اتسمت إجراءات الرئيس ترامب بالسرعة تجاه تنفيذ الوعود التي أطلقها في إطار حملته الانتخابية. فقد تحدث ترامب في تلك الحملة عن أهمية خلق وظائف جديدة، وإدخال إصلاحات على قانون الضرائب للشركات، وتعزيز الأمن الوطني. وتُعتبر هذه المسائل كلها مخاوف شرعية للشعب الأميركي، وتستحق أن تكون محور نقاش جدي حول السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة. يمتلك ترامب أحقية كاملة في الوفاء بتلك الوعود بما أنه على رأس منصبه الآن. ولكن أحد الوعود الأخرى التي أطلقها كان وعده بتعزيز الاقتصاد الأميركي، إلا أن الأوامر التنفيذية التي وقّعها خلال أول أسبوعين من توليه منصبه (والطريقة التي صدرت بها هذه الأوامر) تعمل على تقويض ذلك الهدف.
لقد استثمرتُ في شركة تكنولوجية أوروبية كان من المقرر أن تأتي إلى مدينة سان فرانسيسكو التي أعيش فيها لكي تعلن إطلاق منتجها الأول الذي يستهدف سوق الولايات المتحدة. منطقة خليج سان فرانسيسكو هي مركز إبداعي في قطاع البرمجيات. ويعتبر قدوم هذه الشركة التكنولوجية لممارسة أعمالها هنا حلماً للكثير من مؤسسي الأعمال التكنولوجية. كان جميع أعضاء الفريق الأوروبي يحملون الجنسية الألمانية عدا إحدى الموظفات، وهي طالبة جامعية ألمانية تحمل الجنسية السورية إلى جانب جنسيتها الألمانية. وقد جرى إبلاغها في اللحظات الأخيرة بمنع دخولها إلى الولايات المتحدة على خلفية الأمر التنفيذي الصادر عن إدارة ترامب بخصوص الهجرة. اعتراني الخوف في اللحظة التي سمعتُ فيها بذلك. ليس من أجلها فقط، بل لأجل الأشخاص الموهوبين جميعاً الذين يريدون إنشاء مشاريع تجارية وقيادة الابتكار في الولايات المتحدة.
وبعدها بيوم كنت في نقاش حول الاختلافات بين بائعي البرمجيات مع أحد كبار المشترين لتكنولوجيا المعلومات. إذ تتحفظ الشركات والدول على الاعتماد على الشركات التكنولوجية العاملة في الولايات المتحدة نظراً للمخاطر المحدقة المتمثلة في التحايل الذي يعرّض أصحابه لعقوبات حكومية في عالم ما بعد سنودن (إدوارد سنودن هو أميركي ومتعاقد تقني وعميل موظف لدى وكالة المخابرات المركزية، عمل متعاقداً مع وكالة الأمن القومي قبل أن يسرب تفاصيل برنامج التجسس "بريزم" إلى الصحافة). وبعد التغير غير المتوقع في موازين القوى في "مجلس الأمن القومي" الأميركي، بانضمام خبير الاستراتيجيات السياسية ستيف بانون وخروج رئيس الموظفين ومدير الاستخبارات الوطنية، اقترح مشترو تكنولوجيا المعلومات أنه قد يكون من التعقل التخلي عن أفضل بائعي البرمجيات المقيمين في الولايات المتحدة، والعمل مع المنافسين الأجانب الذين لا تنطبق عليهم الأوامر التنفيذية الصادرة هناك. إذ أصبحت استضافة بيانات الأعمال المهمة والملكية الفكرية للشركة في مراكز بيانات موجودة في الولايات المتحدة مصدر قلق حقيقي ومفاجئ عندما أصبح هناك احتمال أن يطالها إجراء تنفيذي مبهم يهدد خصوصيتها في أي لحظة. للمرة الأولى، كنت أرى في الولايات المتحدة النوع نفسه من التخوف تجاه خسارة الملكية الفكرية أو البيانات المالية الحساسة التي لاحظتها عندما فكرَت الشركات التي عملت معها بالعمل مع مؤسسات صينية.
ويشير المثالان إلى الأساس غير المستقر الذي يجب على قادة الأعمال أن يتطلعوا إليه على مدار سنوات حكم ترامب المقبلة، إلا إذا بدأت الإدارة الأميركية بالتعامل مع الدولة والاقتصاد بقدر أكبر من الرعاية والاهتمام.
ومن الظاهر حتى لحظة كتابة هذا المقال أن الإدارة الأميركية قد تجاهلت تأثيرات الأمر التنفيذي الثاني على إجراءاتها. يُعتبر سن قوانين لحماية حدودنا مثلاً أمراً معقولاً، لكن الأمر الذي أصدرته إدارة ترامب يهدد رفاهة السكان الأميركيين القانونيين، والطلاب الموهوبين من شتى أنحاء المعمورة، وحتى الأشخاص المسافرين إلى الولايات المتحدة لأغراض تجارية. وهذا ما يُصعِّب على الشركات الأميركية توظيف أشخاص تحتاجهم للمضي قدماً في مساعي الابتكار الأميركية. كيف يمكن للشركات إقناع الناس بالسعي لتحقيق الحلم الأميركي في الولايات المتحدة عندما يكون ذلك الحلم مهدداً بالإلغاء في أي لحظة؟ سيلجأ الأشخاص الموهوبون الآن إلى مراكز تكنولوجية أخرى للبحث عن فرص تناسبهم هناك. فكيف يمكن لشركائنا أن يكونوا واثقين بالعمل معنا عندما تكون القوانين عرضة للتغير في يوم ما؟
لقد كانت المواهب هي الميزة التنافسية للولايات المتحدة على مدار سنوات طويلة، فاستقطبت الولايات المتحدة أفضل المواهب في المجالات العلمية والتكنولوجية من مختلف أنحاء العالم، أشخاص يجمعون بين المهارات والرؤية من فنانين ومهندسين معماريين ومهندسين وطواقم بناء، قادرون على الحلم بعالم جميل والعمل لتحويله إلى واقع. ولكن عندما يقلق الموظفون أصحاب المهارات العالية بشأن قدرتهم على بناء حياة وكسب لقمة العيش وتجنب المضايقات على أساس ديني أو عرقي، يصبح من الصعب جداً على الشركات الأميركية توظيف علماء بيانات مؤهلين على نحو فريد، ومهندسين ميكانيكيين، ومحترفي برمجيات، وما شابه.
إن الحظر على الهجرة ليس القرار الوحيد الذي من شأنه أن يضر بالاقتصاد واتخذته إدارة ترامب مبكراً، فالتغير السريع وغير المتوقع في تركيبة وكالة الأمن القومي تؤثر أيضاً على قدرة الأعمال التجارية الأميركية على الاستمرار في تقوية اقتصاد الابتكار. فالمستثمرون والعملاء لم يثقوا بالشركات الأميركية بسبب قدرتنا على تقديم منتجات تنافسية فحسب، بل لأن بلادنا كانت مستقرة ومتوقعة إلى حد كبير. لقد كانت أميركا خياراً آمناً.
من غير الواضح فيما إذا كانت الإدارة الأميركية تدرك كيف أن التغيرات المفاجئة في الكادر الوظيفي لـ "وكالة الأمن القومي" و"وزارة الخارجية" والسلطة القضائية وغيرها من المؤسسات التي لا تملك أنشطة تجارية صريحة، تعتبر مهددة للشركات التي تقوم بأعمال تجارية في الولايات المتحدة. وهذا صحيح بشكل خاص للشركات التي تعتمد على البيانات، والتي يستعصي حمايتها وتعتبر شريان الحياة لاقتصاد الابتكار. وتعتمد الشركات حول العالم على الصناعات الأميركية للتعامل مع البيانات ببراعة وأمان، بما في ذلك إدارة تخزين البيانات، وتقديم تحليلات تنبؤية، وغيرها. وتعتبر الثقة ضرورة في جميع الحالات التي تدخل فيها البيانات. ومن شأن التقلبات الحادة في السياسات أن تقوض الثقة حتماً في الولايات المتحدة.
في السنوات الماضية، احتشدت الشركات من جميع أنحاء العالم لبناء مراكز ابتكار في مواقع مختلفة في الولايات المتحدة، مثل وادي السيليكون ونيويورك، وإذا أردنا الحفاظ على مكانتنا في صدارة اقتصاد الابتكار، فإن علينا العمل بشكل مدروس أكثر عند تصميم السياسات.