لماذا يجب أن تكون مراكز بحوث الشركات اليوم داخل المدن

4 دقائق
مراكز بحوث الشركات داخل المدن

شيء ما يحدث في وسط مدينة أتلانتا الأميركية. لقد أصبح حرم معهد جورجيا للتكنولوجيا أو ما يدعى اختصاراً "جورجيا تك" (Georgia Tech)، الواقع في مركز المدينة، إحدى الوجهات الرائدة في الولايات المتحدة الأميركية بالنسبة لمراكز بحوث الشركات. اجتذبت ساحة "تيك سكوير" (Tech Square) على مدى العقد الماضي مراكزَ البحوث في 12 شركة من الشركات المدرجة في قائمة "فورتشن 500"، وهي منطقة أبنية في وسط المدينة، وقد صُممت من أجل تسهيل المشاريع البحثية الخاصة والعامة، وتتضمن شركة "أيه تي آند تي" (AT&T)، و"باناسونيك"، و"كوكاكولا"، بالإضافة إلى مئات الشركات التقنية الناشئة. فلماذا توُضع مراكز بحوث الشركات داخل المدن؟

المراكز البحثية للشركات

مؤخراً، نقلت شركة "إن سي آر" (NCR)، وهي إحدى الشركات الإلكترونية الكبرى في الولايات المتحدة، مقراتها الرئيسية العالمية من الضواحي إلى ساحة "تيك سكوير"، حيث جلبت 3,600 موظف إلى هناك.

يعد وسط مدينة أتلانتا مثالاً عن الاتجاه المتنامي لدى الشركات لنقل مقرات البحوث الكبرى فيها لتصبح بالقرب من الجامعات الحضرية، التي توفر وسائل الراحة المتعددة، والأماكن الحيوية، مع وجود كثيف للشركات. على سبيل المثال، نقلت مؤخراً شركة "فايزر" (Pfizer)، واحداً من أكبر مراكز بحوثها إلى ساحة "كيندالسكوير" في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأميركية، على مسافة قريبة من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT)، كما أصبح لـ "جوجل" الآن مركز بحوث لتعلم الآلة بساحة "بيكر سكوير" في مدينة بيتسبيرغ، بجانب جامعة "كارنيغي ميلون" (Carnegie Mellon University).

إن ما يدفع الشركات إلى الانتقال إلى جانب الجامعات الحضرية هو الدور المتغير الذي أصبح يعنيه الابتكار ضمن القطاع الخاص، مع تزايد اعتماد الشركات على المصادر الخارجية من أجل دعم التطور التكنولوجي.

أما في الماضي، فكانت الكثير من الشركات الكبرى تميل إلى الابتكار في مناطق منعزلة. فمثلاً، في ستينيات القرن الماضي، قادت شركة "دوبونت" (DuPont) العالم إلى صناعة البوليميرات الجديدة، منفصلة بذلك عما كان رائجاً حينها من صناعة مواد مثل النايلون والكيفلار، وذلك من خلال مركز بحوثها في حرم جامعة "ويلمينغتون" (Wilminton) في ديلاوير. وبالمثل، تمكنت مختبرات "بيل" الشهيرة لشركة "أيه تي أند تي" الواقعة في موراي هيل في نيوجيرسي من ابتكار صناعات جديدة كلياً من خلال اختراع الترانزيستورات والليزر ولغة البرمجة سي++ (C++). كان نموذج العمل في هذه الشركات سبباً لصنع أسواق جديدة، التي بدورها كانت كبيرة بما يكفي لاحتكار فئات من التكنولوجيا بشكل أساسي في حال أحرزت النجاح.

أما اليوم، فقلة هي الشركات التي بمقدورها احتكار التقنيات التي تعتمد عليها، ولا يمكنها وحدها تحمل جميع التكاليف المرتبطة بالابتكار الأصلي. أولاً، يحدث التقليد التكنولوجي اليوم بشكل أسرع بكثير مما كان عليه في الماضي، ويرجع ذلك جزئياً إلى القاعدة العالمية للمنافسين التكنولوجيين وسرعة الهندسة العكسية. فليست هنالك أفكار محلية فقط، وبالكاد أن يكون منها ما هو سري. على سبيل المثال، هناك جهاز "الآيباد" الذي أطلق لأول مرة في مارس/آذار عام 2010، ثم سرعان ما كانت العشرات من أجهزة "التابلت" موجودة في معرض "الإلكترونيات الاستهلاكية" (Consumer Electronics)، في عام 2011. ثانياً، تدعم منصات التكنولوجيا اليوم المنتجات الجديدة أكثر من الماضي. فنجد أن العلوم الأساسية في علم الجينوم هي المنصة التي تعتمد عليها الأدوية البيولوجية الجديدة، وكذلك، فإن التطور في تعلم الآلة يدعم إنترنت الأشياء في جميع النواحي بدءاً من الأجهزة المنزلية وصولاً إلى السيارات، في الوقت الذي تدير فيه الأساليب الحاسوبية الجديدة كلاً من محطات توليد الطاقة وسلاسل التوريد لمحلات البقالة على حد سواء. لا "يمتلك" مركز البحوث لأي شركة أياً من هذه المنصات، لكن يجب عليها جميعاً فهم التقدم المحرز في المنتجات والخدمات الجديدة وتطبيقه.

تجبر هذه الاتجاهات مجتمعةً الشركاتِ على التخلص من المفهوم الثنائي القديم المتعلق بـ "صناعة" التقنيات (غالباً في أماكن معزولة) أو "شرائها" (من أماكن بعيدة)، وذلك بهدف تحقيق "الفائدة والتعلم". والوضع المثالي هو أن الشركات تستغل القدرة البحثية لتقنيات المنصات التابعة للجامعات وتتعلم من المجموعات الموجودة من الشركات والباحثين وغيرهم ضمن المناطق الحضرية الكثيفة المجاورة. ومناطق الجوار هذه ليست كثيفة فحسب، بل تشكل أماكن نابضة بالحياة وعالية الجودة حيث يرغب الخريجون ورواد الأعمال بالعيش فيها.

وبالطبع، لكي ينجح هذا النموذج الجديد، يجب على الجامعات أيضاً أن تهتم بانتهاز الفرصة التجارية السانحة لأبحاثها. وفي حين أن كل الكليات والجامعات تقريباً تدّعي أنها تهتم بالتداول التجاري لأبحاثها، لكن معظمها يستمر في تحفيز النشر الأكاديمي لهذه الأبحاث ولا يذهب بعيداً بما يكفي للعمل مع الشركات.

ومع ذلك، عندما ينتقل مركز بحوث شركة ما إلى موقع جديد، فغالباً ما يكون ذلك إلى المدن التي تعد موطناً بالنسبة لجامعة بحثية رائدة تعطي الأولوية للتشارك مع القطاع الخاص. فنجد أن جامعات مثل "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" و"كارنيغي ميلون" و"جامعة واشنطن"، قد شهدت انتقال مراكز بحوث لبعض الشركات لتصبح قريبة من حرمها، ولا يرجع ذلك فقط إلى أن هذه الجامعات تقع في المدن، بل لأن هذه الكليات حفزت على إضفاء الطابع التجاري على أبحاثها من خلال تغيير متطلبات تثبيت الأساتذة في مناصبهم الجامعية ليكون ذلك عبر منح براءات الاختراع، وليس فقط عبر النشر الأكاديمي للمقالات، وعملت كذلك على إنشاء برامج لاحتضان شركات ناشئة جامعية، ودفع أعضاء الكلية للحصول على منح فيدرالية لدعم البحوث المشتركة مع القطاع الخاص.

معهد "جورجيا تك"

كان لمعهد "جورجيا تك" في وسط مدينة أتلانتا دور قوي جداً في انتقال منشآت البحث الخاصة بالشركات. لا شك أن كون هذا المعهد واحداً من أكثر الكليات الهندسية ريادة في البلاد قد ساعد على ذلك الانتقال، بالإضافة إلى الاستثمارات العقارية التي قامت بها الجامعة لخلق مساحات كافية لتلك الشركات. لكن الأهم من ذلك، هو الجهود التي بذلتها الجامعة لجلب البحوث إلى السوق. على سبيل المثال، يعد معهد "جورجيا تك" رائداً على مستوى البلاد في إطلاق الشركات الناشئة: تحتل "فنتشرلاب" (VentureLab)، وهي مسرعة أعمال تديرها الجامعة، المركز الثاني على مستوى العالم. تساعد حاضنة أعمال معهد "جورجيا تك"، وهي مركز تطوير التكنولوجيا المتقدم، على خلق شركات ناشئة ناجحة من خلال ربط رواد الأعمال بالموجهين ورأس المال والزبائن. كما يربط برنامج الربط الصناعي الخاص بها الشركات الناشئة الجامعية مع الشركات في قائمة "فورتشن 1000". ونظراً لأن الشركات التقنية الصغيرة تُستخدم غالباً كحقول اختبار بالنسبة للمنتجات المستقبلية، فقد جعل معهد "جورجيا تك" من وسط مدينة أتلانتا بيئةً مثالية لمراكز بحوث الشركات، من خلال دعم الشركات الناشئة الخاصة بالطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية، وربطها بشركات أكبر. كما تبذل هذه الكليات جهوداً مضنية من أجل تحسين المكان المخصص لهذه المراكز البحثية وبث الحيوية في الأماكن العامة لخلق بيئة للتفكير الإبداعي والتعاون مع الآخرين.

وفي نهاية الحديث عن مراكز بحوث الشركات داخل المدن، إن ما يحدث في وسط مدينة أتلانتا وتحديداً في معهد "جورجيا تك"، يعد على الأرجح مؤشراً رئيسياً للاتجاه الذي ستتخذه أقسام البحوث في الشركات لاحقاً. ومن الآن فصاعداً، ستزيد الشركات من اعتمادها على المصادر الخارجية للتكنولوجيا، ولذلك ستزداد قيمة الأماكن ذات الجودة العالية والكثافة. لن تكون المدن التي تجذب مراكز أبحاث الشركات بالضرورة هي المدن التي تقدم أكبر الحوافز الضريبية، بل ستكون تلك التي لديها جامعات كبرى تتابع أبحاثاً ذات طابع تجاري وتعزز العلاقات مع القطاع الخاص.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي