. وكما هو الحال في عالم الطب الحيوي، يمكن اختصار الجداول الزمنية وتعزيز النتائج باستخدام إجراءات تدَخل قائمة على الأدلة بدلاً من إعادة تصميم البرنامج وكأننا نعيد اختراعه من البداية.
تبرز فوائد برامج العوامل الاجتماعية المحددة للصحة بسرعة كبيرة، وأصبحت شركات التأمين الكبيرة، وحتى شركات رأس المال المغامر (أو شركات رأس المال الجريء) تستثمر الملايين من الدولارات في هذا المجال، إلا أن هذا المال لن يتمكن وحده حلّ المشاكل الاجتماعية المعقدة. وبعد أعوام من الآن، سيحدِّد تفكيرنا المتأني والجهد الذي نبذله اليوم ما إن كنا سنملك في المستقبل خليطاً من المبادرات غير المتكافئة أم نظاماً قوياً مؤلفاً من برامج فعالة للعوامل الاجتماعية المحددة للصحة.