يقول بيتر دراكر الكاتب والرائد في علم الإدارة: "إنّ الأفكار مجرد نوايا حسنة، ما لم تتحول على الفور إلى عمل جاد". تعكس هذه المقولة والكثير غيرها واحدةً من وجهات النظر السائدة في ما يتعلق بموضوع طريقة تنفيذ الاستراتيجية أثناء العمل، وهي أنّ تنفيذ الاستراتيجية يختلف عن تصميمها، ويُعتبر أمراً أكثر صعوبة. وبالتالي، يُعتبر التنفيذ العنصر الأكثر أهمية في تحقيق النجاح، وهو العنصر الذي يرتكز على الصفات الإيجابية الثابتة مثل الاجتهاد والانضباط والتماسك والانسجام والتركيز. ولكن ربما تكون هذه النظرة المبسّطة أحياناً مضللة، بحيث يضيع معها المعنى الحقيقي لعملية التنفيذ.
الأخطاء الشائعة أثناء اتباع طريقة تنفيذ الاستراتيجية
وفي كثير من الحالات، يؤدي هذا اللبس بمفهوم عملية التنفيذ إلى الوقوع في العديد من الأخطاء، منها:
الضياع في التفاصيل
عندما تبدأ في التنفيذ، تجد أنك وضعت الكثير من خطط العمل والجداول الزمنية (Gantt charts) في محاولة للوصول إلى الدقة والواقعية المطلوبة. لكن هذا التعقيد الزائد يؤدي إلى حدوث خلل في عملية التنفيذ لا يقل خطورة عن إغفال تحديد آليات العمل. وفي أسوأ الحالات، تكون النتيجة أن يصبح الانهماك في العمل هدفاً في حد ذاته أو عادة ثقافية متّبعة، وبذلك تدخل في متاهة من التفاصيل يضيع معها المقصد الاستراتيجي الأساسي. لذلك، يجب أن يركّز التنفيذ بشكل واضح على الجوانب الأكثر أهمية في التحديات التي تواجهها أو الجوانب المرتبطة بشكل وثيق بالإجراءات الهامة الأخرى. على سبيل المثال، إذا رأيت ضرورة توسيع شريحة معينة بهدف ترسيخ قيمة ما ضمن استراتيجيتك، فيجب أن تركّز الخطط التي تضعها بشكل أكبر على كيفية تحقيق ذلك، فمثلاً، في كتاب "استراتيجيتك تحتاج إلى استراتيجية" (Your Strategy Needs a Strategy) يقول بول ميشيلز، الرئيس السابق لشركة مارس (Mars): "بالنسبة لنا، كقادة في مجال الأعمال، تكمن أهمية الاستراتيجية في التركيز على تطوير شريحة معينة، وهذا ما عليك أن تبقيه نصب عينيك طوال الوقت".
اقرأ أيضاً: الاستراتيجية العظيمة تبدأ برئيس تنفيذي موجود في الخطوط الأمامية
الخطأ الأخر في
طريقة تنفيذ الاستراتيجية هو الهوس بأسلوب القياس
تقول الحكمة الإدارية الشائعة لدراكر: "ما يمكن قياسه، يمكن إدارته"، وغالباً ما يتم الاستناد إليها في تنفيذ الاستراتيجيات. وعندما نتحدث عن أهمية النتائج النهائية وضرورة قياسها، فإنّ هذه القاعدة حقيقة لا خلاف عليها. لكن أحياناً لا يمكن تحقيق الهدف من خلال السعي إليه بطريقة مباشرة. على سبيل المثال، لا يمكن اكتشاف أدوية جديدة من خلال تحديد عدد معين تهدف إلى الوصول إليه، بل يكون عن طريق استكشاف أفكار جديدة في مجال الكيمياء والبيولوجيا. ومن الخطأ كذلك الاكتفاء بإدارة الأشياء التي يسهل قياسها فقط. فمثلاً، لا يستطيع أحد إنكار أهمية الثقافة المؤسسية على الرغم من صعوبة إخضاعها للقياس.
النظرة القاصرة في التخطيط
يمكن أن يساعد التركيز على الالتزام بالخطة في تعجيل نجاح الاستراتيجية فقط في ظل الظروف المستقرة. أمّا عندما تكون الظروف متغيرة وغير مستقرة، كأن تكون الصناعة ناشئة أو متعثرة، فقد تصبح الخطة الثابتة حجر عثرة في طريق المرونة والتكيّف اللازمين لتحقيق النجاح. مثلاً، الاقتصادات التي كانت تخضع للتخطيط المركزي في ما مضى في بلدان الكتلة الشرقية، لم تترك مجالاً للتكيف مع أي تغيّر، حتى أبسط صور التغيّر مثل تغيّر الطلب، ما ترتب عليه، بطبيعة الحال، وجود نقص في بعض السلع وفائض في أخرى.
عدم اغتنام فرص التعلم
يساعد تنفيذ الاستراتيجية في حد ذاته بنجاح مهام محددة، وذلك في الحالات البسيطة فقط. أمّا عند وجود درجة عالية من اللبس ووجود أوضاع متغيرة، يصبح التعلم هو العنصر الأكثر أهمية لتحقيق النجاح. والتعلم المقصود هنا هو التعلم من عملية التنفيذ سواء كانت النتائج المباشرة ناجحة أم لا. ويعتبر موقع يوتيوب خير مثال على ذلك. كان الهدف الأساسي للموقع عند إنشائه هو التعارف عن طريق الفيديو في العام 2005. فشل الموقع بداية في جذب أعداد كبيرة من المشاركين، لذلك استفاد مؤسسو الموقع مما تعلموه من تجربة إنشاء الموقع الأصلي وقاموا بإصدار نسخة أخرى من الموقع تركّز على مشاركة مقاطع الفيديو عبر الإنترنت والذي حقق بعد ذلك نجاحاً كبيراً.
اقرأ أيضاً: الاستراتيجية الرقمية الجيدة تخلق سحباً جاذبياً
سيطرة الأهداف الوسيطة
يساعد تقسيم الأهداف والمهام على عدة مستويات متدرجة في توضيح الأدوار المنوطة بكل فرد أو قسم في المؤسسة، وبالتالي تسهيل عملية التنفيذ. لكن في كثير من الحالات تتحول الأهداف أو المهام الوسيطة إلى غايات نهائية في حد ذاتها. ومثال على ذلك العرض الشهير لشركة هوفر (Hoover) عندما عرضت تقديم تذاكر طيران مجانية لعملائها. وفي العام 1992، أرادت الشركة تفريغ مخازنها من السلع المكدسة فيها، فأعلن فريق الشركة في المملكة المتحدة عن تقديم تذاكر طيران مجانية لكل من يشتري سلع بأكثر من 100 جنيه إسترليني. وما لبث أن أعلن فريق الشركة في الولايات المتحدة عن نفس العرض إلى العملاء بهدف رفع المبيعات فيها. ولاقى العرض إقبالاً كبيراً وانهال العملاء على منتجات الشركة لدرجة أنّها لم تعد قادرة على توفير المكانس الكهربائية المطلوبة ولا دفع تكاليف تذاكر الطيران. وفي نهاية المطاف، وبعد أن تمت تسوية شكاوى العملاء في المحاكم، وصلت خسائر الشركة إلى 48 مليون جنيه إسترليني، وباعت الشركة فرعها في المملكة المتحدة بعد عدة أعوام.
الانشغال عن الكل بالجزء
غالباً ما يتم تقسيم الخطط الاستراتيجية إلى وحدات مختلفة يتم تنفيذها من خلال الأقسام المختلفة في المؤسسة. ومع ذلك، ليس بالضرورة أن يؤدي نجاح الأجزاء إلى نجاح الكل. ومن الأمثلة على ذلك في مجال البيولوجيا، كانت سياسة المنتزهات الوطنية في الولايات المتحدة تفرض مكافحة كافة الحرائق التي تندلع في الغابات. ولكن ترتب على ذلك زيادة معدلات الحرائق، والسبب هو أنّ معظم الحرائق التي تندلع من تلقاء نفسها تكون حرائق صغيرة، وتنطفئ دون تدخل من أحد وتصنع حاجزاً طبيعياً من خلال منع نمو الشجيرات الصغيرة التي تساعد على انتشار الحرائق بشكل أكبر. ولذلك تم تعديل السياسة في العام 1972، بحيث لا يتم التدخل إلا في حالة الحرائق التي يتسبب البشر في حدوثها. وكذلك هو الحال بالنسبة لمجال الأعمال. على سبيل المثال، تحاول تنفيذ مبادرة تهدف إلى تشجيع التنوع، وتتضمن هذه المبادرة وضع تدريب إجباري، فإذا أدى ذلك إلى وجود شعور بالرفض والشك لدى المتدربين، فلن يؤتي إلّا نتائج عكسية. أي تصرف من شأنه أن يؤدّي إلى تغيير المفاهيم والدوافع والأفعال، فهناك الكثير من التصرفات التي تراها مقبولة ولكنها يمكن أن تؤدي إلى عكس النتائج وعدم تحقيق الهدف المنشود. لذلك، في مثل هذه الحالات، ينبغي صياغة الاستراتيجية وعملية التنفيذ من منظور كلي.
التعامل مع عملية التنفيذ بشكل منفصل
نحن نتعامل غالباً مع طريقة تنفيذ الاستراتيجية باعتبارهما موضوعين منفصلين لكل منهما طابعه المستقل والثابت. لكن كما يوضح كتاب "استراتيجيتك تحتاج إلى استراتيجية" ( Your Strategy Needs a Strategy)، تفرض البيئات الاستراتيجية المختلفة اتباع منهجيات مختلفة لصياغة الاستراتيجية وعملية التنفيذ. فنجد أنّ الأعمال الخاصة بالتكنولوجيات الناشئة تحتاج إلى اتباع منهجية أكثر مرونة، أما الأعمال المستقرة الخاصة بالسلع الأساسية تحتاج إلى منهجية تقليدية مخططة بعناية في البيئات التقليدية والمستقرة، ويمكن فصل الاستراتيجية عن عملية التنفيذ. أما في البيئات المتغيرة، فلا يمكن القيام بذلك، حيث تتشكل "الاستراتيجية" بناء على نتائج التجارب الناجحة التي تم إجراؤها، أي نتائج عملية التنفيذ. ونجد كذلك أنّ طبيعة عملية التنفيذ تختلف اختلافاً شاسعاً بين الحالتين. فالحالة الأولى تعتمد على الالتزام بخطة محددة موضوعة مسبقاً، بينما تعتمد الحالة الثانية على تجارب ومبادرات غير مرتكزة على جانب محدد.
غلبة المنظور العملي
تبدو الخطة التنفيذية "العملية" (أي البسيطة والواقعية والمألوفة وغير المتغيرة) هي الأفضل للجميع، فالعملية التنفيذية هي عبارة عن تطبيق عملي في جميع الأحوال. لكن في حالة التعامل مع أوضاع جديدة أو متغيرة، يمكن أن تُخفق الإجراءات التقليدية بكل سهولة في تحقيق النتيجة المرجوة. على سبيل المثال، كانت شركة بولارويد (Polaroid) رائدة في مجال التصوير الرقمي، إلا أنها حاولت بيع كاميراتها الرقمية عبر اتباع المنهجية نفسها التي نجحت من خلالها في بيع كاميراتها الفيلمية التقليدية، مع رغبتها في تحقيق هوامش ربح عالية على مبيعات الأفلام الفورية. واعتقاداً منها بأنّ المستخدم سيرغب في الاحتفاظ بنسخة مطبوعة من الصور، أضافت الشركة تكنولوجيا رقمية جديدة إلى الكاميرات الفورية بدلاً من إنتاج كاميرات جديدة لا تحتاج إلى أفلام. وكما نعلم الآن، فشلت الشركة وخسرت أمام منافسيها. ويوضح ديكاميلو، الرئيس التنفيذي السابق لشركة بولارويد، الوضع الذي أدى إلى فشل الشركة بقوله: "إنّ السبب الذي جعلنا لم نتمكن من التراجع هو أنّ الأفلام الفورية كانت هي أساس النموذج المالي لهذه الشركة". وبوجه عام، غالباً ما تضع الشركات الكبيرة مجموعة حقائق خاصة بها يمكن أن تكون مريبة أو مشكوك في صحتها، وتركّز في دراستها للسوق على الجزء الذي لا يزال ينطبق عليه فلسفتها الخاصة. ويشكل هذا الوضع فرصة مزدوجة للمزعزعين، إحداها مادية والأخرى فكرية. وفي الواقع، يشير روّاد الأعمال والمزعزعون غالباً إلى هذا الجمود المزدوج باعتباره أعظم فرصهم لمواجهة المنافسين.
اقرأ أيضاً: الأنشطة الجانبية الاستراتيجية
علينا ألا ننخدع بانفصال الاستراتيجية عن عملية التنفيذ. قد يبدو ذلك بسيطاً ومطمئناً، إلا أنّ طريقة تنفيذ الاستراتيجية لا بدّ أن تكون على درجة عالية من التنوع والتبصر والدقة التي تضمن إنجاز العمل المطلوب وكذلك يجب أن تكون مترابطة ومتسقة مع الاستراتيجية نفسها بالشكل الذي يضمن تحقيق النجاح، وكل هذه الأمور تختلف بدورها وفقاً لكل تحد من التحديات التي يتم التعامل معها. باختصار، إن تنفيذ الاستراتيجية يحتاج إلى استراتيجية.
اقرأ أيضاً: استراتيجيتك للأجهزة المحمولة لا يجب أن تقتصر على الهواتف فحسب