يقطع المواطن الأميركي العادي ممن هم في عمر العمل وسطياً حوالي 25 ألف كيلومتر سنوياً في سيارته. وبالنسبة لهؤلاء الناس الذين يقومون برحلات مكوكية يومياً بين أمكنة عملهم وبيوتهم، تعتبر فكرة عدم امتلاك سيارة غريبة ومضحكة جداً في الوقت نفسه. وبما أنهم يقضون ساعات يومياً في الانتقال بسياراتهم، فمن غير المفاجئ أن نرى هذا الحجم من الهوس الموجود لديهم بخصوص نوع السيارة التي يريدونها، والطرق التي يريدون سلوكها للوصول إلى عملهم.
ولكن على الرغم من هذه الهيمنة التي نراها لثقافة قيادة السيارات اليوم، إلا أنّ قطاع النقل قد شهد توجهات جديدة ترسّخ حضورها بقوة وتزعزع التوجهات القديمة السائدة. فالابتكارات التي نراها في مجال التشارك في ركوب السيارة، أو التشارك في استعمال السيارة، أو التنقل لمسافات بعيدة، باتت تقرّبنا أكثر من أي وقت مضى من عالم يصبح فيه امتلاك السيارة خياراً وليس شرطاً إجبارياً.
وها هي الشركات التي تحاول دخول هذه السوق الضخمة تعثر وبسرعة فائقة على فئات متنوعة من الزبائن، كما أنها قادرة على الوصول إلى تمويل كبير. فشركات مثل أوبر، وغراب تاكسي (Grabtaxi) أصبحت تهيمن على السوق هذه الأيام. ولكن حتى مع ظهور شركات عالمية كبيرة، لا زال هناك الكثير من الفرص لمن يريدون زعزعة قطاع النقل بابتكارات جديدة للوصول إلى فئات محددة جديدة في السوق.
وبالنسبة لهؤلاء المستثمرين وروّاد الأعمال المحتملين وأي شخص مهتم بالوصول إلى المكان الذي يريده، فإنّ السؤال الأهم، أو سؤال المليار دولار كما يُقال، هو: "كيف سيكون شكل السوق بعد هدوء العاصفة؟"، فعلى الرغم من أنّ السوق هائلة الحجم وتنطوي على إمكانيات ضخمة، إلا أنّ بعض المنهجيات الرامية إلى إحداث ثورة فيها تعتبر أفضل من المنهجيات الأخرى. كما أنّ وضع فرضية بخصوص مستقبل قطاع النقل يُعتبر أمراً ينطوي على تحديات كبيرة. لكي يضع المرء أي تكهنات مستقبلية هنا، فإنّه بحاجة إلى أن يأخذ بالحسبان التغيّرات الحاصلة في مجالات عديدة مثل التشارك في البنية التحتية للنقل، وثورة مركبات النقل التي تسير من دون سائق، والتحول الدراماتيكي نحو السيارات الكهربائية أو الهجينة. فتأثير أي من هذه التوجهات يمثل تحولاً كاسحاً. كما أنّ التفكير في هذه العناصر الثلاثة في وقت متزامن يقودنا إلى تجربة فكرية لا نراها مجدداً لفترة طويلة من الزمن.
من السهل جداً التنبؤ بأنّ قطاع النقل في المستقبل سيكون مختلفاً عما هو عليه في الوقت الحاضر. ولكن السؤال المطروح هو كيف سيكون شكل هذا المستقبل؟ ولكي نفهم الموضوع فهماً أفضل، من المفيد أن نعقد مقارنة هنا بين قطاع النقل وصناعة أخرى وهي تكنولوجيا المعلومات، وتحديداً الحوسبة السحابية.
قبل 20 عاماً، لم يكن لدى الناس سوى فكرة ضبابية بخصوص الثورة التي سيحدثها الإنترنت في عالم تكنولوجيا المعلومات. فعندما طرح مارك بينيوف مفهوم "البرمجيات كخدمة" (ما يُعرف بالإنكليزية باسم Software as a Service أو (SaaS) خرج المشككون من كل أنحاء هذا القطاع ليسخروا من الفكرة. وقد كان ضرباً من الهرطقة أن يزعم أحد ما بأنّ الشركات الكبيرة، التي تمتلك حلولاً برمجية وعتاديات حاسوبية معقدة مصممة خصيصاً لها ولاحتياجاتها، ستنقل مواردها إلى مراكز البيانات التابعة لجهة أخرى. ففكرة "البرمجية كخدمة" قد تكون حلاً مناسباً للشركات الصغيرة التي لم تكن تملك ما يكفي من المال لإنشاء بنية تحتية إلكترونية خاصة بها – لكن لم يكن أحد يتوقّع أبداً أن تصبح فكرة جذابة للشركات التي لديها متطلبات أكثر تعقيداً.
لكننا نعلم جميعاً كيف تطورت الأمور لاحقاً. فاليوم ليست الحوسبة السحابية (cloud) هي النموذج المفضل لتقديم التطبيقات فحسب، بل إنّ هذا النوع من الحوسبة بات يشمل كل الجوانب المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات. كما أنّ البنية التحتية للحوسبة السحابية تؤمّن بنية تحتية مشتركة ومرنة للحوسبة وموارد تخزين البيانات. وشهدنا عقدين من الزمن تقريباً من الابتكار في البرمجيات والعتاديات الحاسوبية منذ أن طرحت فكرة "البرمجية كخدمة"، حيث عملت الشركات المعنية بتوفير خدمات الحوسبة السحابية بشكل دقيق ومحسوب لضمان إتاحة كل هذه الابتكارات إلى جميع زبائنها. وبعد أعوام من الأبحاث والتطوير، ليس هناك إلا عدداً قليلاً جداً فقط من حالات الاستعمال التي لا يمكن تقليدها بالاعتماد على مخدمات مستأجرة في مركز بيانات تابع لأمازون أو سيلزفورس أو مايكروسوفت مع قدر أكبر بكثير من المرونة وبأقل قدر من المشاكل.
وعلى ما يبدو، فإن قطاع النقل ينتهج المسار ذاته الذي اتبعته الحوسبة السحابية. فركوب سيارة مستأجرة للتنقل من نقطة معينة إلى نقطة أخرى بضغطة زر واحدة (كما هو الحال مع أوبر) يشبه كثيراً استئجار مساحة معينة على مخدم يستضيف المواقع (مثل خدمات المواقع من أمازون AWS). وفي يومنا هذا، لن يكون ضرباً من العبث أن يزعم الإنسان بأننا اقتربنا من اللحظة التي لن نحتاج فيها إلى امتلاك سيارة. فبعد عقدين من الزمن، ستكون الحاجة إلى اقتناء السيارة أقل ضرورة بكثير.
وثمة عوامل عديدة تؤثر على ذلك. أولاً، هناك تزايد مستمر في توجه الناس في العالم نحو المدن. فقبل 50 عاماً، كان 3 من كل 10 أشخاص يعيشون في المدن المنتشرة في أرجاء المعمورة. أما اليوم فقد ارتفع الرقم إلى أكثر من 5، وهو في تزايد سريع. وبالتالي، فإنّ تنامي أعداد الناس الذين يعيشون في مناطق ذات كثافة سكانية أعلى يعني بأنّ تكلفة ركن أو صف السيارات سترتفع بشكل أكبر، ما سيثني الناس عن اقتناء السيارات. وفي الوقت ذاته، فإنّ تزايد أعداد الناس الذين يعيشون بالقرب من أماكن عملهم يعني أنه سيكون من الأسهل التنقل يومياً بين البيت والمكتب باستعمال وسائل النقل العامة.
ثانياً، نحن نقترب أكثر من أي وقت مضى من وضع بات فيه استئجار سيارة للتنقل بين مكانين معينتين أمراً سهلاً للغاية يجري من دون أي عناء يذكر. فوجود خدمات الإنترنت على الهاتف المحمول يجعل الوصول إلى الموارد عند الطلب رخيصاً وسهلاً. كما أنّ يد آدم سميث الخفية تحصل على شيء من العون من أيه تي آند تي (AT&T)، والأقمار الصناعية المتخصصة بتحديد الموقع باستعمال تقنية جي بي إس (GPS)، والعدد الهائل من مطوري التطبيقات. كما أنّ هذه السهولة في الوصول إلى النقل ستزداد بالتأكيد عندما يصبح لدينا أسطول من المركبات المستقلة التي تجوب الشوارع. ومع تحسن التكنولوجيا، فإنّ المكاسب النسبية لاقتناء السيارة سوف تتلاشى.
صحيح أنّ نسبة ضئيلة جداً من السكان بوسعها فعلياً أن ترى هذه الخدمات المبتكرة والمزعزعة في مجال النقل بوصفها بدائل حقيقية لملكية السيارة في أسواق اليوم. لكن الأمر الحتمي هو أنّ هذه الابتكارات ستتمكن من زيادة جاذبية هذا الخيار في أعين مجموعة كبيرة ومتنامية من السكان مع مرور الوقت. وتعطينا أوبر لمحات خاطفة عن الشكل الذي سنصل إليه مستقبلاً من خلال إضافة سيارات من كل الأنواع: فهناك سيارات تتضمن مقاعد للأطفال الصغار، وسيارات يمكن لمستخدمي الكراسي المتحركة من ذوي الاحتياجات الخاصة استعمالها بسهولة، وسيارات عائلية الحجم للمجموعات الأكبر من الناس. فبالنسبة للآباء والأمهات الذين رزقوا بمولود حديثاً، والذين لم يكونوا قادرين على استعمال هذه الخدمة من قبل، فإنّ أوبر باتت أخيراً خياراً متاحاً لهم، وبالنسبة للناس الذين يحتاجون إلى مقعد للأطفال، أو يحتاجون أحياناً إلى سيارة بحجم عائلي، أو يرغبون بين الفينة والأخرى في ركوب سيارة مكشوفة، فإنّ أوبر باتت واحداً من الخيارات الأفضل.
وكما هو الحال في كل الموجات المزعزعة (waves of disruption)، والتي تحدث ثورة في أي قطاع تصل إليه، فإنّ مقدمي خدمات النقل عبر الحوسبة السحابية لديهم كل الحوافز المالية لكي يبتكروا الأساليب التي تسمح لهم بخدمة الزبائن الأكثر تطلباً مع مرور الوقت. لكن الطريق لن تكون خالية من العقبات. ونحن نرى بعضاً من هذه العقبات يتمثل في معاناة مقدمي هذا النوع من الخدمات مع الجهات الناظمة بخصوص الطبيعة الوظيفية للسائقين. لكن المزايا التي توفرها خدمات النقل عبر الحوسبة السحابية أكبر من أن نتجاهلها. وعلى الرغم من العقبات والعوائق، فإنّ المستهلكين سيواصلون البحث عن خدمات نقل تناسب طلبهم. ومع مرور الوقت، ستوفّر خدمات النقل عبر الحوسبة السحابية حلولاً ستساعد المزيد من الناس على تخفيف اعتمادهم على ملكية السيارة إلى الحد الأدنى – فهم إما سيتخلون تماماً عن سياراتهم أو سينتقلون إلى الاعتماد على سيارة واحدة في كل أسرة عوضاً عن سيارتين.
عندما اندلعت حروب الحوسبة السحابية كان التركيز على المشترين في سوق الشركات الصغيرة، والذين لم يكن بحوزتهم ما يكفي من المال لدفع ثمن الحلول التكنولوجية الباهظة. أما خدمات النقل عبر الحوسبة السحابية فقد بدأت بالتركيز على سكان المدن الذين كانوا يمتلكون السيارة كنوع من الرفاهية الشخصية فقط. ومع مرور الوقت، أضافت الحوسبة السحابية المزايا والوظائف الجديدة التي سمحت لها بأن تنافس في أكثر البيئات تعقيداً. ولا شك بأنّ أصحاب الابتكارات في قطاع النقل سينتهجون المسار ذاته.