لماذا يشتكي ما بين 25 و50% من الموظفين من شعورهم بالإرهاق أو الاحتراق الوظيفي في العمل؟ يبدو أن المشكلة لا تتعلق بعدد الساعات التي نقضيها في العمل فحسب، بل بحقيقة أننا نعمل على مهمات متعددة لا على مهمة واحدة أيضاً. وفوق ذلك لا نحسن أخذ فترات للراحة وتحديد أهداف واضحة للمهمات ووضع الحدود بين عملنا وحياتنا الشخصية. وقد أدت التكنولوجيا إلى طمس هذه الحدود إلى درجة لم يعد بالإمكان ملاحظتها! فأصبح عملنا يتبعنا في كل مكان على أجهزتنا الرقمية، ويلّح علينا ويقاطعنا باستمرار، وبات مثل الحكة المزعجة، تصيبنا ولكن لا يمكننا مقاومة إغراء خدشها على الرغم من أنها تزيد الأمر سوءاً دائماً!
لقد بات الأمر خليطاً من الجدية والجنون معاً أو خليطاً من الرتابة والفوضى معاً! فمن منا لا يردّ على رسائل البريد الإلكتروني في أثناء مكالمات المؤتمرات عبر الفيديو بل في أثناء إجراء مكالمة مع شخص آخر؟ ومن منا لا يجلب حاسوبه الشخصي (كمبيوتره) إلى الاجتماعات ثم يتظاهر بأنه يدوِّن الملاحظات في حين هو في الواقع يتصفح الإنترنت؟ ومن منا لا يتناول الغداء على مكتب عمله؟ ومن منا لا يجري مكالمات بل لا يرسل رسائل نصية أحياناً في أثناء قيادة السيارة على الرغم من أن ذلك غير آمن؟!
إن التأثير الأكبر لتعدد المهمات -إذا افترضنا أنك لم ترتكب حادثاً- يتمثل في انخفاض إنتاجيتك! وذلك بطريقتين؛ الأولى بتشتيت تركيزك في مهمات مختلفة، بحيث تنخرط جزئياً في كل منها ولكن نادراً ما تركز كلياً على أي منها. والثانية بزيادة الوقت اللازم لإنهاء المهمة الأساسية بنسبة تصل إلى 25% عند التبديل من مهمة إلى أخرى.
ولكن الجزء الأسوأ هو أنك إذا لم تتوقف عن أداء مهمات عديدة في الوقت نفسه، فإنك ستستنفد بسرعة مخزون طاقتك اليومي قبل تمام يومك! أي ستقلّ طاقتك المتاحة مع مرور كل ساعة.
وقد اختبرتُ هذا شخصياً؛ فتعلمت من تجربتي الخاصة أن بمقدوري مضاعفة إنتاجيتي في الكتابة من مرة إلى 3 مرات عندما أركز على مهمة واحدة لمدة زمنية محددة من دون انقطاع مع اتباع ذلك باستراحة حقيقية بعيداً عن مكتبي. وأعتقد أن أفضل طريقة للمؤسسات لتعزيز الإنتاجية والتفكير الابتكاري لموظفيها هي تشجيع العمل المركّز على المهمات بمدة محدودة إلى جانب فترات أقصر من التعافي الحقيقي.
وبصفتك مديراً، يمكنك استخدام هذه الأساليب الثلاثة المفيدة التالية:
1. حافظ على انضباط الاجتماعات
نظّم الاجتماعات بحيث لا تزيد مدتها على 45 دقيقة حتى يتمكن المشاركون من الاستمرار في التركيز وأخذ الوقت الكافي بعد ذلك للتفكير ملياً فيما نوقِش والتعافي قبل الانتقال إلى المهمة التالية. وابدأ الاجتماعات جميعها في وقت محدد وأنهها في وقت محدد أيضاً، وشدد على ضرورة إيقاف تشغيل جميع الأجهزة الرقمية طوال الاجتماع.
2. توقف عن مطالبة موظفيك بالاستجابة الفورية وافتراض أنهم قادرون على ذلك على مدار اليوم
فمن شأن ذلك أن يدفعهم إلى البقاء مستنفرين في وضع رد الفعل دائماً، وهذا سيشتت انتباههم ويعوق قدرتهم على الاستمرار في التركيز على أولوياتهم. فما أحسن أن تدعهم يقطعون اتصالهم ببريدهم الإلكتروني في أوقات معينة! وإذا كانت هناك مسألة مُلحة فيمكنك الاتصال بهم هاتفياً، ومع ذلك يجب أن تكون هذه الحالات نادرة.
3. شجع موظفيك على أخذ فترات راحة
خصص فترة محددة في أثناء اليوم لتشجيع موظفيك على التوقف عن العمل وأخذ قسط من الراحة؛ فمثلاً قدِّم لهم دروساً في اليوغا أو التأمل في منتصف النهار، أو نظِّم نزهة جماعية أو نشاطاً بدنياً خفيفاً، أو فكر في إنشاء غرفة مخصصة لتجديد الأنفاس حيث يمكن للموظفين الاسترخاء أو أخذ قيلولة.
إن الأمر منوطٌ بالموظفين لوضع الحدود التي تناسبهم؛ لذا ضع في حسبانك هذه السلوكيات الثلاث لنفسك:
- ابدأ صباحك بالعمل على أهم مهمة لديك، ويفضل أن يكون ذلك لمدة من 60 إلى 90 دقيقة من دون انقطاع، مع الالتزام بوقت محدد للبدء والتوقف. واعمل في مكان منعزل إذا كان ذلك ممكناً في أثناء هذه المدة، أو استخدم سماعات مخصصة لتقليل الضوضاء. وأخيراً، قاوم كل المشتتات وتذكّر أن لديك نقطة توقف محددة تلتزم بها؛ فكلما زاد تركيزك على المهمة التي بين يديك زادت إنتاجيتك. وعند الانتهاء خذ بضع دقائق على الأقل لتجديد أنفاسك!
- خصص أوقاتاً منتظمة ومجدولة للتفكير على المدى الطويل على نحو خلاّق أو استراتيجي، وإلا فسوف تنشغل دائماً بالطلبات العاجلة وتفقد التركيز على أهدافك الطويلة الأمد. وابحث أيضاً عن بيئة مختلفة للقيام بهذا النشاط، ويفضل أن تكون مريحة ومعززة للتفكير الإبداعي.
- احرص على أخذ إجازات حقيقية ومنتظمة. فالإجازات "الحقيقية" هي التي تنفصل فيها عن العمل كلياً، ويجب أخذها عدة مرات في السنة إن أمكن ولو كانت قصيرة ليومين أو 3 أيام تضيفها إلى عطلات نهاية الأسبوع؛ إذ تشير الأبحاث بقوة إلى أن أخذ إجازتك بالكامل يؤدي إلى تحسين صحتك ويعزز إنتاجيتك عموماً!
وختاماً اعلم أن هناك مبدأً أساسياً تستند إليه هذه السلوكيات المقترحة كلها، وهو أنه من المهم أن تنخرط كلياً فيما تعمل عليه لمدة زمنية محددة، وأن تكون فترات الراحة التي تأخذها حقيقية. وبذلك ستصنع إيقاعاً لحياتك فتتوقف عن العيش في حالة دائمة من عدم اليقين.