لماذا يعمل الكثير من المهنيين ذوي الأداء العالي بوتيرة مجهدة حتى عندما يضر ذلك بصحتهم وعلاقاتهم ورفاهتهم الشخصية؟ ولماذا تفشل محاولات المؤسسات للحد من ساعات العمل المفرطة، مثل سياسات عدم إرسال رسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات العمل ومبادرات الصحة النفسية والندوات الصحية؟
كشف بحثنا الذي سننشره قريباً عن آلية شديدة التأثير يتجاهلها الكثيرون وتؤدي إلى هذا السلوك، وهي "دورة الانغماس القسري". أجرينا أكثر من 150 مقابلة شخصية في شركات المحاماة والمحاسبة العالمية واكتشفنا أن المهنيين يدخلون في حالة من الاندماج العاطفي والجسدي مع إيقاع العمل المجهد في مؤسساتهم، ما يخلق حلقة مغلقة من الضغط تحاصرهم داخل ثقافة العمل المفرط.
على الرغم من أن ثقافات العمل ذات الإيقاع العالي تبدو أنها عالية الكفاءة ومربحة على المدى القصير، فإن العواقب الطويلة الأمد للإفراط في العمل على المؤسسات خطيرة، كما أن الكثيرين يقللون من شأنها غالباً. تشمل هذه العواقب تسرب الموظفين الناجم عن الاحتراق الوظيفي (خاصة بين ذوي الأداء العالي) وعدم توافر ما يكفي من الفرص للموظفين للإبداع وانخفاض الإنتاجية وارتفاع معدل الأخطاء وهشاشة ثقافة العمل على نحو غير اعتيادي، كما أنها تعتمد جميعها على الإثارة المرتبطة بالعمل المستمر. قد يزول هذا الولاء المعتمد على الوتيرة السريعة في فترات تباطؤ الأعمال أو الأزمات، مثل فترات الركود الاقتصادي أو الانتقالات القيادية، ما يؤدي إلى انفصال الفرق أو الاستقالات الصامتة أو المفاجئة، كما رأينا خلال جائحة كوفيد-19.
ما الذي تستطيع المؤسسات فعله لحماية نفسها من العواقب الخطيرة لوتيرة العمل السريعة؟ اعتماداً على دراستنا، سنقدم في هذا المقال رؤى حول أسباب نشوء دورات الانغماس القسري وطرق التخلص منها والآليات البديلة التي يجب على الشركات تطبيقها للحفاظ على الربحية مع دعم صحة الموظفين ورفاهتهم ومعدل الاحتفاظ بهم.
عواقب الانغماس القسري
العمل ساعات إضافية ليس مجرد عادة في العديد من شركات الخدمات المهنية النخبوية، بل إنه أسلوب حياة. يعمل الموظفون عادة خلال المساء وفي عطلات نهاية الأسبوع والعطلات الأخرى ليس فقط لأن مدراءهم يطلبون منهم ذلك أو لأنهم متحمسون بصورة خاصة أو لأنهم من الموظفين "الممتازين"، بل لأنهم يشعرون بأن هذه الوتيرة طبيعية وحتى ضرورية.
اكتشفنا في دراستنا أن هذه المؤسسات ذات وتيرة العمل السريعة تشترك في بعض الخصائص، ومنها ما يلي:
- أنظمة مراقبة الدوام الرسمية، مثل معدلات الاستخدام والجداول الزمنية التي تدفع الموظفين إلى توثيق العمل الذي ينجزونه كل نصف ساعة، ما يعزز الإحساس الدائم بالضرورات الملحة.
- أنظمة التقدم المهني، مثل نماذج الترقية أو التسريح وأنظمة تقييم الأداء، التي تفرض على المهنيين تحقيق أهداف الأداء التي تزداد صعوبة عاماً بعد عام.
- الثقافة التي يرسخها المدراء والأقران وتصور الإفراط في العمل على أنه سلوك فاضل وطبيعي، ما يجعل وضع الحدود يبدو كأنه عدم التزام بالعمل.
لا تؤثر أنظمة إدارة الأداء والرقابة في السلوك فحسب، بل إنها تملي على الموظفين ما يجب أن يشعروا به في ساعات العمل وخارجها.
لاحظنا في البحث أنه عندما يخرج الموظفون من حالة الاندماج مع شركاتهم (خلال العطلات أو فترات الهدوء مثلاً)، فإنهم يشعرون غالباً بمشاعر سلبية مثل القلق والملل والشعور بالذنب وحتى أعراض الانسحاب الجسدية. قالت شريكة في شركة تدقيق إنها تعاني المرض في بداية العطلات، وهذا مثال نموذجي لتأثير الانخفاض، الذي يصبح الجسم بسببه عرضة للمرض مع انخفاض مستويات هرمون التوتر بعد التعرض للتوتر لفترات طويلة.
التفاعل بين الدعم المعنوي الإيجابي الذي يشعر به المهنيون عند الاندماج مع أنماط العمل المجهد وردود فعلهم السلبية عند الخروج من حالة الاندماج هذه له آثار نفسية ملموسة شديدة في الأفراد. ما يجعل الانفصال عن إيقاع العمل صعباً بالنسبة لهم، حتى عندما تصبح عواقب ذلك عليهم واضحة. يقول شريك في شركة محاماة:
"عموماً، أكون أكثر نشاطاً عندما أكون مشغولاً. لكن عندما لا أكون مشغولاً، فإن الضغوط المرتبطة بالفراغ والناجمة عن المقاييس المالية والمعايير الأخرى التي تقيمنا مؤسساتنا بناءً عليها تصيبني بالإجهاد لأنها تدفعني إلى انتقاد نفسي بقسوة، ما يجعل حالتي المزاجية سيئة في المنزل كما كانت في العمل".
لماذا يعلق الموظفون في دورة الانغماس القسري؟
لم يصف الموظفون المشاركون في الدراسة غالباً إيقاع العمل السريع على أنه مفروض عليهم، بل على أنه سلوك يتوقون إليه أو على الأقل يعجزون عن العمل جيداً دونه. قال أحدهم إنه يشعر "بالإثارة" بسبب وجود المواعيد النهائية لتسليم العمل، بينما اعترف آخر بأنه "شعر بالملل" عند غياب هذه المواعيد. تؤثر وتيرة العمل هذه في الصحة البدنية أيضاً؛ إذ بينت ساعة آبل التي يستخدمها أحد المشاركين ارتفاعاً حاداً في معدل ضربات القلب عند الراحة خلال مواسم ضغط العمل العالي، بينما قال البعض إنهم يتناولون مضادات الاكتئاب للتعامل مع الفترات العصيبة بصورة خاصة، وذكر آخرون أنهم يلجؤون إلى الإفراط في تناول المهدئات لتخفيف الضغط.
الأهم من ذلك هو أن إيقاع العمل ظل عالقاً في أذهان المهنيين حتى عندما حاولوا الانعزال عن العمل (خلال الإجازات أو فترات المرض أو الطوارئ العائلية)؛ إذ إنهم شعروا بالخوف من التقصير أو تفويت الفرص أو أن ينظر إليهم على أنهم أقل التزاماً. قال أحد المشاركين، وهو شريك في شركة محاماة: "إذا لم أتحقق من أن الشركة لا تشهد أي حدث في غيابي خلال العطل، فسأشعر بالذعر ظناً مني أني أفوت حدثاً مهماً لم أعلم به. يلاحظ أولادي ذلك ويشعرون بالانزعاج". بالمثل، ذكرت مشاركة أخرى أنها تختبئ في الحمام للاتصال بعميل في يوم عيد الميلاد، في محاولة لخفض تأثير العمل في أسرتها.
لاحظنا في البحث أيضاً أنه كلما ازداد اندماج الموظفين مع إيقاع مؤسستهم، ابتعدوا أكثر عن إيقاعهم البيولوجي الخاص وإيقاع حياتهم مع عائلاتهم. على سبيل المثال، أبلغ العديد من المشاركين عن أنهم يمتنعون عن تناول بعض وجبات الطعام، وعن أنهم يعانون اضطرابات النوم ويتواصلون مع زملائهم في العمل خلال العطلات التي يقضونها مع عائلاتهم. يبين هذا الاستيعاب الداخلي العميق للإيقاعات المؤسسية أن الإفراط في العمل، حتى لو كان طوعياً، ليس علامة على التزام الموظف العالي بالضرورة، بل إنه قد يمثل علامة على أنه أصبح أسيراً لضغوط المؤسسة.
التحرر من دورة الانغماس القسري: ما الذي يستطيع القادة فعله؟
قد لا تكون دورة الانغماس القسري جلية ولكنها شديدة التأثير. لحسن الحظ، تستطيع المؤسسات تصميم مبادرات تطويرية لخفض شدة هذه التأثيرات، ولكن فقط إذا توصلت إلى فهم سليم للمشكلة التي تواجهها. يمكن البدء بالخطوات التالية:
معالجة الإيقاع، وليس فقط ساعات العمل.
تستطيع المؤسسات تحرير موظفيها من دورة الانغماس القسري من خلال تغيير طرق إنجاز العمل. قد يتطلب ذلك إعادة النظر في وتيرة إنجاز المشروعات والحد من الإلحاح المصطنع وإعادة تصميم جدول المواعيد على نحو يعزز تركيز الموظفين ويتيح لهم تأمل مهامهم. يتضمن ذلك إجراء تحول من الانشغال التفاعلي إلى التخطيط الاستباقي.
أحد الأمثلة على المبادرات التطويرية المنهجية هو اعتماد نظام أسبوع العمل الرباعي الأيام. إذا أجرت المؤسسات عملية إعادة الهيكلة هذه على نحو مدروس، فإنها ستتمكن من وضع حدود صارمة تجبر الفرق على منح الأولوية لإيقاع عملها وتبسيطه وإعادة ضبطه بدلاً من أن تضغط عبء العمل ضمن عدد أقل من أيام العمل فقط. بدلاً من الاعتماد على الموظفين لإدارة جداول مواعيدهم بطرق مختلفة، تحدث المؤسسات بأكملها تحولاً في إيقاع العمل يمنح الأولوية لتعزيز التوازن بين العمل والحياة. تبنى مصرف أتوم بانك، الذي مقره المملكة المتحدة، نظام أسبوع العمل الرباعي الأيام عام 2021 دون خفض أجور الموظفين. لم يقتصر التغيير على خفض ساعات العمل، بل شمل إعادة تصميم للاجتماعات ودورات المشروعات ومعايير التخطيط. بعد عامين، أفاد المصرف بأن هذا التحول أدى إلى انخفاض معدل التغيب وارتفاع المعنويات واستقرار الإنتاجية وازدياد الربحية.
تختص شركة بيس كامب للبرمجيات بتطوير أدوات إدارة المشروعات، وهي تمنح الأولوية للتواصل غير المتزامن وخفض عدد الاجتماعات قدر الإمكان بهدف معالجة مشكلة الضغط المرتبط بالإفراط في العمل؛ إذ إنها تشجع الموظفين على تخصيص ما يكفي من الوقت لكتابة رسائل البريد الإلكتروني بدلاً من الالتزام بالرد مباشرة على الرسائل في المحادثات أو المشاركة في المكالمات دون إخطار سابق. يتيح ذلك لأعضاء الفريق الالتزام بجداول مواعيدهم الخاصة والعمل دون الشعور بالخوف من تفويت حدث ما، ما يزيد تركيزهم ويعزز التزامهم الإيجابي.
أحد الأمثلة الأخرى على التغييرات المفيدة التي تحرر الموظفين من دورة الانغماس القسري هو سياسة "البريد في العطلات" الخاصة بالبريد الإلكتروني التي تتبعها شركة مرسيدس-بنز الألمانية لصناعة السيارات، التي تضمن استفادة موظفيها من إجازاتهم للحد الأقصى دون القلق بشأن التعامل مع صندوق الوارد المكتظ بالرسائل عند العودة للعمل. وفق هذه السياسة، تحذف الشركة رسائل البريد الإلكتروني المستلمة خلال العطلات تلقائياً وترسل رسالة إلى المرسل تفيد بضرورة التواصل مع الموظف بمجرد عودته إلى المكتب. يتيح ذلك للموظفين الانعزال عن إيقاع العمل في المكتب دون أن يقلقوا من أنهم يفوتون أي حدث. بالإضافة إلى ذلك، فإن القلق بشأن التعامل مع صندوق بريد وارد مكتظ بعد العودة إلى العمل جعل العديد من الموظفين المشاركين في دراستنا يتفقدون رسائل البريد الإلكتروني غير الضرورية خلال العطلات ويحذفونها. ذكر أحد الأشخاص الذين قابلناهم أنه شعر بالحاجة إلى حذف الرسائل حتى عندما كان واقفاً في طابور الانتظار للدخول إلى كنيسة ساغرادا فاميليا التاريخية في برشلونة. على الرغم من أن هذه السياسة اختيارية في مرسيدس بنز، فإنها تمثل مثالاً جيداً على الطرق التي تستطيع المؤسسات تطبيقها لإخراج الموظفين من دورة الانغماس القسري الضارة.
راقب علامات التحذير واستمر في إجراء التعديلات.
أحد الأسباب التي تجعل الانغماس القسري شديد التأثير هو أنه خفي. يبدو الموظفون الذين يندمجون بإفراط مع إيقاع العمل ملتزمين ومرتفعي الإنتاجية غالباً، لكنهم ربما يواجهون صعوبة في الانعزال عن العمل أو يعانون مشكلات في النوم أو يفقدون الإحساس بأن لهم غاية، أي أنهم يمارسون سلوكاً قهرياً يبدو في ظاهره تفانياً.
شركة التسويق التي مقرها الولايات المتحدة، بافر، هي مثال جيد على الشركات التي أجرت تغييرات منهجية لمعالجة الإفراط في العمل مع الاستمرار في مراقبة شعور موظفيها. تبنت الشركة عام 2020 نظام أسبوع العمل الرباعي الأيام وأجرت استقصاءات "فحص النشاط" الأسبوعية التي سألت الموظفين فيها عن سير عملهم ومشاعر الإرهاق ومدى التزامهم. تساعد هذه البيانات المدراء على تعديل أعباء العمل والوقاية من الاحتراق الوظيفي. بعد إجراء هذه التغييرات، أبلغ الموظفون عن أنهم يشعرون بأن إنتاجيتهم ازدادت، بينما ارتفعت الإنتاجية الموضوعية بين الموظفين المهندسين. مع ذلك، بعد أن أشار بعض الموظفين إلى أنهم واجهوا صعوبة في إكمال المهام خلال مواسم ضغط العمل بسبب انخفاض عدد أيام العمل، طورت بافر نظاماً أكثر مرونة يتيح للموظفين العمل في يوم خامس على إكمال المهام التي لم يتمكنوا من إكمالها. مع ذلك، فرضت الشركة على الموظفين خفض عدد ساعات العمل في أسابيع أخرى إذا عملوا في اليوم الخامس.
إحدى الطرق الأخرى التي تستطيع الشركات الكبيرة تطبيقها للحفاظ على رفاهة الموظفين هي الاستفادة من البيانات للكشف الاستباقي عن العلامات المبكرة للاندماج المفرط ومعالجتها، سواء بين الفرق أو في الأقسام المختلفة. على سبيل المثال، تستخدم شركة بيرينغ بوينت الاستشارية منصة تيل للصحة النفسية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، التي توفر لوحات التحكم والقياس المجهولة الهوية على أساس شهري من خلال أدوات مختلفة، مثل مدرب مدعوم بالذكاء الاصطناعي، علماً أن البيانات في هذه اللوحات مجمعة لحماية خصوصية الموظفين. تمكن هذه اللوحات المدراء من الحصول على رؤى استراتيجية لتوزيع عبء العمل وديناميات الفرق والمناخ التنظيمي العام الذي يبلغ عنه الموظفون. تتيح هذه اللوحات للمدراء أيضاً الكشف عن علامات الإجهاد والانفصال والاحتراق الوظيفي مبكراً، والاستجابة لها قبل أن تتفاقم.
على الرغم من أننا ركزنا في البحث على المؤسسات الخدمية، خاصة شركات المحاماة والمحاسبة و(أو) الاستشارات، فإن العديد من الديناميات التي لاحظناها، مثل الانغماس القسري المؤسسي وعواقب الاندماج المستمر، يظهر في أي مؤسسة ذات إيقاع عمل سريع وتعتمد على المشروعات. إذا أراد القادة أن تتمتع مؤسساتهم بأداء مستقر، فعليهم إلغاء الترابط بين السرعة والنجاح ومساعدة فرقهم على العمل بوتيرة طبيعية أكثر؛ يعني ذلك خلق إيقاع عمل جماعي جديد يستطيع الموظفون اتباعه بسهولة بدلاً من إجبارهم على اتباع إيقاع المؤسسة المجهد.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يشعر الموظفون بأن التوقف عن العمل مقبول ثقافياً. تغيير جدول المواعيد ليس كافياً؛ إذ يجب أن تغير الشركات التوقعات. يجب أن تصبح الممارسات مثل أخذ فترات للراحة والانعزال عن العمل خارج ساعاته وتجاهل رسائل البريد الإلكتروني في أيام العطلات أعرافاً تنظيمية، لا استثناءات فردية. بهذه الطريقة، يمكن زعزعة الاندماج العاطفي مع كثافة العمل، ما يتيح للموظفين اتباع إيقاعات شخصية صحية أكثر.