يظهر مشهد الرعاية الصحية مدى اهتمام حكومات دول مجلس التعاون الخليجي بتعزيز البنية التحتية لهذا القطاع بشكل متزايد خلال العقدين الماضيين. وتنتشر المدن الطبية والمجمعات الصحية الفاخرة على نحو واسع النطاق عبر المنطقة، ما يؤدي إلى الارتقاء بجودة الخدمات الطبية، وتحويل منطقة الخليج إلى مركز طبي.
ومن المؤكد أن تأسيس بنية تحتية طبية من المستوى الأول على الصعيد العالمي سيؤدي إلى استشراف مستقبل طموح لقطاع الرعاية الصحية، رغم مجموعة التحديات المحتملة، بما في ذلك زيادة عدد السكان والكثافة السكانية العالية، وتزايد متوسط العمر المتوقع، وتعاظم نسبة السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً، وتغيير نمط الحياة، وغيرها من التحديات غير المتوقعة في هذا الإطار. فإن الاتجاهات المستقبلية تبدو واعدة على مستوى خدمات الرعاية الصحية الرقمية، وتمكين المرضى من المساهمة الحيوية في تسيير عمليات الرعاية الصحية عبر كل مرحلة من مراحل العلاج. ومن المؤكد أن التطورات التقنية ستسهم على المدى الطويل في تعزيز الوقاية والتشخيص والعلاج وإعادة التأهيل والرعاية.
أنظمة التحول
تعد التحولات المتغيرة على مستوى التركيبة السكانية وانتشار الأوبئة على الصعيد العالمي من العوامل الرئيسية التي تسهم في زيادة الطلب على خدمات الرعاية الصحية في دول مجلس التعاون الخليجي. ومن المؤكد أن برامج التحول التي نشهدها عبر الاقتصادات الكبرى في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ستساهم في إحداث تغيير جوهري في قطاع الرعاية الصحية. الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تطوير جذري في قيادة وتطوير وتوسيع هذا القطاع الحيوي، وبالتالي توفير مجموعة هائلة من إمكانات وفرص التحول.
التحول في تقديم الخدمات
تؤدي مجموعة من العوامل ومن ضمنها، الارتفاع المذهل في عدد السكان ونسب الشيخوخة، والازدياد الملحوظ في معدل انتشار الأمراض المزمنة وغير السارية، وتزايد تكاليف العلاج والاعتماد بشكل أكبر على خدمات التأمين الصحي، إلى ارتفاع نفقات الرعاية الصحية على نحو غير مسبوق. ما سيؤدي بالتالي إلى ضرورة التفكير في تحديد الأطر الاستراتيجية الأساسية، لضمان مواجهة هذه التحديات على النحو الأمثل في مجالات الرعاية الصحية الشخصية، وتطوير "الملف الرقمي" للمرضى. وتساهم العديد من التقنيات المبتكرة في تطوير ممارسات الطب التقليدية، وتمكين الانتقال نحو نهج الطب المخصص، وتوفير المزيد من العلاجات المخصصة، بما في ذلك الطب الموجه والجيني، وتكنولوجيا الروبوتات، وهندسة الإلكترونيات الحيوية وهندسة الأنسجة والطباعة ثلاثية الأبعاد. وعموماً، من المتوقع أن توفر هذه الموجة الابتكارية خدمات أكثر تخصيصاً وخيارات علاجية مقترنة بشكل خاص بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والبيانات الضخمة. وتبشر جميع هذه العوامل ببداية عصر الصحة الرقمية المرتكزة على المستهلك، والتي ظهرت بوادرها على امتداد السنوات العشر الماضية.
وبناء على ذلك، أجرينا في بوسطن كونسلتنغ غروب مجموعة من الأبحاث في 25 مدينة لتحديد الاتجاهات التي تشكل مستقبل الرعاية الصحية، والتي تمثلت في خمسة اتجاهات رئيسية، ترتكز بالدرجة الأولى على مسارات التحول الرقمي والتكنولوجي كقوى أساسية تساهم في تشكيل منظومة الرعاية الصحية:
تمكين المريض: من المتوقع أن يساهم المرضى على نحو حيوي في إدارة عمليات الرعاية الصحة، والاستفادة من مجموعة من الميزات التي تشمل إمكانية الوصول إلى سجلاتهم الصحية ونتائج تحاليلهم الشخصية ومجموعة الاختبارات المنزلية وأجهزة المراقبة الإلكترونية الشخصية وغيرها من الميزات والإمكانات التي تدعم تحسين أوضاعهم الصحية، وتمكينهم من المشاركة في اتخاذ القرارات ذات الصلة بأوضاعهم الصحية على نحو واع ومسؤول.
الوقاية: ستستفيد أنظمة الرعاية الصحية من فرص التشخيص التنبؤي للأمراض المدعومة بتقنيات متقدمة، مثل القدرة على تحديد المخاطر باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، واستكشاف احتمالية انتشار الأوبئة عبر المناطق والمدن المختلفة، وتحليل بيانات الفحوصات الصحية المستهدفة. ما سيشكل بالتالي مستقبل الأنظمة الوقائية التنبؤية.
العلاجات المخصصة: ستتيح التقنيات الجديدة (مثل هندسة الأنسجة والطابعات ثلاثية الأبعاد) القدرة على توفير أنظمة علاج شخصية وأكثر دقة، وضمان تركيب الأدوية المصممة حسب الطلب. وستقوم الأنظمة الصحية المختصة في هذا الإطار، بتطوير "الملف الرقمي" للمريض، والاستفادة منها في توفير العلاجات المخصصة للأفراد الذين يمتلكون ملفات تعريف مماثلة.
نماذج الخدمات المتكاملة: يشهد قطاع الرعاية الصحية تحولات جذرية على نحو مستمر، بدءاً من خدمات رعاية المرضى المقيمين وصولاً إلى توفير خدمات الرعاية الصحية لمرضى العيادات الخارجية، وذلك بالتزامن مع إطلاق أنظمة بديلة مناسبة للمرضى، وتطوير شبكات خدمات صحية افتراضية مبسطة، وصولاً إلى أنظمة خدمات الرعاية الصحية المنزلية وخدمات الرعاية الطبية في مراكز التسوق، فضلاً عن مجموعة من أنظمة الرعاية الأخرى.
خدمات الرعاية الصحية في عصر الثورة الرقمية: ستؤدي خدمات التشخيص الرقمية إلى تعزيز أطر التعاون بين العاملين في القطاع الصحي، مع الاعتماد بشكل أكثر تزايداً على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وستوفر عمليات التشخيص المتطورة باعتماد تقنيات الصور الرقمية والواقع الافتراضي والتوائم الرقمية والجراحة الروتينية خدمات رعاية صحية ذات قيمة أكبر، مع الارتقاء بمستويات دقة النتائج الصحية. ومن المؤكد أن تتطلب ممارسات الرعاية الصحية في عصر الثورة الرقمية، ضرورة تطوير المهارات الرقمية والمعرفية والسلوكية للعاملين في مجال الرعاية الصحية.
والجدير بالذكر، أن التطورات التقنية الصحية السريعة في دول مجلس التعاون الخليجي، ترتكز بالدرجة الأولى على قدرات المرونة والتكيف التي أظهرتها أنظمة الرعاية الطبية في المنطقة خلال انتشار جائحة كورونا، والتي تمثلت في طرح الحلول التقنية على نحو سريع فاق التوقعات. من ناحية أخرى، شهدت خدمات الرعاية الصحية تحولات جذرية على نحو متكامل، مع التركيز على تطوير وسائل الوقاية بدلاً من توفير العلاجات عبر تبني حلول الرعاية الصحية الرقمية التي تعتمد بشكل أكبر على البيانات وتطوير قدرات الأداء والمهارات على مستوى العمليات والنفقات وخدمات الرعاية الطبية. واستشرافاً للمستقبل، توفر هذه الحلول مجموعة لا حصر لها من الإمكانات والفرص لصانعي القرار في هذا القطاع من خلال تطوير منظومة متكاملة من الشراكات المترابطة بين القطاعين العام والخاص وشركات الرعاية الصحية الرقمية الناشئة وبالتالي تعزيز مسار النمو عبر سلسلة الخدمات في القطاع الصحي بشكل عام.