إن سيكولوجيا التحفيز معقّدة للغاية، وما كُشف عنه في هذا المجال ضَئيل جداً بصرف النظر عن نسبة صحّته. ومع ذلك فإن هذه النّسبة البائسة من المعرفة والتّخمين لم تثبط العزيمة لظهور أشكال جديدة من الدراسات المزيفة، والتي تظهر بشكل متكرر في العمل، بل وإن الكثير منها مرفقُ بشهادات أكاديمية. لا شك أن هذه المقالة لن تؤدي إلى تراجع سوق الدراسات المزيفة، ولكن بما أن الأفكار الواردة هنا قد اختبُرت في العديد من الشركات والمؤسسات، فآمل أن تساعد على معالجة الخلل الموجود في النسبة المذكورة أعلاه.
"التحفيز" باستخدام نظرية كيتا
في تلك المحاضرات التي كانت تتعلق بشرح مسألة التحفيز، كنت أجد الحضور متلهفين عادةً للحصول على إجابات سريعة وعملية، لذلك سأبدأ بالصيغة المباشرة والعملية التي تحفّز الناس.
دعونا نستهل بهذا السؤال: "ما هي أبسط الطرق المباشرة المؤكدة لحمل شخص على فعل شيء ما؟" هل تطلب من الشخص بشكل مباشر؟ جيد، ولكن إذا كان ردّ هذا الشخص هو أنه لا يريد القيام بذلك، فهذا يستدعي إجراء استشارة نفسية لتحديد سبب هذا العناد. إذاً ماذا عن إخبار الشخص؟ حسناً، إذا أظهر الرد أن هذا الشخص لا يفهمك، سيتحتم عليك حينها استشارة خبير في أساليب التواصل ليوضح لك كيفية اجتياز هذا الحاجز. ماذا عن إعطاء الشخص حافزاً نقدياً؟ محاولة جيدة، ولكنني لست بصدد تذكيرك هنا بالصعوبة والتعقيد الذي ينطوي عليه إنشاء نظام الحوافز النقدي وإدارته. هل تريه كيفية القيام بالعمل؟ ولكن هذا يعني ضرورة وجود برنامج تدريب مُكلف، بينما نحن هنا بحاجة إلى طريقة بسيطة.
هناك طريقة أخرى يتبعها ذلك النوع من المدراء الذي ستجده في كل مجموعة، إذ يُعرف بأفعاله المباشرة والتلقائية، ويصرخ قائلاً: "اركل هذا الشخص". وفي الحقيقة طريقة هذا النوع من المدراء صحيحة، وذلك لأن أضمن الطرق وأقلها مماطلة لحمل الشخص على فعل شيء ما هي إصدار الأمر بركله. ومن هنا ظهرت النظرية التي يطلق عليها كيتا (KITA)، وهي اختصار لعبارة باللغة الإنجليزية تعني "اركل هذا الشخص". هنالك أشكال مختلفة من أسلوب الكيتا للتحفيز، ويتنوع تأثيرها بين السلبي والإيجابي، وإليك بعضها:
الكيتا الجسدية السلبية
هذه الطريقة هي التطبيق الحرفي لهذا المصطلح، والتي كانت تُستخدم بشكل متكرر في الماضي. لكنها تحمل ثلاثة عيوب رئيسة: أولاً إنها غير لائقة؛ وثانياً إنها تتناقض مع الصورة القيّمة للنزعة إلى الخير والتي تعتز بها معظم المؤسسات؛ وأخيراً نظراً لأنها عبارة عن هجوم جسدي، فإنها تحفز الجهاز العصبي اللاإرادي بشكل مباشر، مما يؤدي غالباً إلى ردود فعل سلبية، إذ قد يركلك الموظف بدوره. ونتيجة لهذه العيوب، ظهرت القيود ضد استخدام الكيتا الجسدية السلبية.
وعندما كشفت مصادر لا حصر لها عن نقاط الضعف النفسية، والأساليب المناسبة لكيفية التحايل على نقاط الضعف تلك، كان علماء النفس بمثابة المنقذين لأولئك الذين لم يعد مسموحاً لهم باستخدام تقنية كيتا الجسدية السلبية. إن تعبيرات من قبيل "سحَب البساط من تحت قدميّ"، "أتساءل عن مراده من وراء ذلك"، "المدير يطوف حولي بشكل دائم"، تدل على أعراض ألم في الأنا الشخصية تم استنفارها حديثاً نتيجة لتطبيق أسلوب الكيتا النفسية السلبية.
الكيتا النفسية السلبية
رغم أن كليهما سلبي، إلا أن هذا الأسلوب يتسم بالعديد من المزايا التي يتفوق بها على الكيتا الجسدية السلبية. أولاً؛ القسوة هنا غير مرئية، إذ يكون النزيف داخلياً. ثانياً؛ يمتلك هذا الأسلوب النفسي قدرة مثبطة تؤثر على المراكز القشرية في الدماغ، لذلك يقلل من احتمال حدوث ردة فعل جسدية. ثالثاً؛ نظراً لأن عدد الآلام النفسية التي يمكن أن يشعر بها الشخص لا نهائي تقريباً، فإن توجّه الكيتا هنا وظروف تطبيقها يتضاعف. رابعاً؛ يمكن للشخص الذي أصدر الأمر بـ"الركلة" أن يتملص من مسؤوليتها ليترك النظام يتحمل مسؤولية هذا العمل الدنيء. خامساً؛ أولئك الذين يمارسونها يكتسبون بعضاً من إشباع الذات في حين إنهم يجدون عملية الركل الجسدي بغيضة. وأخيراً، إذا تذمر الموظف بالفعل، فيمكن اتهامه دوماً بأنه مصاب بهذيان الارتياب، فلا وجود لدليل ملموس على هجوم فعلي.
والآن، ما الذي تعتقد أن الكيتا السلبية قد تحققه؟ فإذا ركلتك من الخلف (جسدياً أو نفسياً)، فمن الذي يتم تحفيزه.. أنا أم أنت؟ بالتأكيد أنا المتحفز؛ وإنما أنت من سيتحرك! إذاً الكيتا السلبية لا تقود إلى التحفيز بل إلى الحركة، وهناك فرق كبير بينهما.
الكيتا الإيجابية
إذا قلت لك "افعل ذلك من أجلي أو من أجل الشركة، وسأمنحك في المقابل مكافأة، ومبلغاً مالياً، ومكانة أفضل، وترقية، وجميع التعويضات الموجودة في هذه الشركة"، هل أنا هنا أقوم بتحفيزك؟ الرأي السائد الذي أتلقاه من الأشخاص في المراكز الإدارية هو "نعم، هذا حافز".
ولكي أوضح لك الفرق بين الحركة والتحفيز، إليك هذا المثال: لدي كلب من نوع "شناوزر" يبلغ سنة من العمر. عندما كان جرواً صغيراً وأردته أن يتحرك، كنت أركله من الخلف ثم يتحرك. الآن وقد انتهيت من تدريبه على إطاعة الأوامر، عندما أريده أن يتحرك، أحمل قطعة بسكويت. في هذا المثال، من المتحفز أنا أم الكلب؟ فالكلب يريد البسكويت، ولكن أنا من يريده أن يتحرك. مرة أخرى هنا، أنا هو المتحفز، والكلب هو المتحرك. جلّ ما فعلته في هذا المثال هو تطبيق الكيتا بشكل مباشر، إذ مارست السحب بدلاً من الدفع. وإذا رغبت الشركات في استغلال هذه الأنواع من الكيتا الإيجابية، فستجد لديها مجموعة متنوعة من البسكويت، لتلوح بها أمام الموظفين لحملهم على القفز.
خرافات التحفيز
والآن هل تعتقد أن الكيتا محفزاً؟ الإجابة، لا. لأنه ببساطة إذا ركلت كلبي (من الأمام أو من الخلف) سيتحرك. وإن أردته أن يتحرك مرة أخرى ماذا عليّ أن أفعل؟ سيتوجب عليّ ركله مجدداً. وبالمثل، يمكنني شحن بطارية شخص ما، ثم إعادة شحنها، وإعادة شحنها مرة أخرى، وهكذا. هذا ليس تحفيزاً، وإنما سيصح التحدث عن التحفيز، إذا كان لدى المرء مولّد كهربائي خاص. وبعد ذلك لن يحتاج إلى التحفيز الخارجي، فسيرغب الشخص بفعل الشيء بنفسه.
ممارسات الكيتا الإيجابية
مع أخذ كل ذلك بالاعتبار، يمكننا مراجعة بعض ممارسات الموظفين للكيتا الإيجابية، والتي تم تطويرها كمحاولة لغرس "الحافز":
1. تقليص أوقات العمل
يمثل هذا العامل طريقة رائعة لتحفيز الموظفين على العمل- بإبعادهم عنه!، ربما يبدو هذا العامل غريباً عند قراءته، ولكنك تعرف أنه عملياً ناجح. وخلال الخمسين أو الستين عاماً الماضية، قلّصنا (بشكل رسمي وغير رسمي) الوقت الذي نقضيه في العمل، لنكاد نصل أخيراً إلى "عطلة مدتها ستة أيام ونصف في الشهر". وقد ظهر البديل المثير للاهتمام لهذا النهج؛ وهو تطوير برامج الترفيه خارج ساعات العمل. ويبدو أن الفلسفة وراء هذا الأسلوب هو أن أولئك الذين يلعبون معاً، يعملون معاً. فالحقيقة هي، على عكس هذا المعتقد، أن الأشخاص الذين تم تحفيزهم يرغبون بساعات عمل أكثر لا أقل.
2. زيادة الأجور
هل ساعد هذا العامل على تحفيز الناس؟ نعم، إذ يسعون للوصول للزيادة التالية للأجر. ما زال بإمكاننا سماع بعض أخصائيي العصور الوسطى يقولون إن الإحباط سيحث الموظفين على التحرك، فهم يعتقدون أنه إذا لم تستطع زيادة الأجور إنجاز المهمة، فتخفيضها كفيل بذلك.
هل حفّزَت زيادة الأجور الناس؟ نعم، وذلك بالسعي للزيادة التالية للأجر.
3. المزايا الإضافية
تفوقت الشركات الصناعية على أكثر الدول رفاهية في إدارتها المعونات المخصصة من المهد إلى اللحد. كان لدى إحدى الشركات التي أعرفها نادٍ غير رسمي "لمزايا الشهر الإضافية" لفترة من الزمن. بلغت تكلفة المزايا الإضافية في هذه الدولة ما يقارب 25% من سعر الأجور، ولا زلنا ننتحب من أجل التحفيز.
بات الأشخاص يقضون ساعات أقل في العمل مقابل مزيد من المال والأمان أكثر من أي وقت مضى، ولا يمكن بعد الآن عكس هذا التوجه. فلم تعد هذه الفوائد مجرد مكافآت؛ بل أصبحت حقوقاً. فبات العمل لمدة 6 أيام في الأسبوع غير إنساني، والعمل لمدة 10 ساعات في اليوم يُعد استغلالاً، والضمان الطبي طويل الأمد يعد من الأساسيات البديهية، وخيارات المخزون المالي هي الخلاص بالنسبة للتقدم الأميركي. ما لم يتم رفع التحدي بشكل مستمر، فإن رد الفعل النفسي للموظفين سيكون أن عقارب ساعة الشركة تعود إلى الخلف.
عندما بدأت الصناعات تدرك أن كلاً من العصب الاقتصادي وعصب الخمول لموظفيها يتصفان بشهية لا تشبع، بدأت بالاستماع إلى علماء السلوك الذين انتقدوا الإدارة بدافع إنساني أكثر منه بدافع الدراسة العلمية، وذلك لقلة معرفتها بالتعامل مع الناس.
4. تدريب العلاقات الإنسانية
لأكثر من 30 عاماً من التدريس وممارسة الأساليب النفسية للتعامل مع الأشخاص، والتي نتج عنها برامج علاقات إنسانية كانت كلفتها عالية، مازلنا في النهاية أمام السؤال ذاته: كيف تحفز العمال؟ هنا أيضاً وُجدت التصعيدات. فمنذ 30 عاماً، كان من المنطقي حينما تريد منع أحدهم من البصق على الأرض أن تقول: "من فضلك لا تبصق على الأرض". أما اليوم إذا أردت صياغة الطلب ذاته، سيتعيّن عليك قول "من فضلك" ثلاث مرات قبل أن يشعر الموظف بأن المشرف أظهر الموقف النفسي المناسب.
أدى الفشل في التدريب على العلاقات الإنسانية من أجل إنتاج التحفيز إلى استنتاج مفاده أن المشرفين أو المدراء لم يكونوا صادقين مع أنفسهم من الناحية النفسية في ممارستهم للأخلاق الشخصية. وهنا تكشّف الغطاء عن نوع كيتا متقدم للعلاقات الإنسانية وهو التدريب على الإحساس بالآخرين.
5. التدريب على الإحساس بالآخرين
هل حقاً تفهم نفسك؟ هل حقاً تثق بالآخرين؟ هل حقاً تتعاون معهم؟ يتم الآن وصف الفشل في التدريب على الإحساس بالآخرين من قبل أولئك الذين أصبحوا مستغلين وانتهازيين لهذه التقنية على أنه فشل حقاً في إجراء دورات مناسبة للتدريب على الإحساس بالآخرين.
وبإدراك أن هناك مكاسب مؤقتة فقط في تطبيق كيتا شخصية واقتصادية ومريحة، خلص مدراء الموظفين إلى أن الخطأ لا يكمن فيما كانوا يقومون به، ولكن في فشل الموظف في تقدير ما يقومون به. وهذا ما فتح المجال لدخول الاتصالات كمجال كيتا جديد تمت المصادقة عليه علمياً.
6. الاتصالات
دُعي أستاذ اتصالات للانضمام إلى كلية برامج التدريب الإداري، وإلى المساعدة في تسهيل فهم الموظفين لما تقوم به الإدارة من أجلهم. فأقيمت الندوات وجلسات الإحاطة، والتعليمات الإشرافية حول أهمية الاتصالات. كما ظهرت جميع أشكال نشر المعلومات إلى يومنا، ناهيك عن وجود مجلس دولي حتى للمحررين الصناعيين. لكن كل ذلك لم ينتج أي تحفيز، والفكرة الواضحة كانت أن الإدارة ربما لم تكن تستمع لما يقوله الموظفون، وهذا ما قاد إلى أسلوب الاتصالات المتبادلة.
7. الاتصالات المتبادلة
أمرت الإدارة بإجراء دراسات استقصائية حول الروح المعنوية والخطط المقترحة وبرامج المشاركة الجماعية. ومن ثم يبقى كل من الإداريين والموظفين على تواصل، ويصغون لبعضهم البعض أكثر من أي وقت مضى، ولكن كان ذلك دون تحسن ملحوظ في الحافز.
ودفع ذلك علماء السلوك إلى إلقاء نظرة جديدة على مفاهيمهم وبياناتهم، وانتقلوا بالعلاقات الإنسانية خطوة جديدة إلى الأمام. فبدأ ظهور بصيص من الحقيقة في كتابات من يزعمون بأنهم علماء الاحتياجات العليا. فالناس، كما عبروا، يريدون إثبات وجودهم. ولكن لسوء الحظ، اختلطت تصورات علماء "إثبات الذات" مع علماء العلاقات الإنسانية، مما ساعد في ظهور كيتا جديدة.
8. المشاركة الوظيفية
على الرغم من أن المشاركة الوظيفية قد لا تكون الهدف النظري إلا أنها باتت غالباً تحمل مفهوم "أخبرهم بالهدف الأسمى". على سبيل المثال، إذا كان رجل يصل 10,000 صامولة في اليوم على شكل خط مائل باستخدام المفكات، فأخبره أنه يصنع سيارة "شيفروليه". وهناك مفهوم آخر يهدف إلى الإيحاء للموظفين "بالشعور" بأنهم مواظبون، إلى حد ما، بما يقومون به في الوظيفة. فقد كان الهدف منحهم شعوراً بالإنجاز أكثر من الإنجاز الحقيقي ذاته في مهمة ما. يتطلب الإنجاز الحقيقي بالطبع مهمة تجعل من ذلك ممكناً.
ولكن مع ذلك، لا نزال نفتقر إلى الحافز هنا. وهذا ما قادنا إلى استنتاج لا مفر منه وهو؛ لابد أن يكون الموظفون مرضى نفسيين، وبذلك ننتقل إلى أسلوب الاستشارة النفسية.
9. الاستشارة النفسية للموظفين
قد يرجع الفضل في الاستخدام الأولي لهذا الشكل من الكيتا بطريقة منهجية إلى تجربة (هوثورن) في شركة "ويسترن إلكتريك كومباني" في أوائل الثلاثينيات. إذ اكتشف في ذلك الوقت أن الموظفين يكتمون مشاعر غير عقلانية تتعارض مع العمليات المنطقية في ذلك المصنع. فكانت الاستشارة النفسية في هذه الحالة وسيلة لحث الموظفين كي يزيحوا همومهم بالتحدث لشخص ما عن مشاكلهم. وعلى الرغم من أن تقنيات الاستشارة كانت بدائية، إلا أن ذلك البرنامج كان كبيراً بالفعل.
وقد تدهور نهج الاستشارة هذا نتيجة لأحداث الحرب العالمية الثانية. ففي حين كان تأسيس هذه البرامج من أجل التدخل في عمليات الشركات، نسى المستشارون دورهم الرئيسي كمستمعين جيدين ليحاولوا بدلاً من ذلك فعل شيء ما حيال المشاكل التي سمعوا عنها. ولكن الاستشارة النفسية نجحت في التغلب على الآثار السلبية لتجارب الحرب العالمية الثانية، لتبدأ الازدهار والتطور المتجدد في يومنا هذا. لكن للأسف لا يبدو أن العديد من هذه البرامج، ومثيلاتها من البرامج الأخرى، قد قللت من ضغط المطالب في إيجاد الحافز للعمال.
ونظراً لأن نتائج الكيتا تؤدي إلى حركة قصيرة الأجل، فمن الآمن التنبؤ بأن تكلفة هذه البرامج ستزداد باضطراد، وسيتم تطوير أنواع جديدة عندما تصل أنواع الكيتا الإيجابية إلى نقطة الإشباع.
المثبطات مقابل المحفزات
والآن دعونا نعيد صياغة السؤال الأزلي بهذه الطريقة: "كيف نقوم بتركيب مولّد كهربائي داخل الموظف؟"، أي كيف تجعل الموظف محفزاً من الداخل؟، وقبل تقديم الاقتراحات النظرية والعملية لهذا السؤال، من الضروري القيام بمراجعة موجزة لنظريتي عن العامل الثنائي للحافز": "المحفزات-المثبطات في المواقف الوظيفية"، استخلصت هذه النظرية بالشكل الأولي من خلال فحص بعض الأحداث في حياة مجموعة المهندسين والمحاسبين، والذين سُئلوا عن الأحداث الوظيفية التي جرت في عملهم وأدت إلى رضا شديد أو استياء شديد من جانبهم. ومنذ ذلك الحين، قام الباحثون بما لا يقل عن 16 استقصاء آخر على مجموعات واسعة من البشر (بما في ذلك الدول الشيوعية)، مما يجعل من البحث الأصلي أحد أكثر الدراسات التي استنسخت في مجال المواقف الوظيفية.
وتشير نتائج هذه الدراسة، وبجانب التأييد من الاستقصاءات الأخرى التي تستخدم إجراءات مختلفة، إلى أن العوامل المرتبطة بتحفيز الأشخاص وشعورهم بالرضا الوظيفي منفصلة ومختلفة تماماً عن العوامل التي تؤدي إلى الاستياء الوظيفي. (راجع الشكل 1، الذي يتم شرحه لاحقاً بمزيد من التفصيل). ونظراً لوجود عوامل منفصلة تؤثر في كل منهما على حدة، فذلك يعني بأن شعوري الرضا الوظيفي والاستياء الوظيفي لا يمثلان نقيضاً لبعضهما. فمن الممكن أن تشعر بالرضا الوظيفي بسبب عوامل معينة، وفي الوقت ذاته تسبب لك عوامل أخرى استياءً وظيفياً. إذاً نقيض الرضا الوظيفي ليس الاستياء الوظيفي، بل هو عدم وجود الرضا الوظيفي. وبالمثل، فإن نقيض الاستياء الوظيفي ليس الرضا الوظيفي، بل عدم وجود الاستياء الوظيفي.
بالتأكيد أثناء قراءتك لهذه الفقرة، أدركت أن طرح هذا المفهوم يمثل مشكلة في الدلالات اللفظية، لأننا عادة نعتقد بأن الرضا الوظيفي والاستياء طرفا نقيض، أي أن ما لا يحقق الرضا يتحتم عليه أن يحقق الاستياء، والعكس صحيح. ولكن عندما يتعلق الأمر بفهم سلوك الأشخاص أثناء عملهم، فهناك أكثر من مجرد اللعب على الكلمات، فمثلما أوضحنا أن العوامل التي تؤثر على الطرفين مختلفة.
ويمكننا فهم الأمر بالتفرقة بين نوعين من الاحتياجات البشرية. إذ تنبع إحداهما من الطبيعة الحيوانية للجنس البشري- أي الحافز الكامن داخلنا لتجنب الألم الناجم عن البيئة المحيطة، بالإضافة إلى جميع الدوافع المكتسبة والتي أصبحت مشروطة بالاحتياجات البيولوجية للإنسان. فالجوع على سبيل المثال؛ هو محفز بيولوجي أساسي، يجعل المال ضرورياً، ومن ثم يصبح المال هو الآخر محفزاً أساسياً. أما المجموعة الأخرى من الاحتياجات فتتعلق بالسمات الإنسانية الفريدة، مثل القدرة على الإنجاز، وبالتالي تجربة النمو النفسي.
وفي المجموعة الأولى من الاحتياجات، هناك عوامل تحثك على تجنب الألم في بيئة العمل، وهي "المثبطات"، مثل الأجور وسياسة الشركة والعلاقات مع المدراء والزملاء، أما المحفزات في المجموعة الأخيرة هي المهام التي تحث الإنسان على النمو؛ وتسمى في بيئة العمل محتويات الوظيفة، وهي "المحفزات"، مثل الإنجاز في العمل.
وهنا تفرق النظرية بين نوعين من العوامل، أولاً عوامل النمو أو الحوافز التي تعد جوهرية في الوظيفة وهي: الإنجاز، وتقدير الإنجاز، والعمل بحد ذاته، والمسؤولية، والنمو أو التقدم. ثانياً عوامل تجنب الاستياء أو الكيتا المثبطة وهي عوامل خارج محتوى العمل ذاته وتتضمن: سياسة الشركة وإدارتها، والإشراف، والعلاقات ما بين الأشخاص، وظروف العمل، والأجور، والمكانة، والأمن.
يظهر في الشكل رقم (1) مجموعة من العوامل المركّبة التي ذكرها المشاركون في الدراسة، كأسباب في شعورهم بالرضا الوظيفي، وكذلك بالاستياء الوظيفي، وهي مأخوذة من عينات 1685 موظفاً. وتشير النتائج إلى أن الحوافز كانت السبب الرئيسي في الرضا، بينما كانت العوامل المثبطة السبب الرئيسي في الاستياء أثناء العمل. واشتمل الموظفون الذين تمت دراستهم عبر 12 استقصاء مختلف، على مشرفين من المستوى الأولي، ونساء مهنيات، ومسؤولين زراعيين، ورجال على وشك التقاعد من مناصب إدارية، وطاقم صيانة المستشفيات، ومشرفي التصنيع، وممرضات، وأصحاب الخدمات الغذائية، وضباط عسكريين، ومهندسين، وعلماء، وأرباب منازل، ومدرسين، وتقنيين، ونساء في مهن التركيب، ومحاسبين، ورؤساء عمال فنلنديين، ومهندسين هنغاريين.
نقيض الرضا الوظيفي ليس الاستياء الوظيفي، بل الافتقار إلى الرضا الوظيفي.
وقد سُئل هؤلاء المشاركون عن الأحداث الوظيفية التي جرت في عملهم وأدت إلى رضا شديد أو استياء شديد من جانبهم. وستجد في الصورة ردودهم مقسمة إلى نسب مئوية من الأحداث الوظيفية "الإيجابية" والأحداث الوظيفية "السلبية".
وتشير النتائج إلى أن عوامل المحفزات كانت السبب الرئيسي في الرضا، والعوامل المثبطة كانت السبب الرئيسي في الاستياء أثناء العمل.
(يصل مجموع الأرقام إلى أكثر من 100% على كلا الطرفين من "الإثباط" و"التحفيز" أحياناً بسبب اشتراك عاملين على الأقل في حدث واحد، كالتقدم على سبيل المثال، يرافقه غالباً الافتراض بتحمل المسؤولية).
لتوضيح ذلك، كان الرد النموذجي الذي يتعلق بإنجاز كان له أثر سلبي على الموظف هو "لم أكن سعيداً لأنني لم أنجز العمل بنجاح". والرد النموذجي لعدد قليل من الأحداث الوظيفية الإيجابية في سياسة شركة ومجموعاتها الإدارية كان "كنت سعيداً لأن الشركة أعادت تنظيم القسم بحيث لم أعد أرفع التقارير إلى شخص لم أكن على وفاق معه".
كما يُظهر الجزء السفلي الأيمن من العرض، من بين جميع العوامل التي ساهمت في الرضا الوظيفي، كان 81% منها تحفيزاً. ومن بين جميع العوامل التي ساهمت في عدم رضا الموظفين عن عملهم، كان 69% منها متعلقاً بعناصر تثبيط.
الثلاثي الأزلي
والآن وقد تعرفنا إلى النظرية، لابد أن تدرك أن هناك ثلاث فلسفات عامة لإدارة شؤون الموظفين. ترتكز الأولى على النظرية التنظيمية، والثانية على الهندسة الصناعية، والثالثة على العلم السلوكي.
يعتقد علماء النظريات التنظيمية أن الاحتياجات البشرية إما غير عقلانية، أو متغيرة وقابلة للتكيف مع مواقف محددة بحيث تكون الوظيفة الرئيسية لإدارة الموظفين عملية بقدر ما يتطلب الموقف ذلك. إذ يفترضون أنه إذا نُظمت الوظائف بطريقة مناسبة، فإن النتيجة ستكون بناء الهيكل الوظيفي الأكثر كفاءة، وتتبعه سلسلة من ردود الفعل الملائمة في العمل بطبيعة الحال.
أما في الفلسفة الثانية لإدارة شؤون الموظفين، فيعتقد المهندسون الصناعيون أن الطبيعة البشرية موجهة ميكانيكياً، ومحفزة اقتصادياً، وأن أفضل تلبية للاحتياجات البشرية ستكون عن طريق التوفيق بين الفرد وأكثر العمليات كفاءة في الوظيفة. ومن ثم ينبغي أن يكون هدف إدارة شؤون الموظفين هو إعداد أكثر نظم الحوافز ملاءمةً، وتصميم ظروف عمل محددة بطريقة تسهل الاستخدام الأكثر كفاءة للآلة البشرية. إذ أن هيكلة الوظائف بطريقة تقود إلى التشغيل الأكثر كفاءة، ستمكن المهندسين، كما يعتقدون، من الحصول على التنظيم الأمثل للعمل وعلى المواقف الوظيفية الملائمة.
أما في الفلسفة الأخيرة، فيركز علماء السلوك على مشاعر المجموعة، ومواقف الأفراد العاملين، والمحيط الاجتماعي والنفسي للمنظمة. ويؤكد هذا المعتقد على واحد أو أكثر من المثبطات المتنوعة والاحتياجات للحوافز. ويتمثل النهج الذي يتبعه في إدارة شؤون الموظفين عموماً في التأكيد على شكل ما من أشكال التعليم في العلاقات الاجتماعية، على أمل غرس مواقف سليمة بين الموظفين ووضع مناخ تنظيمي يمكن أن يعتبر رائعاً بالنسبة للقيم الإنسانية. فالاعتقاد هنا هو أن المواقف المناسبة ستقود إلى كفاءة الهيكل الوظيفي والتنظيمي.
هناك دائماً جدال نشط فيما يخص الفعالية العامة لمناهج علماء النظريات التنظيمية والمهندسين الصناعيين. فكلاهما أنجز الكثير كما هو واضح. ولكن السؤال المزعج بالنسبة للعلماء السلوكيين كان: ما هو ثمن المشكلات الإنسانية الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى المزيد من النفقات على عاتق المنظمة؟ على سبيل المثال؛ الدوران الوظيفي، الغياب، والأخطاء، وانتهاك قواعد السلامة، والإضرابات، وتقييد الإنتاج، وارتفاع الأجور، ومزايا وظيفية أكثر. ومن ناحية أخرى، من الصعب على علماء السلوك توثيق الكثير من التحسن الواضح في إدارة شؤون الموظفين باستخدام نهجهم.
وبالعودة مرة أخرى لنظرية العامل الثنائي المحفزات-المثبطات، التي فرقت بين العوامل المحفزة للأداء والرضا الوظيفي، والعوامل الأخرى المؤدية للاستياء الوظيفي، تقترح النظرية بما أن العوامل الأولى المحفزة للأداء ترتبط بـ "محتوى العمل" اتباع نهج "الإثراء الوظيفي" في تحفيز الموظفين، وتحقيق الانتفاع الفعّال منهم.
وتعد هذه المحاولة الممنهجة لتحفيز الموظفين من خلال التلاعب بالعوامل المحفزة ما هي إلا البداية. ويصف مصطلح الإثراء الوظيفي هذه الحركة البدائية. بينما توجه النظرية، في المقابل، بضرورة تجنب مصطلح أقدم هو "التوسيع الوظيفي"، لارتباطه بالإخفاقات القديمة الناتجة عن سوء فهم الفارق بين المجموعتين من العوامل السابقة. فبينما يوفر "الإثراء الوظيفي" الفرصة للنمو النفسي للموظف، يجعل التوسيع الوظيفة أكبر هيكلياً. ونظراً لأن الإثراء الوظيفي يعد جديداً جداً، فإن هذه المقالة تقترح فقط المبادئ والخطوات العملية التي انبثقت مؤخراً من عدة تجارب ناجحة في الصناعة.
بناء محتوى العمل
والآن وقد اتفقت النظرية على ضرورة اتباع نهج "الإثراء الوظيفي"، ولكن هناك طريقة خاطئة تنتهجها بعض الإدارات في محاولتها لإثراء وظائف معينة، إذ تقلص من المساهمة الشخصية للموظفين، بدلاً من منحهم فرصاً للنمو في وظائفهم المعتادة. وتعد هذه المساعي، والتي سأطلق عليها "البناء الأفقي الوظيفي" - وهي مقابل البناء العمودي الوظيفي الذي يتبع نظرية الإثراء الوظيفي وفقاً لنظرية العامل الثنائي - مشكلة في برامج التوسيع الوظيفي القديمة. فبالكاد يوسع البناء الوظيفي من المعنى الكبير للمهمة. وهذه بعض الأمثلة على هذا النهج وتأثيراتها هي:
في محاولتها لإثراء وظائف معينة، غالباً ما تقلص الإدارة من المساهمة الشخصية للموظفين بدلاً من منحهم فرصاً للنمو في وظائفهم المعتادة.
- تحدي الموظف عن طريق زيادة كمية الإنتاج المتوقعة منه. إذا كان الموظف يقوم بتركيب 10,000 مسمار في اليوم، لنرى ما إذا كان يستطيع تركيب 20,000 في اليوم. يوضح الحساب المعني هنا أن ضرب الصفر بالصفر ما زال يساوي صفراً.
- إضافة مهمة أخرى لا معنى لها إلى المهمة المعمول بها، وعادة ما تكون كنشاط كتابي روتيني. العملية الحسابية هنا جمع صفر مع صفر.
- التناوب على المهام في عدد من الأعمال التي تحتاج إلى إثراء. ما يعني غسل الصحون لفترة، ثم غسل الأواني الفضية. تمثل العملية الحسابية هنا استعاضة صفر بصفر آخر.
- التخلص من أصعب أجزاء المهمة بهدف تحرير العامل لإنجاز المزيد من المهام الأقل تحدياً. هذا النهج الهندسي الصناعي التقليدي يحاول تنفيذ عملية الطرح على أمل تحقيق عملية الجمع.
هذه هي الأشكال الشائعة للبناء الأفقي التي تبرز غالباً في جلسات العصف الذهني الأولية التي تسبق الإثراء الوظيفي. لم يتم وضع مبادئ البناء العمودي جميعها بعد، بل تبقى عامة إلى حد ما، ولكنني وضعت سبع نقاط مفيدة للبدء يمكن النظر إليها في الشكل.
التطبيق الناجح
وتُظهر تجربة ناجحة جداً في الإثراء الوظيفي الفرق بين البناء الأفقي والبناء العمودي للوظيفة. موضوع هذه الدراسة هو مراسلون مساهمون وظفتهم شركة كبيرة جداً. وعلى ما يبدو أن المهمة المطلوبة من هؤلاء المراسلين المختارين بعناية والمدربين تدريباً عالياً كانت معقدة وصعبة للغاية. ولكن جميع مؤشرات الأداء والمواقف الوظيفية كانت منخفضة، وأكدت مقابلات الانفصال عن الشركة بأن وجود التحدي الوظيفي كان أشبه بمجرد كلمات.
كان البدء في مشروع إثراء الوظائف على شكل تجربة مع مجموعة واحدة، وعُينت كوحدة إنجاز، مما أدى إلى إثراء العمل عن طريق المبادئ الموضحة في الشكل 2. وأكملت مجموعة المُراقِبة عملها بالطريقة التقليدية. (كان هناك أيضاً مجموعتان من المراسلين "غير الملتزمين" شُكلت لقياس ما يدعى بتأثير هوثورن- أي لقياس ما إذا كانت الإنتاجية والمواقف تجاه الوظيفة قد تغيرت على نحو زائف لمجرد أن الموظفين شعروا أن الشركة كانت توليهم المزيد من الاهتمام أثناء قيامهم بشيء مختلف أو جديد. كانت نتائج هذه المجموعات مشابهة إلى حد كبير للمجموعة المراقبة، ولم تظهر أي تغيرات في المثبطات لأي من المجموعتين سوى ما كان سيتم إجراءه بطبيعة الحال، مثل زيادة الأجور العادية.
قُدمت التغيرات الخاصة بوحدة الإنجاز في الشهرين الأولين، بمتوسط واحد من المحفزات السبعة (المدرجة في الشكل 2) أسبوعياً. وفي نهاية الستة أشهر، اكتُشف أن أعضاء وحدة الإنجاز يتفوقون على نظرائهم في المجموعة المراقبة، وإضافة إلى ذلك، تمت الإشارة إلى زيادة ملحوظة في رغبتهم بوظائفهم. وأظهرت النتائج الأخرى أن المجموعة المنجزة كانت لديها نسبة أقل من التهرب الوظيفي، وبالتالي، كانت نسبة الترقية أعلى بكثير.
يوضح الشكل (3) التغيرات في الأداء، والتي تم قياسها في فبراير ومارس، قبل بدء فترة هذه الدراسة، وفي نهاية كل شهر أي بعد تطبيق فترة الدراسة. يمثل مؤشر خدمة الأسهم المالية جودة الرسائل، بما في ذلك دقة المعلومات، وسرعة الاستجابة على رسائل استفسارات حاملي الأسهم. تم حساب متوسط الشهر الحالي عن طريق حساب متوسط الشهرين السابقين، مما يعني أنه كان من الصعب التحسن إذا كانت مؤشرات الأشهر السابقة منخفضة. كانت المجموعة المنجِزة تؤدي عملها بفعالية أقل قبل بدء فترة الستة أشهر، واستمر مؤشر خدمة أدائهم في الانخفاض بعد تقديم الحوافز، وذلك حتماً بسبب التردد الحاصل عند منحهم المسؤوليات الجديدة. ولكن في الشهر الثالث، تحسن الأداء، وسرعان ما وصل أعضاء هذه المجموعة إلى مستوى عالٍ من الإنجاز.
يوضح الشكل (4) مواقف المجموعتين تجاه وظيفتهم، والتي تم قياسها في نهاية شهر مارس، قبل تقديم الحافز الأول مباشرة، ومجدداً في نهاية شهر سبتمبر. وسُئل المراسلون 16 سؤالاً، تدور جميعها حول الحافز. إحدى هذه الأسئلة النموذجية كان "من وجهة نظرك، كم من الفرص تشعر بأنك تمتلك في عملك لتقديم مساهمات قيّمة؟" ونُسبت الإجابات إلى مقياس من 1 إلى 5، بدرجة عظمى أقصاها 80. فأصبح المنجزون أكثر إيجابية تجاه عملهم، بينما بقي موقف وحدة المراقبة على حاله (الانخفاض ليس ذا أهمية إحصائية).
كيف أعيدت هيكلة وظيفة هؤلاء المراسلين؟ يُدرج الشكل (5) الاقتراحات المقدمة والتي اعتبرت بناءً أفقياً، وكذلك التغيرات في الحمل العمودي المدمجة في عمل وحدة الإنجاز. تشير الأحرف الكبيرة الموجودة تحت عنوان "المبدأ" بعد "البناء العمودي" إلى الأحرف المقابلة في الشكل (2). ويلاحظ القارئ أن الأشكال المرفوضة للبناء الأفقي تتوافق بشكل وثيق مع قائمة المظاهر الشائعة التي ذكرتها سابقاً.
خطوات الإثراء الوظيفي
الآن وقد تم وصف فكرة الحافز في الممارسة العملية، إليك فيما يلي الخطوات التي يجب على المدراء اتخاذها عند إرساء هذا المبدأ على موظفيهم:
1 – اختر الوظائف كالتالي: التي أ) لن يؤدي فيها الاستثمار في الهندسة الصناعية إلى تغيرات باهظة التكلفة، ب) حيث تكون المواقف سيئة، ج) أصبح الإثباط الوظيفي فيها مكلفاً للغاية، د) في الأماكن التي سيحُدث الحافز فيها فرقاً في الأداء.
2 – تعامل مع هذه الوظائف بقناعة إمكانية تغييرها. فلقد دفعت سنوات من التقاليد المدراء إلى الاعتقاد بأن محتوى الوظيفة مقدس، وأن نطاق العمل الوحيد لديهم هو تحفيز الناس.
3 – استنبط قائمة من التغييرات التي قد تثري الوظائف، دون القلق حيال شكلها العملي.
4 – افحص القائمة لإزالة الاقتراحات التي تتضمن المثبطات، وليس الحوافز الفعلية.
5 – افحص القائمة بحثاً عن العموميات مثل "منحهم المزيد من المسؤولية"، والتي نادراً ما تتبع التنفيذ. قد يبدو هذا واضحاً، لكن كلمات التحفيز لم تترك الصناعة أبداً، فهذه المادة قد تم ترشيدها وإعادة تنظيمها فقط. والكلمات مثل "المسؤولية"، و"النمو"، و"الإنجاز"، و"التحدي"، على سبيل المثال قد رفعت إلى مستوى كلمات نشيد وطني لجميع المنظمات. هذه هي المشكلة القديمة التي تمثلت بأن الولاء للعلم أهم من المساهمة تجاه الدولة- وهنا اتباع النموذج أكثر من الجوهر.
6 – افحص القائمة للتخلص من اقتراحات البناء الأفقي.
7 – تجنب المشاركة المباشرة من قبل الموظفين الذين تم إثراء وظائفهم. فالأفكار التي عبروا عنها سابقاً تشكل بالتأكيد مصدراً قيّماً للتغيرات الموصى بها، لكن مشاركتهم المباشرة تلوث المهمة بالمثبطات البشرية وتوهمهم بالإحساس بالمشاركة فقط. يجب تغيير الوظيفة، إذ أن المحتوى هو من سينتج الحافز، وليس المواقف حيال المشاركة أو التحدي الكامن في إنشاء الوظيفة. ستنتهي تلك العملية بوقت قصير، ومن ثم ما يفعله الموظفون بعدها هو ما سيحدد حوافزهم. فالشعور بالمشاركة سينتج تحركاً قصير الأجل فقط.
8 – أثناء المحاولات الأولية للإثراء الوظيفي، قم بإعداد تجربة مضبوطة. يجب اختيار مجموعتين متكافئتين على الأقل، إحداهما وحدة تجريبية تُقدم فيها المحفزات بشكل منتظم على مدار فترة زمنية محددة، والأخرى مجموعة مُراقِبة حيث لا يجري أي تغييرات فيها. ويجب السماح للتثبيط أن يتبع مجراه الطبيعي في كلا المجموعتين طوال مدة التجربة. واختبارات الأداء والمواقف الوظيفية قبل وبعد الإنشاء ضرورية لتقييم فعالية برامج الإثراء الوظيفي. ويجب أن يقتصر اختبار المواقف على حد معين من العناصر المحفزة من أجل فصل آراء الموظفين في الوظائف الممنوحة إليهم عن مشاعر التثبيط المحيطة التي قد يشعرون بها.
9 – كن مستعداً لانخفاض الأداء في المجموعة التجريبية في الأسابيع القليلة الأولى. فالتحول إلى وظيفة جديدة يؤدي أحياناً إلى انخفاض مؤقت في الكفاءة.
10 – توقّع من المشرفين المباشرين أن يختبروا بعض القلق والعدائية تجاه التغييرات التي تجريها. فالقلق يأتي من خوفهم من أن التغييرات ستؤدي إلى أداء سيئ لوحدتهم. وستظهر العداوة عندما يبدأ الموظفون بالاعتقاد أن المشرفين يعتبرون الأداء هو مسؤوليتهم وحدهم. فالمشرفون الذين لا تتحقق من واجباتهم التي يؤدونها قد ينتهي بهم الأمر بالقليل لفعله.
ولكن بعد التجربة الناجحة يكتشف المشرفون عادة الوظائف الإشرافية والإدارية التي أهملوها، أو تلك التي لم تكن مسؤوليتهم لأن معظم وقتهم كان يمنح لمراجعة عمل المرؤوسين. على سبيل المثال، في قسم البحث والتطوير في شركة كيميائية كبيرة أعرفها، كان المشرفون على مساعدي المختبرات مسؤولين نظرياً عن تدريبهم وتقييمهم. أصبحت هذه الوظائف تطبق بروتينية لا أساس لها من الصحة. وبعد برنامج الإثراء الوظيفي، الذي لم يكن المشرفون فيه مجرد مراقبين سلبيين لأداء المساعدين، كانوا يكرسون وقتهم بالفعل لمراجعة الأداء وإدارة التدريب الشامل.
ما كان يطلق عليه أسلوب الإشراف المركز على الموظف لن يتحقق عبر تعليم المشرفين، بل من خلال تغيير الوظائف التي يقومون بها.
فالإثراء الوظيفي لن يكون اقتراحاً يؤخذ به لمرة واحدة فقط، ولكن وظيفة إدارية مستمرة. ويجب أن تستمر التغيرات الأولية لفترة طويلة جداً. هنالك العديد من الأسباب لهذا:
- ينبغي أن تؤدي التغييرات إلى رفع مستوى الوظيفة إلى مستوى التحدي بما يتناسب مع المهارة التي تم تعيينها.
- يتمكن أولئك الذين لا يزالون يتمتعون بقدرات أكبر، من إثباتها بشكل أفضل، والفوز بالترقية لوظائف أعلى في المستوى.
- طبيعة المحفزات، وعلى عكس طبيعة المثبطات، لها تأثيرٌ طويل الأمد على مواقف الموظفين. فمن المحتمل أنه يمكن إثراء الوظيفة مرة أخرى، لكن لن يحدث هذا بشكل متكرر أثناء الحاجة إلى المثبطات.
لا يمكن إثراء جميع الوظائف، ولا تحتاج كل الوظائف إلى الإثراء. فلو منحت نسبة قليلة من الوقت والمال المخصص في التثبيط الوظيفي إلى الجهود في الإثراء الوظيفي، فإن العائد في الرضا الإنساني والاقتصادي سيكون واحداً من أكبر الأرباح التي جنتها الصناعة والمجتمع خلال الجهود المبذولة لتحسين إدارة شؤون الموظفين.
يمكن تلخيص نقاش الإثراء الوظيفي بكل بساطة كما يلي: إن كان لديك موظفون في عمل ما، استخدمهم في الإثراء الوظيفي. إن لم تتمكن من استخدامهم في الوظيفة، تخلص منهم، سواء عن طريق التشغيل الآلي أو عن طريق اختيار أشخاص أقل قدرة. وإن لم تتمكن لا من استخدامهم ولا من التخلص منهم، ستواجه معضلة الحافز.