الرجاء تفعيل الجافاسكربت في متصفحك ليعمل الموقع بشكل صحيح.

لماذا نحتاج إلى مستشار فلسفي في المؤسسات؟

3 دقيقة
مستشار فلسفي
shutterstock.com/patrimonio designs ltd

إذا نظرنا إلى جذور الفلسفة نجد أن أصل الكلمة يوناني وتعني "حب الحكمة". كما أنها تهدف إلى تحليل الأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسان وتفسير الظواهر بطريقة عقلانية ومنهجية. وفي صلب الفلسفة نجد كلمات ومفاهيم رئيسة يقوم عليها التفكير الفلسفي، مثل الحكمة والدهشة والتفكير النقدي والاستنتاج.

لا حاجة إلى مقدمة لتوضيح التعقيد الكبير الذي يشوب نماذج أعمال المؤسسات، وخصوصاً تلك الكبيرة منها والعابرة للأسواق والقطاعات. الأمر الذي يضع التفكير الفلسفي بين الأدوات المرشحة للتعامل مع مسائل مثل المسؤولية الاجتماعية، والقرارات المتعلقة بالاستدامة، والموازنة بين الربحية والقيم الأخلاقية.

تتطلب البداية الصحيحة الاعتراف بأن الفلسفة لا توفر إجابات جاهزة عن تلك التحديات، بل إنها تضع الأساس للتفكير النقدي والمنظورات المتعددة لمواجهتها. ومن خلال تطبيق الفلسفة، تستطيع الشركات تعزيز قدرتها على التعامل مع المعضلات، وفهم القضايا والقرارات في سياقها الأعمق، والتوافق مع قيم المؤسسة ومصالحها العامة. في كتابه "المستشار الفيلسوف: ثورة الأفكار في إدارة المؤسسات" (The Philosophic Consultant: Revolutionizing Organizations with Ideas)، يشير المؤلف بيتر كوستا إلى أن الفلسفة يمكن أن تعمل كأداة استشارية عملية تعيد التفكير في المشكلات المعقدة من خلال طرح الأسئلة الصحيحة بدلاً من تقديم الإجابات السريعة.

ولكن الاستشارة الفلسفية تختلف عن غيرها من الاستشارات النفسية والقانونية والإدارية في تركيزها على القضايا الفكرية والأخلاقية، والمستشار الفلسفي الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور يمكن أن يعمل وسيطاً فكرياً يساعد المؤسسات، ولا بد أن يتمتع بمهارات متعددة لتأدية دوره بفاعلية؛ مثل التفكير النقدي الذي يُعتبر من أهم المهارات للتعامل مع المشكلات المعقدة والقرارات المصيرية، كما يحتاج إلى قدرات التحليل العميق والتفكير الإبداعي لاستكشاف مناهج جديدة للتعامل مع التحديات، بالإضافة إلى مهارات التواصل والإقناع التي تعد أساسية لتعزيز الحوار والفهم بين الأفراد والمؤسسات. هذا كله يجب أن يتوّج بمعرفة واسعة في الفلسفة الأخلاقية والنظرية، مع قدرة على مواكبة التطورات العصرية والموضوعات الحديثة والمستجدة.

وإذا أردنا أن نخطو خطوة إضافية في هذا المجال، فيمكنني أن أتصور المهام الرئيسية التي يجب على المستشار الفلسفي القيام بها داخل المؤسسة على النحو الآتي:

  • تحليل القضايا الفكرية والمعقدة: يساعد المستشار الفلسفي على تحليل القضايا التي تواجه المؤسسة من منظور فلسفي شامل، ما يمكّن من تقديم حلول مبتكرة ومتكاملة، مثل تحليل تأثير الذكاء الاصطناعي على سياسات التوظيف في المؤسسة.
  • تقييم القرارات الأخلاقية: يمكن أن يسهم المستشار الفلسفي في وضع معايير وأطر عمل للقرارات المؤسسية، بما يضمن توافقها مع القيم الأخلاقية والاستراتيجية للمؤسسة، مثل تقديم المشورة حول سياسة المؤسسة في التعامل مع القضايا البيئية.
  • تعزيز التفكير النقدي والإبداعي: من خلال العمل على تطوير قدرات التفكير النقدي لدى الموظفين والإدارة العليا، ما يعزز قدرتهم على التعامل مع التحديات بطرق فعالة، يمكن أن يحدث ذلك بعدة طرق، مثل تصميم ورش عمل لتحفيز التفكير الإبداعي لحل مشكلات السوق.
  • حل النزاعات: هناك فرصة للمستشار لاستخدام الحوار الفلسفي أداةً لحل النزاعات الداخلية والخارجية، ما يسهم في تعزيز التعاون والتفاهم، على سبيل المثال، يمكنه التوسط بين أقسام الشركة المختلفة لحل خلافات مرتبطة بتوزيع الموارد وتحديد الأولويات. ويدرك المنخرطون في العمل المؤسسي الفجوة الموجودة في إدارة النزاعات الداخلية بين الأفراد ووحدات العمل، وكيف تديرها عشوائياً الموارد البشرية تارة، والشؤون القانونية تارة أخرى، وقيادة المؤسسة في أحيان أخرى.
  • تطوير الثقافة المؤسسية: هناك دور مهم يمكن أن يؤديه المستشار الفلسفي في بناء ثقافة مؤسسية مبنية على المبادئ الأخلاقية والفكر النقدي، ما يعزز مرونة المؤسسة وقدرتها على التكيف مع التغيرات، مثل تقديم الدعم اللازم لبناء ثقافة الشفافية داخل المؤسسة.
  • التواصل الفعال: بأن يسهم في تحسين قنوات التواصل داخل المؤسسة ومع الأطراف الخارجية من خلال تعزيز فهم أعمق للقضايا المتداولة. يمكن أن يكون ذلك من خلال تقديم توصيات لتحسين تواصل الإدارة مع الموظفين خلال فترات التغيير. وهذا لا يتعارض -كما يظهر للوهلة الأولى- مع عمل أقسام الاتصال المؤسسي أو التواصل الداخلي، فمهام المستشار الفلسفي ليست تشغيلية، بل تقديم الأفكار لاستخدام المنهجيات والأدوات المناسبة المتوافقة فكرياً ونفسياً مع التحديات التي تمر بها المؤسسة.

إن طرح وجود مستشار فلسفي في الشركات ليس فكرة نظرية أو تصوّراً مستقبلياً، فبعض المؤسسات بدأت بالفعل بالتحرك في هذا الاتجاه. يعمل الأستاذ لو مارينوف من كلية مدينة نيويورك، مع منظمات مثل المنتدى الاقتصادي العالمي في جنيف ودافوس، حيث يركز على طرح الأسئلة التي تساعد العملاء على استكشاف وجهات نظر جديدة ورؤى أعمق للممارسات الصحيحة والعادلة. كما يعمل الأستاذ والفيلسوف المقيم في كلية كاس لإدارة الأعمال، روجر ستير، مع شركات مثل نيشنوايد (Nationwide)، لمساعدة القادة على التفكير في القيم والمبادئ الأساسية التي توجه قراراتهم. كذلك اقترح باحثون آخرون مثل الأستاذين في كلية أودينسيا لإدارة الأعمال، كارين جيرارد وكريستيان فوغتلين، في أحد مقالاتهما مسمياً لهذا المنصب وهو "مدير تنفيذي للفلسفة" (Chief Philosophy Officer) أو اختصاراً (CPO).

ولكن على الرغم من الأهمية الكبيرة لدور المستشار الفلسفي، فثمة العديد من التحديات التي قد تواجهه في أثناء أداء عمله، فيمكن أن يجد صعوبة في إقناع الإدارة والموظفين بأهمية التفكير الفلسفي في حل المشكلات، خاصة إذا كانت الثقافة المؤسسية سريعة وتفتقر إلى تقبّل النهج الفلسفي. كما أن طبيعة عمله تتطلب مواجهة قضايا حساسة ومعقدة قد تسبب انقساماً داخل المؤسسة، وأيضاً تحويل الأفكار الفلسفية إلى إجراءات عملية قد يشكل تحدياً في أثناء تكييفها بما يناسب الواقع ومتطلبات العمل، هذا بالإضافة إلى احتمال تداخل الأدوار الوظيفية مع ما اعتاد القانونيون والإداريون والنفسيون القيام به لسد هذه الفجوة المهنية.

ربما هذا هو الوقت المناسب لكي تبدأ المؤسسات في منطقتنا العربية بالنظر في كيفية استثمار الفلسفة كأداة تسهم في تحسين العمل وتطوير الأداء، وتعميق فهم القيم، وتوجيه عمليات صنع القرار نحو أهداف أكثر شمولية وإنسانية. وأنا على قناعة بوجود مبررات جدية لدمج تطبيقات الفلسفة في العمليات اليومية، ليس فقط لتكون وسيلة لحل المشكلات، بل أيضاً لتكون منهجية لتعزيز ثقافة التفكير النقدي والإبداعي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي