تترأس ثيودورا فريق اختيار البحوث والتطوير في شركة خدمات مهنية عالمية، واضطُرت مؤخراً إلى إدارة عملية اتخاذ الفريق لقرار تمويل عرض مُقَدم من مهندس واعد وأحد كبار رجال الأعمال في الشركة. ركز المشروع على كيفية تصميم الغرف في وحدات العناية الفائقة لتقليل اضطراب النوم وتيسير التعافي. بدأ غيرهارد من مجموعة البنية التحتية في ميونيخ النقاش قائلاً: "هذا المشروع غير اعتيادي أبداً، وهو ليس ما نقوم به بالفعل"، وقال فرانك، خبير هندسة المياه من الوحدة الاستشارية في إدنبرة: "ينبغي طلب التمويل من أجل عمل العميل، ولن يعود هذا على المؤسسة بمنافع تُذكر".
ولكن، احتجّت جولي من مكتب لندن، التي انصبّ تركيزها على تصميم المباني الحكومية قائلة: "إنه مطلب خارج عما نقوم به بعض الشيء، ولكن تم ذكر هذه الناحية في استراتيجية البحوث والتطوير الخاصة بنا في العام الماضي، كما أن مكتبي يشارك بشكل متزايد في أعمال وضع التصاميم للمستشفيات". لاحظ غيرهارد أن ميزانية البحوث والتطوير أُنفقَت تقريباً لهذا العام وأشار إلى أن المشروع كان "ثانوياً وليس لازماً"، لتساومه ثيودورا قائلة: "دعونا نمول المشروع بنسبة 30%، هل يناسبك هذا؟". أومأ أعضاء الفريق برؤوسهم معلنين موافقتهم ومضوا قدماً للتطرق إلى العرض التالي.
هذه القصة من نسج الخيال، ولكنها تستند إلى مراقبتنا للمدراء الذين يحاولون اتخاذ قرار حول ما إذا كان ينبغي تمويل مشاريع جديدة. انطلقنا لاستكشاف سبل اتخاذ المؤسسات لقرارات الاستثمار في مختلف الابتكارات، حيث تتوافر معلومات قليلة حول هذا الأمر، لأنه غالباً ما يتم اتخاذ هذه القرارات بسرية. لكن لدى دراسة شركة خدمات مهنية كبيرة تمتلك مكاتب في 37 بلداً، كنا قادرين على الوصول إلى جميع عروض مشاريع البحوث والتطوير المقدمة من قبل موظفيها، بما في ذلك معلومات حول المشاريع التي تلقت تمويلاً.
تجتمع في هذه الشركة – مثل العديد من المؤسسات الكبرى – لجنة مؤلفة من مختلف المدراء والمهندسين لبحث ما يعتقدون أنه جدير بالحصول على تمويل. درسنا 556 طلباً لمختلف المشاريع، وأجرينا مقابلات ومعاينات داخل الشركة. النتائج التي توصلنا إليها، والتي نُشرت مؤخراً في مجلة "أكاديمية الإدارة" (Academy of Management Journal)، هي أن المدراء لا يوازنون دوماً بين إيجابيات كل مشروع وسلبياته بدقة وأنه يمكن أن تتسلل حالات التحيز إلى عمليات صنع القرار.
المنطقة المنشودة للإبداع
لا تستند عملية انتقاء البحوث والتطوير دوماً إلى تقديرات موضوعية لتكاليف المشروع وعوائده. وجدنا أن قرارات التمويل في هذه المؤسسة تأثرت بمدى إبداع المشروع، وحصلت العروض التي اعتبرت إما مبدعة جداً أو غير مبدعة كفاية على تمويل قليل أو لم تحصل على أي تمويل. بعبارة أخرى، هناك منطقة منشودة للإبداع تزيد احتمال تمويل لجان البحوث والتطوير للمشاريع. (تم اكتشاف هذا في سياقات أخرى أيضاً، مثل الأوساط الأكاديمية).
لم يمول المشروع في حال كان بعيداً أكثر من اللازم عن أنشطة المؤسسة الرئيسة، أو في حال بدا عصياً من حيث تسويقه، وواجهت الفكرة المصير ذاته في حال اعتبارها تصاعدية للغاية، كإحدى الأفكار التي هدفت إلى تحسين العمليات القائمة. مع ذلك، أُدرجت المشاريع التي وجدت طريقة جديدة لتلبية طلب العملاء المتزايد بواسطة توسيع القدرات المتاحة ربما، ضمن المنطقة المنشودة للإبداع وحصلت على التمويل.
حالات التحيز التي تؤثر على أعضاء الفريق
لا يتم تقييم المشاريع ببساطة وفق الجدارة، كما وجدنا أيضاً أنه يمكن لثلاث خصائص تتحلى بها لجنة البحوث والتطوير التأثير على قرارات التمويل:
كمية العمل: عندما يتعين على فريق الاختيار تقييم العديد من العروض في اجتماع واحد، من غير المحتمل أن يُموّل مشاريع مبدعة تقع خارج نطاق المنطقة المنشودة، وهذا أمر ممكن بسبب حاجة تقييم الأفكار الجديدة إلى المزيد من الوقت والجهد. من الأمثلة على ذلك، تعيّن على إحدى اللجان التي درسناها تقييم أكثر من 60 عرضاً للمشاريع في اجتماع واحد، ولكن عندما تعين على أعضاء اللجنة تقييم 30 مشروعاً فحسب، مولوا ثلاثة أضعاف من المشاريع المبدعة للغاية.
التنوع: قِسنا تنوع الخبرات، أو ما إذا كان الأشخاص يتمتعون بالخبرة في مجالات متعددة. كلما تنوّعت اللجنة من حيث الخبرات، زاد احتمال تمويلها لمشروع مبدع جداً، إذ يزيد التنوع إمكانية رؤية أعضاء فريق الاختيار عدة أوجه لمشروع مقترح. على سبيل المثال، تضمنت إحدى اللجان التي درسناها أشخاصاً مسؤولين عن الاختيار يتمتعون بخلفيات متنوعة من قبيل الصوتيات والهندسة الإنشائية وتصميم المباني المستدامة وهندسة الحرائق. تمكنت هذه اللجنة من تقييم أهمية عروض بحوث وتطوير تتمتع بدرجة عالية من الإبداع شملت مجموعة واسعة من التخصصات الهندسية؛ وكانت أقدر على رؤية استخداماتها المحتملة لمجموعة كبيرة من العملاء بالقدر ذاته.
المنزلة: ينخفض استعداد اللجنة لقبول الإبداع عندما يتمتع مقدم المشروع بمنزلة أحد أعضاء اللجنة ذاتها، وثمة سببان على الأقل يمكننا توضيح الأمر من خلالهما. أولهما، تفادي الاتهام بالمحسوبية، حيث قد يُخضع أعضاء فريق الاختيار العروض التي يقدمها الأشخاص الذين يتمتعون بالمنزلة ذاتها للمزيد من التدقيق، ما يجعلهم يقللون من شأن مزايا الإبداع ويغالون في تقدير تكاليفها، وثانيهما، هو إحجام أعضاء اللجنة عن المشاريع عالية الإبداع في حال تم تقديمها من قبل أشخاص في منزلتهم، لأن المشاريع التي تتسم بالمزيد من الإبداع تتمتع بمخاطر أعلى للفشل وقد يُضر ذلك بسمعة أعضاء اللجنة.
تخطي حالات التحيز ضد الابتكار
تطرح النتائج التي توصلنا إليها تساؤلات حول الممارسات الحالية التي تستخدمها الشركات لاختيار مشاريع البحوث والتطوير وتمويلها. لا تعد العملية في الشركة التي درسناها فريدة من نوعها، حيث تستخدم العديد من المؤسسات عمليات منهجية لتقييم مشاريعها المبتكرة واتخاذ القرار إزاء الشركات التي سيتم تمويلها وتلك التي سيتم إيقاف تمويلها، ولكن قد تسهم هذه الممارسات في الحد من العديد من الأفكار الرائدة التي يتم تنفيذها في النهاية. يزخر التاريخ بأمثلة على المؤسسات التي استهدفت من قبل أفكار مبدعة ولكنها فشلت في الاستثمار فيها، فضلاً عن المؤسسات التي بالغت في الاستثمار في الأفكار بعد أن فشلت في تقييمها بشكل ملائم.
تتمثل أولى خطوات التخفيف من حدة حالات التحيز هذه في الانتباه لها، ولكن هناك أيضاً بعض الإجراءات التي يمكن للمدراء اتخاذها لإلغائها. من شأن التغلب على بعض حالات التحيز هذه ضد الابتكار أن يساعدهم على تحديد الأفكار التي يحتمل أن تغير قواعد اللعبة وتقييمها بشكل أفضل.
لتجنب حالات تحيز اللجنة نتيجة لكمية العمل التي تمنع المدراء من السعي وراء الإبداع، يمكن للشركات أن تحد عدد المشاريع التي يتعين على فريق الاختيار معاينتها في وقت واحد. يمكن أن تتضمن إحدى الاستراتيجيات مشاريع "توزيع الخانات"، أي تخصيص نوافذ للأشخاص لكي يقدموا العروض ومن ثم اجتماع فريق الاختيار عند امتلاء "الخانة"، بدلاً من القيام بذلك في تاريخ أو فترة محددة من السنة. بهذه الطريقة، يمكن إيلاء اهتمام إداري كافٍ لكل مشروع يجري تقييمه.
يمكن لإيجاد لجان تتمتع بخبرات أكثر تنوعاً مساعدة المؤسسات أيضاً على النظر إلى المشاريع من زوايا متعددة. وقد يساعد المزيد من التنوع المؤسسات على تقدير الأفكار الجديدة التي قد تتحول إلى ابتكارات مهمة. أظهرت البحوث أيضاً أن التنوع يساعد الفرق على ابتكار أفكار رائعة، وقد يمكّن التنوع الأشخاص أيضاً من اكتشاف الأفكار المبدعة وأخذ القرار بتمويلها.
لزيادة تنوع الخبرات، يمكن أن تُدرج الشركات خبراء خارجيين ضمن فرق اختيارها. على سبيل المثال، قبل عشرة أعوام تقريباً، شكّلت شركة "غلاكسو سميث كلاين" (GSK) وحدات أداء للعقاقير متعددة التخصصات لاكتشاف عقاقير جديدة وتطويرها للمراحل الأولى من التجارب السريرية. طورت كل وحدة خطة عمل مع إنجازات يتعين تحقيقها خلال فترة محددة، وقيّم فريق المراجعة، المؤلف من كبار مدراء البحوث والتطوير في الشركة فضلاً عن خبراء خارجيين يتمتعون بخبرات ذات صلة، بشكل دوري أداءهم. في عام 2012، تمكن الفريق من مساعدة "غلاكسو سميث كلاين" على زيادة التمويل لستّ وحدات وفت بالتزاماتها، وخفض التمويل لخمس وحدات لم تنجز أهدافها بعد، وإلغاء ثلاث وحدات فشلت في الوفاء بوعودها.
بطبيعة الحال، في حين يعد الإبداع مهماً لإيجاد الفرص الرائدة وتطويرها، يجب أن يسعى المدراء لموازنة محافظ البحوث والتطوير الخاصة بشركاتهم بحيث تتضمن مشاريع ذات مستويات عالية ومنخفضة من الإبداع. يعد تطبيق المشاريع الأقل إبداعاً أسهل عادة وأقل خطراً، كما أن تنفيذ هذه المشاريع يولد المزيد من الفوائد الفورية. في الوقت ذاته، لا تستثمر العديد من الشركات ما يكفي في المشاريع المبدعة لأن المدراء يرتكبون خطأ البقاء في بر الأمان، وعندئذ يصبح من المهم التفكير في كيفية تقييم المشاريع.
تُعد القرارات المتعلقة بمشاريع البحوث والتطوير مؤشرات لاستراتيجية المؤسسة ومستقبلها، ولجعل الابتكار جزءاً منها، يتعين على المدراء الانتباه إلى حالات التحيز هذه ومما يمكن اتخاذه لتفاديها.