ينجذب عالمنا إلى دوامة حركة الزمن، بالأمس القريب بدأ طلاب السنة الأولى من المرحلة الجامعية دراستهم، وهم الآن في مرحلة الدفاع عن أطروحتهم، لينفتح أمامهم باب عالم جديد، لكن قابلية التنبؤ بهذا العالم لا يعتمد فقط على مستوى المعرفة لديهم، بل على قدرتهم على تطبيقها أيضاً، كما تؤدي مكونات أخرى مثل الشخصية والذكاء والظروف أيضاً دوراً مهماً في تشكيل مسار حياتهم المهنية، من هنا نشأت الجدلية حول قدرة طلاب الجامعات على النجاح في عالم ريادة الأعمال.
روّاد أعمال بالفطرة أم بالاكتساب؟
هل يولد رائد الأعمال بروح المبادرة أم أنها مهارات مكتسبة؟ لقد كانت هذه المسألة محل جدل لسنوات بين هاتين القناعتين، وهو جدل منطقي يسهل علينا تفهم أسبابه.
تتمثل القناعة الأولى في أن الصفات والمهارات الشخصية التي عادةً ما تميز رواد الأعمال، مثل التفكير الإبداعي، والميل إلى المخاطرة، مهارات حل المشكلات، ونزعة القيادة الواضحة، هي صفات ومهارات موروثة أو غرستها العائلة في صاحبها خلال سنين النشأة. فهل نتعجب مثلاً من أن ابنيّ مؤسس مجموعة فيرجن، رائد الأعمال الشهير، ريتشارد برانسون، أسسا شركات جديدة وكانا بدورهما رائدي أفكار جديدة؟ أو من أن والدته كانت بدورها رائدة أعمال؟
على النقيض، تركز القناعة الثانية على أن ريادة الأعمال مهارة يمكن تعلمها وصقلها بالتعليم والتدريب واكتساب الخبرات. فهل هذا ممكن؟ عملت على مدار 20 عاماً في العديد من الشركات قبل أن أصبح رائدة أعمال، وفي أثناء عملي مع رئيس تنفيذي أسترالي طموح في شركة استثمارية، تعلمت منه أسلوب تحمل المخاطر وكيفية تحقيق أهداف طموحة. وقد حصلت على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من كلية لندن للأعمال، فهل تعلمت مهارات ريادة الأعمال منه أم من دراستي؟
في رأيي أن رائد الأعمال يجمع في شخصيته بين ما هو فطري وما هو مكتسب، وأن نسبة هذا أو ذاك تتفاوت بين رائد أعمال وآخر. وبعد 16 عاماً أمضيتها في ريادة الأعمال، وبينما أشرف اليوم على واحدة من الجامعات الكبيرة في دولة الإمارات، فإنني أوكد أن للجامعات دوراً مهماً في دعم منظومة ريادة الأعمال في دولها. إذ يمكن أن تكون وسيلة لتحفيز الأفكار الجديدة وتحويلها إلى فرص استثمارية قيمة تعزز النمو الاقتصادي للدول.
طلاب الجامعات وسمات الشخص الريادي
عادةً ما يعزي أصحاب الأعمال عدم قدرة الطلاب على تأسيس شركاتهم الخاصة إلى افتقارهم للإبداع والتمويل وقلة خبرتهم ومعرفتهم بأسواق العمل واحتياجاته، لكن الوضع تغير؛ فالطلاب اليوم باتوا أكثر استعداداً لتجربة أشياء جديدة من أجل تحقيق ذواتهم وتطلعاتهم وزيادة عائدهم المادي عبر الاستفادة من دراستهم للدخول في عالم ريادة الأعمال، وهذا أمر مهم لأن الرغبات والاهتمامات الذاتية للطلاب هي السمات الرئيسية لتحديد رواد الأعمال المحتملين.
من جهة أخرى، يمتلك الطلاب الخصائص التي تجعل منهم شخصاً ريادياً، والتي حددتها دراسة بعنوان: "مدى توافر خصائص الريادة لدى طلبة البكالوريوس تخصص إدارة الأعمال في جامعات جنوب الضفة الغربية" بالقدرة على التخطيط، والتحكم الذاتي، ومستوى عالي من الثقة بالنفس والالتزام والاستقالية والتواصل مع الآخرين. وأشارت دراسة أخرى حول خصائص ريادة الأعمال بين طلاب الجامعات إلى تمتع الطلاب أصحاب الميول الريادية بروح الإنجاز والابتكار وتبني المخاطرة واكتشاف كل ما هو فريد.
يتطلع الخريجون إلى بدء أعمالهم التجارية الخاصة أو الارتباط بالشركات الناشئة التي يشعرون بأنها تناسب طموحهم، في العام الماضي، جمعت الشركات الناشئة المرتبطة بجامعة ستانفورد رأس مال استثماري بقيمة 76.7 مليار دولار.
على الرغم من أهمية ريادة الأعمال لتحقيق التقدم الاجتماعي، وامتلاك الطلاب الدافع لإنشاء مشاريعهم الخاصة فإن هناك بعض المعوقات التي تواجههم، حيث بينت الدراسات أن بعض معوقات ريادة الأعمال لدى الطلاب الجامعيين مرتبطة بالأمان الوظيفي الذي يدفع الخريجين لتفضيل الوظائف الحكومية، فيما وجدت دراسات أخرى أن المعوقات الذاتية التي تؤثر سلباً في نوايا الطلاب والطالبات نحو إنشاء مشاريعهم الريادية لها علاقة بالضغوط التي يتعرضون لها لتحقيق ربح سريع، فضلاً عن خوفهم من المخاطرة والفشل لعدم قدتهم على استخدام ما يمتلكونه من موارد.
كما بينت الدراسات أنه يوجد قصور واضح في دور الجامعات في تنمية ثقافة ريادة الأعمال لدى الطلاب من ناحية الرؤية والرسالة والاستراتيجية، والقيادة والحوكمة، والموارد والبنية التحتية، والدعم الجامعي، وتعزيز شبكة العلاقات التي تفيدهم في مستقبلهم المهني.
لذا يجب على كل جامعة، خاصة تلك التي تضم كليات إدارة الأعمال، النهوض بدورها في رعاية الجيل المقبل من قادة الأعمال. فكيف يمكنها ذلك؟
كيف تدعم الجامعات رواّد الأعمال المحتملين؟
يمكن للجامعات تشجيع الطلاب على ريادة الأعمال من خلال أربعة مسارات أساسية:
1. المساحة الآمنة للتجربة والفشل
عندما تسعى إلى تأسيس شركة فقد يطاردك شبح الخوف من الفشل، فإذا شعرت بأن المخاطر كبيرة للغاية، فقد لا تبادر بتأسيسها على الإطلاق. لذا يمكن للجامعات خفض تكاليف بدء التشغيل عبر إتاحة مقرات مجانية للشركات لفترات زمنية محدودة، ما يشجع الطلاب على إطلاق مشاريعهم الخاصة دون القلق بشأن خسارة الكثير من الأموال.
2. مكان للتعلم والنضج
ثاني أوجه المساعدة التي يمكن أن تقدمها الجامعات للطلاب، هي أن تكون منبراً يتعلم فيه الطلاب من أساتذتهم أو من خبراء خارج إطار الحرم الجامعي المهارات الأساسية مثل إعداد الميزانية والتنبؤ وحل المشكلات، والأهم من ذلك، أن تتيح لهم التعلم من أقرانهم. ومن الأسباب الجوهرية لإقامة حاضنات أعمال جامعية هي بلورة منظومة رواد أعمال يمكنهم التعلم من بعضهم بعضاً وتحقيق التآزر فيما بينهم.
3. إتاحة فرص تكوين شبكة العلاقات وتوسعتها
وهو ما نسميه في الأوساط الأكاديمية "رأس مالهم الاجتماعي". وكما يوحي الاسم تماماَ فإننا نتحدث هنا عن قيمة جوهرية؛ فرأس المال هو ما تستثمر فيه لتحقيق عائد مجدي في المستقبل. وهو ما لا يمكن تحقيقه بالصدفة؛ فيجب على كل من يدير حاضنة أعمال جامعية أن يسعى بشكل استباقي لتعريف رواّد الأعمال بمصادر مفيدة لأعمالهم ودعوة تلك المصادر الرئيسية للقائهم. على سبيل المثال، يُنسق مختبر المشاريع (Enterprise Lab) في جامعة إمبريال كوليدج (Imperial College) مجموعة من البرامج والمشاريع والمسابقات الطلابية التي تفتح أمام رواد الأعمال المستقبليين المزيد من فرص التدريب والتمويل.
4. دعم الابتكار في الكليات والأقسام
لا يمكن الاستفادة من أي ابتكار دون دعمه ونقله من مرحلة الاختبار والتجريب إلى التنفيذ تجارياً. وللجامعات باع طويل في آليات حماية الملكية الفكرية، وتنظيم التراخيص التجارية. وهي مؤهلة بصورة نموذجية لمساعدة الشركات الناشئة وإن لم تفعل ذلك، فهناك من هو على استعداد للقيام بذلك بالفعل.
في عام 2016، عندما بدأت عملي عميدةً لكلية إدارة الأعمال، أتذكر أنني فكرت في حقيقة عدم وجود شركات فعلية تحت مظلة كلية إدارة الأعمال وقررت تغيير ذلك. واندهشت عند معرفتي بأنه من بين خمس شركات أطلقها خريجو الجامعة خلال العام السابق، لم يتأسس أي منها داخل جامعتنا.
وهكذا، كلفت أحد الأساتذة بزيارة كل حاضنة أعمال جامعية في المملكة المتحدة للخروج باستراتيجية خاصة بجامعتنا، وفي العام 2018، كانت انطلاقتنا في المملكة المتحدة، وبد انتقالي إلى دولة الإمارات في العام 2022 أطلقنا حاضنة أعمال جامعية في دبي. وتلقينا مؤخراً أكثر من 70 طلباً؛ وهو عدد لافت بالنظر إلى أن أمام رواد الأعمال في دبي فرصة الاختيار من بين كم كبير ومتنوع من الحاضنات. وفي ظل وفرة الطلبات، اقتصرت المقابلات على أفضلها حتى يتسنى لنا البت في من نرحب بالتحاقه بنا.
كان طموح كل طلب من تلك الطلبات هو تأسيس شركة أو تطوير شركة أسسها حديثاً في دولة الإمارات. وكان دورنا، بمجرد أن نختار رواد الأعمال الذين سنحتضنهم، أن ندعمهم عبر مسارات الدعم السالف ذكرها. مساحة آمنة لترويض مخاطر أعمالهم، مكان للتعلم والنضج، التوسع بشبكة علاقاتهم، وتسويق مبتكراتهم. إنهم كوكبة من الطموحين الراغبين في الاستمرارية والنجاح. ولا أعتقد أنهم من النوع الذي يمكن أن يتوقف بالأساس عند مسألة ما إذا كانوا رواد أعمال بالفطرة أم بالاكتساب.