ومضت أضواء سيارات الشرطة الزرقاء باتجاه جسر لندن في 3 يونيو/حزيران عام 2017 استجابة لتقارير تُفيد بوجود هجوم إرهابي. واجتازوا بسياراتهم آلاف الأشخاص الذين كانوا يستمتعون بليلة السبت في المطاعم والمقاهي في المنطقة. حاول العديد ممن كانوا في الشوارع خائفين طلب سيارات "أوبر" ليعودوا إلى منازلهم بحثاً عن الأمان. ولكن خلال الـ 43 دقيقة من تلقي الشرطة أول مكالمة طوارئ عند الساعة 10:07 مساءً، تسببت خوارزمية التسعير الديناميكي لشركة "أوبر" في ارتفاع الأسعار في تلك المنطقة من المدينة إلى أكثر من 200%.
تُعد حادثة لندن واحدة من العديد من الأمثلة المثيرة للقلق عن ارتفاع أسعار سيارات "أوبر" خلال لحظات تسود فيها نوبات هلع جماعي، حيث حدثت ارتفاعات مماثلة خلال تفجير عام 2016 في مدينة نيويورك، وخلال إضراب سائقي سيارات الأجرة عام 2017 احتجاجاً على سياسة الولايات المتحدة المناهضة للهجرة؛ ولعلّ أهمها حادثة إطلاق النار على مجموعة من المدنيين في سياتل عام 2020 عندما ارتفعت الأسعار خلالها بنسبة 500%. أثار التسعير الخوارزمي لشركة "أوبر" انتقادات من 93 مليون مستخدم نشط لشركة النقل التشاركي تلك. وحتى في ليلة هجوم جسر لندن، بقيت مشكلة ارتفاع الأسعار قائمة في المناطق المحيطة بوسط لندن لمدة 50 دقيقة أخرى بعد أن حلّت "أوبر" المشكلة بالقرب من جسر لندن بشكل يدوي.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
تستخدم العديد من الشركات الخوارزميات لتحديد الأسعار وتعديلها في الوقت الحقيقي لزيادة الأرباح. لكن التغيرات المستمرة في الأسعار قد تُقصي الزبائن وتقوض ولاءهم وتضر بسمعة العلامة التجارية.
السبب
تعتمد عملية التسعير الخوارزمي على تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة لموازنة المتغيرات، مثل العرض والطلب وتسعير المنافسين ووقت التسليم. ومع ذلك، غالباً ما تفشل عملية التسعير الخوارزمي في مراعاة الطرق التي تؤثر بها تغييرات الأسعار المتكررة على الزبائن نفسياً، وهو ما يجعلهم يتساءلون عن دوافع الشركات وقيمة منتجاتها وخدماتها.
الحل
للتحكم في الرسائل التي توصلها عملية التسعير الديناميكي للزبائن ومعرفة مدى تأثيرها على علاقات الزبائن، يجب على الشركات تطوير مخطط حالة استخدام ومشاركة الهدف من تبني نظام الخوارزميات، إضافة إلى ضرورة تعيين مشرف لإدارتها، ووضع ضوابط على عملية التسعير والإشراف عليها، والتصرف بسرعة لإلغاء عملية الأتمتة عند الضرورة.
قد يُشيد خبراء الاقتصاد بنظام التسعير الذي طورته شركة "أوبر" والقائم على رفع سعر الرحلة عند زيادة الطلب مقارنة بالعرض. ومع ذلك، كانت تكلفة استخدام الخدمة غير متوقعة بالنسبة للزبائن.
لم تكن شركة "أوبر" الشركة الوحيدة التي واجهت تلك المشكلة، حيث استخدمت الشركات في العديد من القطاعات التسعير الديناميكي بدرجات متفاوتة من النجاح، بما فيها قطاعات الإعلان والتجارة الإلكترونية والترفيه والتأمين والرياضة والسفر وشركات الخدمات. ومن الأمثلة الكلاسيكية والمعروفة شركة "كوكاكولا" التي أجرت تجارب في أواخر التسعينيات من القرن العشرين على ماكينات البيع الحساسة تجاه درجات الحرارة التي من شأنها زيادة سعر المشروبات في الأيام الحارة. لكن سرعان ما تخلّت الشركة عن المشروع في أعقاب الغضب العام.
تهدف خوارزميات التسعير إلى مساعدة الشركات في تحديد الأسعار المثلى على أساس الوقت الحقيقي تقريباً، وذلك باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة لموازنة المتغيرات، مثل العرض والطلب وأسعار المنافسين ووقت التسليم. لسوء الحظ، قد تحيد الخوارزميات أحياناً عن الطريق وتفرض أسعاراً لن يدفعها أحد على الإطلاق، من 14,000 دولار لخزانة معروضة في شركة "واي فير" (Wayfair) إلى ما يقرب من 24 مليون دولار لكتاب مدرسي معروض على منصة "أمازون". لكن ليست مثل تلك الزلات سوى واحدة من المخاطر التي تحصل نتيجة تعهيد الشركات عملية اتخاذ القرار لأجهزة الكمبيوتر.
تُرسل التغييرات المستمرة في نقاط الأسعار إشارات قوية للزبائن وتتطلب من الشركات إدارتها بشكل صحيح. ومع ذلك، لم تُعر العديد من المؤسسات تلك المشكلة أي أهمية. في الواقع، تعلم تلك المؤسسات بالفعل أن الأسعار تؤثر على القرارات المتعلقة بوقت الشراء وما يجب شراؤه، لكنها تتغاضى عن حقيقة أن تلك التقلبات قد تقود إلى تصورات غير مواتية لعروضها، والأهم من ذلك هو أنها تشوه صورة الشركة نفسها.
وبالتالي، يجب على العلامات التجارية التفكير في أكثر من مجرد حسابات بسيطة عند استخدام الأنظمة الخوارزمية، إذ قد تخلق تلك الأنظمة تناقضاً سلبياً بين هدف كسب ولاء الزبائن وكسب المال، في حين قد يساهم تنفيذها بشكل صحيح في تنمية الإيرادات ويجعل الزبائن يشعرون أنهم يدفعون المبلغ المناسب للمنتج أو للخدمة.
وسنستكشف في هذه المقالة الجانب النفسي السائد عندما تطلب الشركات من زبائنها دفع المال. ونستعرض أمثلة من العالم الواقعي عن التسعير الخوارزمي والفوائد أو الآثار التي تخلّفها عملية التسعير تلك على العلامة التجارية المعنية. كما نفصل أيضاً مزايا تطبيق عملية الإشراف والإدارة المناسبتين، بما في ذلك تحديد وحدة الأعمال المسؤولة عن تلك الجهود وتفصيل الضوابط التي يجب وضعها للحد من احتمالية إساءة الاستخدام.
في أسوأ الحالات، تحوّل الخوارزميات مهمة الشركة الحساسة بالفعل والمتمثلة في طلب المال من الزبائن إلى تجربة تُقصيهم.
التأثير النفسي للتسعير الخوارزمي
لنبدأ بحالة شركة "رووت إنشورانس" (Root Insurance) التي تبيع بوليصات تأمين للسيارات في 30 ولاية أميركية. ففي مسعاها لثقيف زبائنها وتعزيز العلاقات معهم بشكل أفضل، ابتكرت الشركة برنامجاً للتسعير الديناميكي يتعامل مع كل سائق بطريقة شخصية وشفافة. وعلى عكس المنافسين، لا تلجأ شركة "رووت" إلى تجزئة الأسعار استناداً إلى مجموعات المخاطر الكبيرة والمجهولة نسبياً التي تتولد من بيانات التركيبة السكانية، بل توفّر للسائقين بدلاً من ذلك تطبيقاً للهواتف الذكية يقيس سلوكياتهم اليومية خلف عجلة القيادة. وبعد إدخال تلك البيانات في خوارزمية لحساب درجات الأمان الفردية، تقوم شركة "رووت" بتحديد أقساط التأمين استناداً إلى مدى جودة أداء السائقين، مع إعطاء بعض الوزن للعوامل التقليدية، مثل الأهلية الائتمانية وإحصاءات الاحتيال في التأمين. وتتجنب شركة "رووت" النظر في التحصيل العلمي لأي شخص أو مهنته (عوامل القطاع الشائعة الأخرى) للحد من احتمالات التحيز ضد الزبائن الذين يعانون من نقص في الموارد، وتعهدت بإسقاط الدرجات الائتمان من معدلاتها بحلول عام 2025. كما تمنح الشركة فرصة التأمين أيضاً للأشخاص الذين يجتازون اختبار السلامة الذي طوّرته فقط. وتدّعي شركة "رووت" أن بإمكانها تقليل النفقات المرتبطة بالحوادث وخفض أسعار التأمين لجميع زبائنها من خلال إقصاء السائقين سيئي الأداء.
ويُعتبر نموذج شركة "رووت" مثالاً فعالاً على أهمية خوارزميات التسعير والشفافية المرتبطة بها في تحسين العلاقات مع الزبائن. أولاً، يعرف الزبون ماهية الخدمات التي تقدمها شركة "رووت" ولا يأخذ تلك القضية في الاعتبار قبل أن يعرف سعر بوليصة التأمين حتى. ثانياً، يعرف الزبون سبب حصوله على عرض سعر محدد يختلف عن عرض السعر الذي سيدفعه شخص آخر. ثالثاً، يعرف الزبون ما تبذله شركة "رووت" بالوكالة عنه لتقليل التكلفة النهائية للتأمين.
ويعتبر جعل الزبائن يفهمون طبيعة التسعير الخوارزمي ذي المنفعة المتبادلة مفتاح النجاح، ذلك لأن دفع ثمن باهظ لأي خدمة أو منتج قد ينطوي على آثار سلبية جداً. وأظهرت البحوث التي أجراها المتخصصون في الأعصاب في جامعات "كارنيغي ميلون" (Carnegie Mellon) و"ستانفورد" و"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" أن مراكز الألم في الدماغ البشري تنشط عندما يرى الناس منتجاً باهظ الثمن.
في الواقع، إن مجرد طلب المال يحول التركيز في علاقة الزبون من السعي وراء المصالح المتوافقة إلى التوفيق بين المصالح المتعارضة، بغض النظر عن وقت طلبه أو كيفية طلبه. في أسوأ الحالات، قد يؤدي طلب المال إلى نفور الزبائن. ويتمثل التحدي الذي يواجه المؤسسة المرتكزة على الزبون في تقليل المخاطر والحد من الأضرار التي تحدث عندما تؤدي معايير السوق إلى زيادة الأسعار والتطفل على علاقة كان من المفترض تنميتها خلاف ذلك.
كانت الأسعار أكثر ثباتاً وتختلف قليلاً من بائع لآخر قبل أن يجري استخدام خوارزميات التسعير على نطاق واسع. وكانت توقعات الزبائن مستقرة نسبياً، ولم ينظروا إلى الأسعار على أنها شخصية. وكلما خلقت تغيرات الأسعار تناقضات بين التكلفة الفعلية والمتوقعة، كان من الأسهل على الزبائن تبرير الزيادات، على افتراض أنها تُطبّق على الصعيد العالمي كجزء من استراتيجية المؤسسة الموضوعة بعناية.
لكن التكنولوجيا جعلت تلك الصدامات أكثر تواتراً وتعسفاً، وأكثر إذهالاً في الحجم، وهو ما أزعج الزبائن وصعّب عليهم التوفيق بين توقعاتهم وما يحصلون عليه. في الوقت نفسه، توصلت العديد من الشركات إلى الاعتقاد بأنه كلما كانت توقعات أسعار الزبائن مستقرة وكانت عمليات الزعزعة في حدها الأدنى، فشلت الشركة في تحقيق الربح الذي تطمح عليه. فازداد تحول الشركات إلى الخوارزميات لتعظيم أرباحها بما يتماشى مع معايير السوق، بما في ذلك القطاعات بطيئة النمو التي تعمل بنظام التعامل التجاري بين الشركات (B2B) والتي استبدلت جداول بيانات ملفات "إكسل" بأدوات تسعير خوارزمية قوية.
مكّنت التكنولوجيا الشركات من تعميق علاقاتها مع الزبائن، وأصبحت أكثر كفاءة وفاعلية في الاستحواذ على أموالهم. ومع ذلك، غالباً ما يترك هذا المزيج الزبائن يتساءلون عما يجب أن يفكروا فيه وعن الشركات التي يجب أن يثقوا بها، وقد يقضون وقتاً كثيراً حتى في محاولة فهم مشكلة تغير الأسعار في ظل تزايد الحساسية السعرية لديهم. ماذا تقول التقلبات عن جودة المنتج أو الخدمة التي يشتريها الزبائن وعن مدى رضاهم عن ذلك المنتج أو تلك الخدمة؟ أو عن حوافز البائع وقيمه؟ وما هو رأي تلك الشركة الحقيقي في السيطرة التي تمارسها؟
قد تتلاشى الحاجة إلى الإجابة عن تلك الأسئلة إذا وصلت تغيرات الأسعار إلى حالة توازن. لكن إذا بقي تواتر تلك التدخلات ونطاقها غير مؤكد، ستبقى تلك الأسئلة وستجبر الزبائن في النهاية على استخلاص استنتاجاتهم، دون طلب أي تفسير صريح من البائع. وذلك هو الوقت الذي يبدأ فيه الزبائن إبداء رد فعل تجاه الرسائل التي تُرسلها الخوارزمية بدلاً من رسالة الشركة، وهو عرض محفوف بالمخاطر لأي عمل تجاري.
ونقدم لكم 4 توصيات مدعومة بالأمثلة التوضيحية تساعد في شرح كيفية تطبيق كل توصية بهدف التحكم في الإشارات التي تُرسلها عملية التسعير الحسابي للزبائن وأثرها على علاقات الزبائن.
حدد حالة الاستخدام المناسبة وبينّ أهميتها
أطلق متجر الأثاث السويدي "إيكيا" في عام 2020 مبادرة جديدة في موقعه بمدينة دبي، حيث سمحت الشركة للزبائن دفع أسعار مختلفة للمنتجات استناداً إلى الوقت الذي يقضونه في القيادة إلى المتجر. كان لكل صنف سعر يعبر عنه بوحدتين: العملة المحلية ومقدار الوقت، ابتداءً من الشطيرة في المطعم إلى غرفة النوم الكاملة. على سبيل المثال، حصلت الأسرة التي قادت السيارة مدة 45 دقيقة إلى متجر "إيكيا" على قيمة معينة مرتبطة بالمسافة التي قطعتها. ويمكن للعائلة عند الدفع أن تُظهر لموظف الصندوق قراءة للخط الزمني "لجوجل مابس" (باستخدام ميزة في تطبيق "جوجل مابس" للهواتف الخلوية تقوم بتتبع جميع الطرق التي يسلكها المرء وتسجيلها). سيُجري أمين الصندوق خوارزمية تحسب الوقت المنقضي، والمسافة المقطوعة، ومتوسط الأجر بالساعة لعامل ما في دبي لحساب القيمة النقدية للرحلة. ثم يقدم المتجر تلك القيمة على شكل خصم نقدي. وكلما طالت مدة الرحلة، زادت نقاط الوقت التي تحصل عليها العائلة وقلّت الأموال التي يجب عليها دفعها.
كان الاستنتاج الواضح الذي استخلصه المتسوقون من استراتيجية "إيكيا" هو أن شركة البيع بالتجزئة تلك أرادت تحفيزهم على السفر مسافات طويلة للوصول إلى متاجرها. وعلى الرغم من أن الزبائن المختلفون سيدفعون أسعاراً متباينة لنفس الأصناف، وسيدفع الزبائن الأفراد أسعاراً مختلفة في كل مرة يزورون فيها المتجر (اعتماداً على المكان الذي قدِموا منه)، فقد شعروا أنهم يمتلكون السيطرة على مقدار المبلغ الذي سيدفعونه. لكن تتناقض تلك الاستراتيجية مع الإحساس بالعجز الذي يشعر به الناس غالباً في أثناء ارتفاع الأسعار. ونظراً لأن التكاليف النقدية للزبائن قد تنخفض استناداً إلى المسافة المقطوعة بدلاً من أن تزداد نتيجة الطلب المتزايد، لم يدفع أحد سعراً أكبر من السعر المعلن على موقع الشركة على شبكة الويب. بمعنى آخر، استخدمت شركة "إيكيا" الخوارزمية القائمة على المسافة لمكافأة الزبائن بدلاً من فرض أسعار أعلى عليهم. صحيح أنها قد تخسر بعض الإيرادات الفورية، حيث يمكن للمتسوقين الذين قادوا سياراتهم مسافة طويلة الحصول على تخفيضات كبيرة أو حتى الحصول على بعض المنتجات مجاناً، لكن من خلال اختيار حالة الاستخدام المناسبة، وتقديم حوافز مضمنة لحث الناس على زيارة المتجر، ربما نجحت الشركة في جذب مزيد من الزبائن الذي يقطنون بعيداً وزيادة ولاء جميع الزبائن (وزيادة القيمة النظرية الدائمة للعميل).
لكن النماذج المماثلة لنموذج "إيكيا" نادرة، إذ عادة ما تستخدم الشركات استراتيجية التسعير الديناميكي لتعزيز أهدافها المالية قصيرة الأجل مع إبداء قليل من الاهتمام لتصورات الزبائن. ومع ذلك، تُرسل تغيرات الأسعار الكبيرة التي تنفذها الخوارزميات ومدى وطأة تلك التغيرات، إشارات واضحة للمشترين حول كل شيء، بدءاً من رسالة الشركة وقيمها إلى جودة عروضها. وقد تؤدي تلك الإشارات إلى استبعاد الجهود الأخرى الهادفة إلى تعزيز علاقة العلامة التجارية بزبائنها. في أسوأ الحالات، تحول الخوارزميات مهمة الشركة الحساسة بالفعل والمتمثلة في طلب المال من الزبائن إلى تجربة تُقصيهم. ولهذا السبب، لا تستطيع الشركات ترك عملية إدارة تكنولوجيا التسعير لعلماء البيانات وحدهم.
إن الطريق إلى التحسين ليس عملية تقنية فحسب، بل هو عملية تنظيمية ونفسية. وعلى الرغم من كل ذلك التناقض، قد تزيد الخوارزمية المثلى الأمور سوءاً، وذلك من خلال استغلال الظروف وإثارة الاستياء، كما حدث مع شركة "أوبر" في أثناء هجوم جسر لندن.
ويبدأ التغلب على التحدي التنظيمي بإدراك أن التسعير الخوارزمي ليس مجرد وسيلة لتوليد الأسعار التي تحقق التوازن بين العرض والطلب، بل هو في الواقع مبدأ يجب مواءمته مع مؤسسة الفرد من القمة إلى القاعدة.
وعندما يكون لدى الزبائن انطباع بأن أسعار الشركة تعتمد على العرض والطلب فقط، ستكون الاستدلالات التي يستخلصونها خاطئة. فكر في شركة مبتكرة تقدم عروضاً مميزة للغاية. عندما تؤكد هذه الشركة على العرض والطلب في خوارزمية التسعير، فهي تُرسل رسالة إلى زبائنها مفادها أن قيمة منتجها مرتبطة بما إذا كانت تلك المنتجات متاحة أم لا، وليس بمدى قدرتها على حل مشكلاتهم أو بجودة أدائها مقارنة بالمنافسين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للزبائن تعلم كيفية التلاعب بالاستراتيجية وتحديد وقت مشترياتهم لتتزامن مع لحظة يعتقدون فيها أن السعر منخفض. وهو ما يقود مرة أخرى إلى التسليع. على النقيض من ذلك، ركّز نموذج التسعير الديناميكي في "إيكيا" على جذب زبائن غير محتملين بدلاً من فرض أسعار أعلى على الزبائن المحتملين بسبب نقص العرض.
تخصيص إدارة للإشراف على خوارزمية التسعير
ألغت شركة "يونايتد إيرلاينز" (United Airlines) في عام 2019 جداول الأميال التي اعتمد عليها المسافرون الدائمون للحصول على نقاط مكافآتهم. واستبدلت الجداول بنموذج تسعير حسابي، ووضحت سبب ضرورة ربط مكافآت السفر بالعرض والطلب، وأوضحت للزبائن كيفية الاستفادة من تلك الاستراتيجية (أي من خلال استخدام عدد قليل من مكافآت الأميال للرحلات خارج أوقات الذروة).
ومع ذلك، أدى النظام الجديد إلى ارتفاع أسعار المكافآت للرحلات التي يرتفع فيها الطلب. صحيح أن ذلك أصاب جميع الزبائن الذين اعتادوا الحصول على المكافآت بالإحباط، لكن شركة الطيران أبلغت المسافرين بجميع التغييرات بطريقة يسهل فهمها، وركزت جهودها على قاعدة زبائن محددة (ويفترض أنهم الزبائن الذين يتصفون بالولاء). وتمكنت بذلك من التخفيف من الضرر الكبير الذي لحق بسمعتها. وبما أن شركة "يونايتد" فوّضت إدارة الخوارزمية الجديدة إلى الفريق الذي أشرف على برنامج الولاء، منحت مهمة الإشراف على نظام التسعير لإدارة كانت شديدة التفهم لحساسيات الزبائن الأكثر ولاءً. ومكنت تلك الاستراتيجية شركة الطيران من مراقبة الثغرات والاستجابة لها بسرعة باستخدام الخوارزمية أو عند إدراك التحديات التي واجهتها في علاقتها مع الزبائن.
من السهل إلقاء اللوم على الخوارزميات نفسها عندما تُخطئ، لكن قد يكون للمشكلات أسباب جذرية أخرى، كعدم كفاية الاهتمام التنظيمي أو الفشل في تفهّم نفسية الزبائن. وعادة ما يكون لدى معظم الشركات فهماً غير كامل لما يحدث بالفعل عندما يطلبون المال من الزبائن، ذلك لأنها تحصر تركيزها على الأرقام التي تعتقد أنها أهم من النتائج السلبية لقوى السوق التي تشكل العرض والطلب. واقتباساً من "آدم سميث"، فإن "اليد الخفية" هي من يؤدي العمل، وليس الشركة نفسها.
ويقود قصر النظر هذا الشركات إلى التغاضي عن جميع المعلومات الأخرى التي تكشف عنها الأسعار. لكن معظم الشركات لا تستطيع إدارة تلك المعلومات بفاعلية، حتى عندما تدرك مدى أهميتها وآثارها، وذلك لأن عملية التسعير هي عملية تنظيمية مستقلة تفتقر إلى آليات القيادة وتحمل المسؤولية والمساءلة.
وعندما تقوم الشركات بتعهيد أعباء العمل الكبيرة المرتبطة بالتسعير إلى عمليات الأتمتة، فهي تترك للخوارزميات بذلك مهمة التحكم في العمليات الحسابية والرسائل التي سيستخلصها الزبائن على حد سواء. لكن من يراقب ماهية الرسائل التي يستخلصها الزبائن عندما يركز علماء البيانات ومحللو البيانات وأخصائيو التسعير على تحسين الأرقام؟ الجواب هو لا أحد في العديد من المؤسسات.
تنطوي خوارزمية التسعير في حد ذاتها على نقطتي ضعف، إذ تفتقر أولاً إلى التعاطف المطلوب لتوقع الآثار السلوكية والنفسية التي تحدثها تغيرات الأسعار على الزبائن وفهمها. ثانياً، تفتقر إلى المنظور طويل الأجل المطلوب لضمان الامتثال لاستراتيجية المؤسسة أو هدفها الشامل. وتتعارض الخوارزمية في الواقع مع أهداف فرق التسويق المتمثلة في تعزيز العلاقات والولاء على المدى الطويل نتيجة تأكيدها على تقلبات العرض والطلب في الوقت الحقيقي. وقد يؤدي ذلك التعارض بين التفكير بعيد المدى وتغيرات الأسعار في الوقت الفعلي إلى تكثيف النزاع بين كسب السمعة الطيبة وكسب المال.
فإذا كانت الشركة غير قادرة على إدارة عملية وضع الأسعار وتحديد ماهية الرسائل التي تود إيصالها للزبائن بشكل استباقي واستراتيجي، فيمكنها أن تطلق بل وتسرع عملية تسليع عروضها وتعززها من خلال زيادة الحساسية السعرية وتقويض علاقات القيمة السعرية وتشويه سمعة العلامة التجارية. لكن يمكن للشركة من خلال تمكين فريق يمكنه التخطيط لمبادراتها واتخاذ قرارات فورية بشأنها إعادة التمحور بسرعة عند حدوث مآزق.
يجب على الشركة أن تسعى جاهدة للتأكد من كيفية إدراك الزبائن لرسالتها وهدفها وما إذا كانت إجراءاتها السعرية تعزز السمعة التي تحاول اكتسابها أو تقوضها.
وضع ضوابط لعملية التسعير والإشراف عليها
فكر في تجربة سيئة نموذجية في مدينة ملاهي يضطر الزوّار خلالها أن ينتظروا في طوابير طويلة لركوب الخيل والحصول على الطعام والدخول إلى دورات المياه، بالإضافة إلى نقص الاهتمام الشخصي من قبل موظفي الدعم المرهقين أو غير المدربين. تترك تلك التجربة المنفرة العديد من الزبائن يتساءلون عما إذا كان استثمارهم الضخم في التذاكر ومواقف السيارات ووجبات الطعام الخفيفة والفنادق يستحق كل ذلك العناء. في الواقع، ستكون تجربة الضيوف أكثر متعة إذا كانت الطوابير وأوقات الانتظار أقصر وإذا تلقوا معاملة أفضل مع موظفي الحديقة.
على سبيل المثال، غيّرت شركة "والت ديزني وورلد" في أورلاندو بولاية فلوريدا هيكل التسعير الديناميكي من عملية يدوية إلى خوارزمية في عام 2018 لزيادة رضا العملاء. يقوم البرنامج الجديد على رفع أسعار التذاكر متعددة الأيام بشكل عام وخفض أسعار التذاكر في غير أوقات الذروة، وهو ما شجع الزبائن على التخطيط لرحلاتهم في وقت مبكر أو حجزها خلال الفترات التي خارج أوقات الذروة من أجل الاستفادة من الأسعار المنخفضة.
وينطوي برنامج "ديزني" على العديد من المزايا: أولاً، يوضح أن التسعير الديناميكي قد يخدم أهدافاً نهائية أخرى إلى جانب زيادة الإيرادات أو حجم المبيعات. حتى إذا استمر إجمالي الإيرادات وعدد الزوار الكلي ثابتاً بمرور الوقت، سيجعل هيكل التسعير تدفق الزبائن أكثر ثباتاً، وهو ما يعني تقلبات أقل في احتياجات "ديزني" إلى الموظفين والموارد الأخرى، وهو ما سيقود إلى توفير كبير في التكاليف. ثانياً، تتحسن تجربة العملاء بشكل كبير عندما يكون الزوار قادرين على الاستمتاع بالمزيد من الجولات وزيارة مزيد من أماكن الجذب وتحقيق أقصى استفادة من أوقاتهم في المتنزهات. أخيراً، يمكن الإعلان عن برنامج التسعير الديناميكي بشكل صريح باعتباره التزاماً برضا العملاء على المدى الطويل (على الرغم من الزيادة الإجمالية في الأسعار).
عندما حوّلت "ديزني وورلد" نظام التسعير إلى عملية خوارزمية، قررت أيضاً أنه سيكون من مصلحتها عدم اتباع نظام التسعير الديناميكي للدخول ليوم واحد إلى حدائقها الترفيهية الفردية (المملكة السحرية، ومنتزه إبكوت، ومملكة الحيوانات، واستوديوهات هوليوود). وتم تحديد أسعار تذاكر اليوم الواحد في جميع الأماكن الأربعة من 109 دولارات إلى 129 دولاراً، بغض النظر عن الوقت الذي يختاره الزبون خلال العام، وبغض النظر عن حجم الطلب. باختصار، حددت تلك الضوابط المبلغ الذي يمكن أن تفرضه "ديزني" على تصريح دخول ليوم واحد، لكنها وضعت معايير واضحة ساعدت الزبائن في توقع تكاليفهم والتخطيط لزياراتهم. ويمكن لشركة "ديزني" من خلال مراقبة كيفية اختيار الزبائن لرحلاتهم بأنفسهم تعزيز تواصلها حول تجربة الحديقة وتصميم حزم خدمات إضافية لتلبية احتياجات شرائح مختلفة من الزبائن.
ويمكن للشركات الأخرى استخدام الضوابط بطريقة مماثلة، ليس فقط لحماية الزبائن من التقلبات الشديدة في الأسعار، وإنما للحكم أيضاً على كيفية تأثير عملية التسعير على كل مجال من مجالات المؤسسة. ويجب على الشركات تشجيع عملية تبادل المعلومات بين أنشطة الأعمال المختلفة عند وضع الضوابط الأولية وتطبيقها. وتلك هي أفضل طريقة لاستخلاص المعلومات الأساسية واستخدامها لصالح الشركة. ولاحظنا وجود 3 مجالات أساسية لتوثيق التعاون عبر الوظائف لاستخلاص رؤى ثاقبة من الخوارزميات:
التجريب. يمكن للاختبار الدوري للأسعار الخاضع للرقابة أن يساعد الشركة في قياس مدى تقدير الزبائن لمنتج أو خدمة ما، أو أي من ميزات ذلك المنتج أو تلك الخدمة، وفهم كيفية استخلاص تلك القيمة ووقت استخلاصها. في الواقع، قد تكون تجربة التسعير أقوى بكثير من بحوث السوق التقليدية، وذلك لتفاعل الزبائن مع العروض الفعلية وعقدهم صفقات حقيقية. وتساعد استجاباتهم لتحولات الأسعار الشركات في تحديد ماهية الاستراتيجيات الناجحة والاستراتيجيات غير الناجحة، والمرحلة التي يتخذ المشترون فيها قرارات الشراء أولاً.
الإشراف. يمكن أن تطور الشركات مؤشر أداء رئيسي جديد أو تقارن المؤشرات الحالية للتأكد من أن حجم تغيرات الأسعار ومدى تكرارها لا يقود إلى تبديد ولاء الزبائن أو تقويض سمعة العلامة التجارية. ولا ترغب أي شركة في أن يُنظر إليها على أنها غير عادلة أو متلاعبة أو طماعة. وبالتالي، من المهم اتخاذ تدابير لتقييد مخرجات خوارزميات التسعير وإدارتها، ومن الضروري التفكير في الرسائل التي سيستخلصها الزبائن وعواقبها مقدماً. وهو ما يمكّن الشركات من تجنب الأسعار المبالغ فيها والمتقلبة من خلال وضع تدابير شاملة، كما فعلت شركة "ديزني" في عملية التسعير الثابتة ليوم واحد.
الاستراتيجية. الاستراتيجية في الأساس هي نظرة متكاملة طويلة الأجل للعنصرين الأولين. هل تجري عمليات تطوير منتجات الشركة، والترويج للعلامة التجارية، وتعزيز مكانة الشركة، وعملية التسعير في تناغم، أو بأقل قدر من الاحتكاك، لتحقيق الأهداف النهائية لاستراتيجية الشركة؟ يجب على الشركة أن تسعى جاهدة للتأكد، بشكل مباشر أو غير مباشر، من كيفية إدراك الزبائن لرسالتها وهدفها وما إذا كانت إجراءاتها السعرية تعزز السمعة التي تحاول اكتسابها أو تقوضها. ويجب أن تتزامن الرسائل التي يستخلصها الزبائن من الأسعار مع الرسائل الصريحة التي توصلها الشركة من خلال أنشطتها غير السعرية للترويج عن نفسها ومنتجاتها.
وعندما تولي الشركات اهتماماً بجميع الطرق المختلفة التي يمكن أن تحول بها التغييرات في الأسعار قناعات الزبائن وسلوكياتهم، خلاف قرارات الشراء أو عدم الشراء الفورية، يمكنها تعزيز علاقة الزبائن بدلاً من تقويضها، حتى عندما ترفع الأسعار. ويمكن للشركات الاستفادة من قوة التغيير في الأسعار لتحسين عملياتها وخلق تجربة شاملة أفضل للزبائن في الوقت نفسه.
إلغاء نظام التسعير القائم على الخوارزميات عند الضرورة
بعيداً عن نهج التسعير "حددها وانساها" الذي كان شائعاً في الماضي، يجب على المؤسسات التي تتبنى استراتيجية التسعير الديناميكي اتخاذ موقف استباقي وإبداعي لتحقيق النتائج المرجوة. كانت الأهداف بسيطة بالنسبة إلى شركات "ديزني" و"إيكيا" و"يونايتد إيرلاينز": حيث أرادت هذه العلامات التجارية أن تجعل تجربة الزبائن تستحق العناء عند إجرائهم المعاملات، حتى في ظل ظروف أقل من مثالية (في أيام أقل ملاءمة، أو على الرغم من التنقلات الطويلة إلى المتاجر التقليدية). وأرادت أيضاً الاستفادة من قدرتها على إدارة كيفية الإبلاغ عن التغييرات في الأسعار ووقت الإبلاغ عنها وسببها.
ويمكن لأفضل خوارزميات التسعير تحليل بيانات الزبائن والمعلومات الأخرى لتوليد الأسعار المثلى لأي زبون في أي وقت. لكن من منظور مَن تعتبر هذه الأسعار مثالية؟ يتعارض هذا السؤال بين كسب حسن نية الزبون وكسب مزيد من الأموال، وهو ما يمثل تحدياً تنظيمياً معقداً يستلزم أن تشرف عليه جهة محددة وتتولى إدارته عند الضرورة. قد تحتاج الخوارزمية إلى التعديل أحياناً وقد يلزم تعليق استخدامها مؤقتاً في أوقات أخرى.
أعلنت شركة "أوبر" في اليوم التالي لهجوم جسر لندن أنها أعادت مدفوعات جميع الركاب الذين استأجروا سيارات في المنطقة المتضررة. كما تباهت أيضاً بأن سائقيها ساعدوا عشرات الآلاف من الأشخاص على الفرار من مكان الحادث. من المحتمل أن كلا الإعلانين كانا سيعززان سمعة الشركة لو أنها لم تتعرض للتشويه نتيجة رد الفعل السلبي السريع لارتفاع الأسعار. وعلى الرغم من صعوبة تحديد التأثير السلبي الدائم لذلك الارتفاع المفاجئ على علاقة شركة "أوبر" بزبائنها، من الواضح أن الاستجابة الأسرع أو وجود آلية استباقية لمنع ارتفاع الأسعار كانت ستفيد هذه العلامة التجارية وتقدم للركاب خدمة أفضل ذلك المساء.
وبالتالي، يجب على جميع الشركات أن تفهم ماهية الرسائل التي توصلها خوارزميات التسعير للزبائن وأن تحدد أفضل طريقة للتحكم بها. كما يجب على الشركات تطوير حالة استخدام مناسبة وشرح أهميتها بهدف تنفيذ عملية التسعير الخوارزمي بشكل فاعل، وتخصيص إدارة لمراقبة ضوابط عملية التسعير وتمكينها من الإشراف على عملية الأتمتة وإلغائها عند الضرورة. وستكون الشركات بذلك قادرة على تحسين عملية التسعير الديناميكي في الوقت الحقيقي دون التضحية بولاء الزبائن أو الإضرار بسمعتهم.