وقفت مؤخراً أمام مجموعة من الأطباء المقيمين في غرفة الإسعاف التابعة لمستشفاي وطرحت عليهم سؤالاً غير مألوف: "هل سبق لأحدكم أن حاكم الطبيب المناوب واتهمه بالتقصير في بذل أقصى جهوده لإنقاذ حياة أحد مرضاه؟" ثم نظرت حولي في الغرفة، لكنني كما في كل مرة أطرح هذا السؤال لم ألقَ أي جواب.
لا يمكنني الادعاء بأنني تفاجأت. فلقد كنت أدير برنامجاً جديداً يستخدم تقنية سرد القصص لمساعدة الأطباء الشباب في أن يتأملوا في كيفية معالجتهم لمعاناتهم العاطفية والنفسية من جراء عملهم في العناية بالمرضى المتألمين. ولقد كنت أعرف من خلال تجربتي الخاصة أنّ تبادل الخبرات بصدق وصراحة حول هذه الأبعاد كان أمراً نادراً في ثقافة الأطباء، بل إنّ الثقافة السائدة كانت تدفع ضمنياً نحو عدم التحدث حول تلك المعاناة.
قلت: "حسناً، دعوني إذاً أخبركم عن الوقت الذي كنت أعمل فيه طبيبة مناوبة، ثم استجمعت قواي وبدأت أروي قصتي.
لقد كانت المريضة سيدة شابة، وكانت تتمتع بصحة جيدة حتى لحظة إصابتها بالسكتة القلبية. وبوصفي الطبيبة المناوبة المسؤولة عن غرفة العناية المشددة، كنت المسؤولة عن ملفها. وعلى الرغم من كل جهودنا ظل قلبها يخفق بشكل غير فعال لساعات طوال، تارة يعمل وتارة أخرى يتوقف، وبقي غير قادر على إيصال الدم إلى أعضائها التي بأمس الحاجة إلى ذلك الدم. ولم تفلح الجولات المتكررة من جرعات الأدرينالين والصدمات الكهربائية والضغطات اليدوية على صدر المريضة من قبل فريق مرهق من الأطباء المقيمين في استعادة انتظام نبضات قلبها. ونتيجة لذلك ازدادت حموضة دم المريضة وفشلت كليتاها وتعطل كبدها. والأمر الشديد الغرابة هو أنها بقيت يقظة بشكل متقطع طوال ذلك اليوم الأول، تأنّ من وقت لآخر. لم نفكر في حقنها بمسكن ألم، لأن أي مسكن أو مخدر من شأنه أن يخفض ضغط الدم أكثر. لقد بذلنا أقصى ما عندنا لساعات عدة، بيد أنّ حالتها كانت تتراجع باستمرار. ولقد كنت على قناعة بأننا قد وصلنا إلى نقطة اللاعودة.
يعمل الفريق الطبي بنفس طريقة عمل فريق إطفاء الحرائق. فقائد الفريق أو الطبيب المناوب هو المسؤول عن توجيه فريقه نحو مكان الحريق أو التشخيص السليم للقيام بما يلزم فعله. والجميع يتوقع منا نحن الأطباء أن نكون شجعاناً وواثقين من أنفسنا وفوق كل شيء ألا نستسلم أبداً، وبخاصة في الحالات الصعبة كما هي الحال إذا كان المريض في ريعان الشباب وبصحة جيدة قبل ظهور عوارض المرض عليه وكانت حالته تبدو قابلة للشفاء لحظة قبوله في المستشفى. وفي الحالات التي تتسبب فيها تدخلاتنا حسنة النية والخطرة في الوقت ذاته في دفع الأوضاع نحو الأسوأ، يغدو من المستحيل تقريباً الانسحاب والاستسلام. لقد كنت أعلم كم من الصعب على فريقي مجرد التفكير في أي شيء آخر سوى فعل كل شيء لإنقاذ حياة هذه المريضة. كما كنت أعلم أيضاً حجم المعارضة التي كنت سأواجهها لو أنني اقترحت تغيير الطريقة التي نعمل بها. فأنا أتذكر أنني كطبيبة مقيمة في المستشفى كنت أميل إلى تحويل إحباطي إلى مزيد من الصراع مع الطبيب المناوب، ولطالما حكمت عليه وعاتبته عندما كان يقترح تغيير طريقة العلاج حتى إنني شككت في قدراته كقائد. ولكن الآن حيث إنني أؤدي دور القائد وكلي قناعة بأنّ المريضة لا يمكن إنقاذها، حان الوقت لإعادة النظر في طريقتنا القائمة على تجريب كل شيء لإنقاذها بغض النظر عن جدوى ذلك.
عندما مرت إحدى الممرضات من أمامي لتجهيز حقنة أخرى من الإيبينفرين، تنفست الصعداء وقلت: "لقد حان الوقت للتوقف. أرغب في البدء بإعطاء مسكنات الألم وعدم اللجوء إلى الضغطات اليدوية على الصدر عندما يتوقف قلبها ثانية".
لقد كان مجرد نطق هذه الكلمات صعباً جداً. فما بالكم مع تحديق الفريق في وجهي والدهشة تتملكه!
قال أحد الأطباء المقيمين مندهشاً من طرحي: "إنها لم تتجاوز الخمسين من العمر وأظن أنها تستحق العيش لمدة أطول"، فيما أطلقت طبيبة مقيمة أخرى زفرة أليمة ومرت مسرعة من أمامي موصدة الباب خلفها بقوة. شعرت بقلبي يهبط بين ضلوعي. لقد كانت هنالك انتفاضة عارمة في طور التشكل. وفي غضون ثوان بدأت أشكك في نفسي. لقد كنت أسمع أصوات زملائي ومن سمعوا بالأمر من الآخرين وهم يوجهون لي الأسئلة – في حين تساءل الكثيرون خلف ظهري – لماذا لم أجرب هذه التقنية أو ذلك التدخل؟ وكلها كانت خيارات غير قادرة على إنقاذ المريضة بأي حال من الأحوال. ربما يوافقني زملائي الرأي بأنّ تلك الإجراءات ما كنت لتجلب أي نتيجة، بيد أنّ القيام بها كان يعني القتال حتى النهاية، وهو التصرف المتوقع من الأبطال الحقيقيين.
وبالمحصلة لم أستطع الصمود والاستجابة لصوتي الداخلي، بل استسلمت لضغط زملائي وتابعنا في تجريب كل شيء.
لم تجر الأمور على ما يرام وماتت المريضة ميتة فظيعة. بقيت تتألم أكثر مما توقعت، فلقد بقيت على قيد الحياة 24 ساعة أخرى. ولقد ساهمت تلك الحقيقة في تفاقم تدهور ثقة فريقي بي: إذ أخطأت توقع لحظة الموت وبلغ الخطأ يوماً كاملاً.
بيد أنّ الحقيقة هي أنّ هذه السيدة قد تألمت أكثر من اللازم، وكل ذلك تحت نظري. فبسبب تخوفنا من ارتفاع ضغط دمها لم نعر اهتمامنا لألمها وقلقها سوى بالحد الأدنى. إنني أتذكر سلوكنا في ذلك اليوم بوصفه خطئي أنا، لأنني استسلمت لثقافة فُرضت عليّ وتشبعت بها، وهي ثقافة مبنية على ضرورة فعل كل شيء بدلاً من القيام بما هو مجد حقاً.
ولهذا السبب وجدت نفسي بعد سنوات أقف أمام هذه المجموعة من الناس وأحكي لهم قصتي. وكثيراً ما تدفعنا ثقافتنا الطبية الراهنة إلى الوقوع في هذه الضائقة الأخلاقية التي عانيت منها في ذلك اليوم. لا يقتصر الأمر على مشاهدة ذلك الحجم الهائل من الألم الشديد، بل يتعداه إلى الشعور بعدم القدرة على التشكيك بطرق العلاج والوصفات السائدة أو الابتعاد عنها قيد أنملة، مع أنها قد تتسبب للمريض بالمعاناة والألم أكثر مما تجلب له فائدة. ولا شك في أنّ ذلك يسهم بدوره في ارتفاع مستويات الاكتئاب والانتحار بين الأطباء.
القصص الشافية
تتمثل إحدى طرق معالجة هذه الصدمة التي تحدث للأطباء في سرد القصص الممتلئة بالتجارب عليهم، وهي المقاربة التي تشكل جوهر برنامجي التجريبي الرائد. ومنذ انطلاق "حركة سرد القصص في الطب" من المدرسة الطبية في كولومبيا عام 1990، نجحتُ في إدخال تقنية سرد القصص إلى العديد من المدارس وبرامج التدريب الطبية. وأظهرت البيانات أنّ استخدام القصص في معالجة الأوضاع الصعبة التي يمر بها الأطباء في عملهم من شأنه أن يزيد من إحساسهم بالتعاطف ويحسّن حالتهم النفسية ومن مرونتهم ويشجع على تشكل ثقافة تتسم بقدر أكبر من الإنسانية لديهم. ومن خلال توفير حيز آمن ومناسب للأطباء لكي يسردوا قصصهم ويصغوا إلى قصص الآخرين حول آلامهم وصراعاتهم، يمكنهم استعادة قواهم والاستعداد بشكل أفضل للتحدي التالي.
وعلى هذا المنوال، وانطلاقاً من خبراتي الخاصة أدعو في هذا البرنامج الأطباء الآخرين إلى تأمل هذه الثقافة المبنية على العلاج مهما كلف الأمر والتي تربينا عليها نحن معشر الأطباء وإلى إعادة النظر فيها. فباستخدام قصصي الخاصة ومجموعة أفلام وثائقية منشورة على شبكة نتفليكس من وحدة العناية المشددة في مستشفانا، تهدف هذه التجربة المعتمدة على وسائط الإعلام المتعددة إلى استكشاف بعض المشاعر والمخاوف التي تمنعنا من القيام بما هو الأفضل بالنسبة لمرضانا.
في ذلك اليوم، وبعد أن سردت قصتي أمام الأطباء المقيمين في غرفة الإسعاف، انتظرت لحظات صمت مزعجة. وتخيلت ما يجول في أذهانهم من محاكمات. فحتى بعد كل هذه السنين من الكتابة والتحدث حول هذا الموضوع، شعرت بنفس تلك السلسلة من مشاعر القلق المعتادة. هل كانوا يحاكمونني؟
وأخيراً بدأ أحد الأطباء المقيمين بالحديث وقال بتردد شديد وكأنه خائف من أن يرتد قوله عليه ويؤلمه: "أذكر مرة كنا فيها ننعش مريضاً. وقد استمرت عملية الإنعاش لخمسين دقيقة وبعد ذلك قرر الطبيب المناوب إيقافها. وفي البدء شعرنا جميعاً بالارتياح، لكن أحدنا عبر عن عدم اطمئنانه للتوقف في تلك اللحظة. ولذلك استأنفنا عملية الإنعاش لمدة عشرين دقيقة أخرى ومن ثم مات المريض في النهاية. ولكن ساد الغرفة شعور محرج وكأن الطبيب المناوب هو الشخص المقصر. لقد شعرت بالأسف عليه لأنني أعتقد أنه كان محرجاً من أنه أول من استسلم".
تلا ذلك بعض الإيماءات المؤيدة. ورفع طبيب مناوب آخر يده قائلاً: "أذكر مرة عندما أدخل أحد المرضى إلى غرفة الإسعاف بعد حادث مروري خطير وبقينا ننعشه لساعات. قمنا بكل ما يخطر في البال من إجراءات وكان على وشك أن يموت عندما اقترح أحدنا أن نفتح صدره لنرى ما إذا كان هنالك شيء يمكننا فعله لاستعادة خفقان قلبه، مثل إزالة بعض السوائل أو ما شابه ذلك. لقد كان الاقتراح جنونياً، حتى إنّ البعض عبّر عن استغرابه ببعض الابتسامات، ولم يكن أحد مقتنعاً حقاً بأنّ ذلك سيفيد في شيء، وحتى لو نجح الأمر واستعدنا خفقان القلب، فإنّ أعضاءه وأجهزته قد ماتت عملياً. رفض الطبيب المناوب ذلك المقترح. وأذكر أنني غضبت منه حتى كدت أكرهه لأنني اعتقدت أنه قد استسلم ولم يقم بكل ما يمكن لإنقاذ المريض".
نظرت حولي في الغرفة. لقد بدت الدهشة على محيا الطبيبَين المقيمَين اللذين سردا قصتهما، حتى إنهما شعرا بالخجل. لكن الأطباء الآخرين بدوا مرتاحين. ومن ثم بدأ حوار حقيقي وصريح حول السقطات العاطفية والتحديات النفسية التي يتعرض لها العاملون في هذه المهنة. ومرة أخرى شهدت كيف أن عقلية النضال حتى آخر رمق تؤثر فينا جميعاً، مرضى ومزودي خدمات طبية ومدربين ومتدربين.
من الضروري توفير أماكن آمنة وهادئة يلجأ إليها العاملون في حقل الرعاية الصحية لكي يتأملوا في معاناتهم الخاصة ويعالجوها. فحينئذ سنكون على أهبة الاستعداد لإنجاز المهمات الصعبة واتخاذ القرارات المصيرية الموجهة لمصلحة المريض في اللحظات الحاسمة، إلى جانب سرير المريض المحتضر.