ملخص: مع ظهور التكنولوجيا الرقمية والتحول إلى العمل عن بُعد تتغير استراتيجيات الشركات في اختيار مواقعها الجغرافية. فيما يلي، يلخص المؤلفون الأساس المنطقي والهيكلية لهذا التغير المهم في كيفية تحديد الشركات مواقعها وطرق تنافسها على المواهب. التصور السائد هو أن المدن العالمية الكبرى آخذة في الانحدار مع انتشار الموظفين والشركات في مختلف مناطق العالم، لكنه تصور مبسَّط جداً. يتناول البحث الذي أجراه المؤلفون ظهور نوع جديد من المدن تجمع بين عناصر التجمع المادي والاتصالات الرقمية، وتسمى مدن ميتا (Meta Cities). ومع هذا التطور ازدادت أهمية استراتيجية اختيار الشركة لموقعها الجغرافي، فهو يستلزم الاختيار بين مجموعة من المواقع العالمية لمختلف الغايات، ومن ذلك تحديد المقر الرئيس للشركة ومراكز الابتكار والمكاتب الفرعية، والأهم هو اجتذاب أصحاب المواهب والاحتفاظ بهم.
منذ وقت ليس ببعيد، خلال الأيام الأولى لجائحة كوفيد-19، تنبأ النقاد بأفول مفهوم المدن الكبرى، لا سيما المدن المكلفة التي تشكل مراكز كبيرة، مثل لندن ونيويورك، والتي اجتاحتها موجات الجائحة الأولى بشراسة، إذ اتجه من يستطيع من السكان إلى الضواحي والبلدات الصغيرة للعمل عن بُعد.
لكن الواقع يقول إن مفهوم المدن العالمية ليست إلى زوال، بل يعاد ابتكاره بأساليب عصرية وأكثر قوة. وكما هي الحال مع جوانب أخرى كثيرة في عالمنا السريع التطور، بدأت الهُويات المادية والافتراضية لهذه المدن تتشوش، وازداد التناقض في مفهوم الموقع يوماً بعد يوم.
لطالما كانت المدن توفر لساكنيها في الأساس كل ما يحتاجون إليه من الوظائف والفرص الاقتصادية من ناحية، والسكن والمدارس وسبل الراحة من ناحية أخرى. ولكن مع ظهور التكنولوجيا الرقمية والعمل عن بُعد، أصبحت الأماكن التي نعمل فيها منفصلة عن أماكن السكن. واليوم، ولأول مرة في التاريخ، أصبح بوسع نسبة كبيرة من القوى العاملة أن تشارك في الحياة الاقتصادية لمدينة ما دون أن تعيش فيها فعلياً. إليكم بضعة أمثلة توضح هذه النقطة:
- في إنجلترا، انتقلت مادي وزوجها مارك من لندن إلى مدينة بريستول لكنهما احتفظا بوظيفتيهما في العاصمة، كان التنقل اليومي بين المنزل والعمل سيستغرق منهما ساعتين، لكن لأنهما يعملان من المنزل، فلن يضطرا إلى زيارة لندن إلا مرتين أو ثلاث شهرياً من أجل حضور الاجتماعات.
- إبراهيم رجل أعمال مصري، يقع مقر شركته في دبي لكن له نشاط مهم في المملكة العربية السعودية؛ منذ بداية الجائحة، عمل إبراهيم عن بُعد من القاهرة، حيث يعيش بالقرب من عائلته وأصدقائه، وهو يسافر باستمرار إلى دبي للتواصل مع زملائه وإلى الرياض لمقابلة العملاء. وهو يعتبر مقيماً في الإمارات العربية المتحدة بفضل قوانين التأشيرة الجديدة لأن لديه دخلاً ورصيداً بنكياً في دبي.
- باولا مصممة غرافيك تعمل لدى شركة ناشئة في وادي السيليكون، وبدلاً من أن تعيش في منطقة خليج سان فرانسيسكو، تعمل في مسقط رأسها في مدينة ميديلين بولاية كولومبيا الأميركية، وهي تحصل على أجر أعلى بكثير من أجر السوق المحلية في مدينتها، لكنه أدنى من الأجور في منطقة خليج سان فرانسيسكو، ما يمثل مكسباً لباولا والشركة التي تعمل لديها في آن واحد.
مادي ومارك وإبراهيم وباولا جميعهم مشاركون في نمط حديث وموسع للمدينة نطلق عليه اسم مدينة ميتا (Meta City)، وهي عبارة عن شبكة من المدن التي تمثل وحدة متميزة ومرتبطة بمركز اقتصادي رئيس غالباً ما يكون عالمياً. قد تكون المجتمعات المتنوعة التي تكوّن مدن ميتا في مناطق زمنية مختلفة ومواقع غير متجاورة، ولكنها تعمل معاً ضمن شبكة متماسكة لها هيكلية وأساس منطقي متميزان. تجمع مدن ميتا بين العناصر المادية والافتراضية في تحدٍ واضح لقوانين الفيزياء، ما يتيح لها شغل أكثر من مساحة واحدة في الوقت نفسه، ونتيجة لذلك تتقاسم المناطق الحضرية ضمن شبكات مدن ميتا الوظائف الاقتصادية والاجتماعية.
ومن هذا المنظور، فإن أسواق العمل ومجموعات المواهب لم تتوزع بين البلدان عشوائياً على مدى السنوات الثلاث الماضية، بل وفق أنماط محددة. فعندما خرج العاملون من المدن الكبرى لحقوا بمن يعملون في المهنة نفسها وأنشؤوا بالتالي روابط واضحة بين المراكز الرئيسية والمدن الصغرى التابعة لها. مثلاً، غادر العاملون في القطاع المالي نيويورك متجهين إلى ميامي؛ وغادر العاملون في قطاع التكنولوجيا منطقة خليج سان فرانسيسكو متجهين إلى مدينة أوستن بولاية تكساس؛ كما توجه العاملون في لندن إلى البرتغال أو إسبانيا. وبرسم خريطة لهذه الروابط ومسارات تدفق المواهب عبر مدن ميتا بين المراكز الرئيسية والمدن الصغيرة التابعة لها، نشأ منظور جديد وواضح للانتشار الاقتصادي الجغرافي المتطور ولمستقبل مفهوم موقع الشركة.
على قادة الأعمال الاستجابة لمدن ميتا، علماً أن استجابتهم ستحدد قدرتهم على اجتذاب المواهب والاحتفاظ بها. انتقال الموظفين ليس قراراً ظرفياً أو يتعلق بمجرد خفض التكاليف العقارية، بل يتطلب إطاراً أعقد من إطار "العمل من المكتب مقارنة بالعمل من المنزل". على الشركات أن تغير نظرتها إلى مقارها الرئيسة ومراكز الابتكار والمكاتب التابعة لها ومكاتبها الرئيسية، وغير ذلك الكثير. تستلزم الاستراتيجية الجديدة لتحديد موقع الشركة انتقاء مواقع تناسب وظائف مختلفة وتلائم ظروف إدارتها انطلاقاً من مجموعة متباينة من المواقع. وفيما يلي نوضح للرؤساء التنفيذيين ومدراء الشركات ما ينبغي لهم معرفته في هذا الشأن.
القرب المادي والاتصال الرقمي
لآلاف السنين، كانت المدن عبارة عن تجمعات من المنازل والأسواق التجارية التي تقع داخل أسوار وحدود إدارية، وكانت الحدود المادية للمدينة وأعداد سكانها محدودة بأساليب النقل السائدة في عصرها. ومع ظهور الأساليب الجديدة وانتقالها من العربات التي تجرها الخيول إلى قطارات السكك الحديد ومترو الأنفاق والسيارات، تمكنت المدن من توسيع حدودها المادية وزيادة عدد سكانها، وخلق أسواق ومجموعات عمالة أكبر، وتعزيز التخصصات وتسريع النمو. عرّف تقرير التعداد السكاني الأميركي لعام 1910 المدن والضواحي المحيطة بها على أنها مناطق التنقل أو أسواق العمل التي يشار إليها باسم المناطق الحضرية. المناطق الكبرى، مثل بوسطن ونيويورك وواشنطن العاصمة وممر أسيلا، هي في الأساس مجموعات من المناطق الحضرية الموجودة فعلياً في نفس الموقع.
لقد مثّل التحول للعمل عن بُعد في زمن الجائحة أسلوباً آخر لتوسيع حدود المدينة إلى وحدة جغرافية جديدة أكبر، ولكنه بدلاً من التوسع المادي يعمل على تمكين التوسع الافتراضي. وتضاعفت نسبة العاملين الأميركيين المنخرطين في العمل عن بُعد ثلاث مرات من نحو 6% في عام 2019 إلى ما يقرب من 18% في عام 2021. يمكن للعاملين عن بُعد أن يعيشوا نوعية حياة جيدة وبتكلفة معقولة في المدن الصغيرة والضواحي والمناطق الريفية.
على مدار تاريخ البشرية بأكمله، واجهت المدن قيوداً مادية على التوسع، إذ وقعت في مفاضلة محيرة بين اقتصادات الحجم الكبير التي تأتي من التجمعات وبين الافتقار إلى الكثافة السكانية الكافية اللازمة لذلك. وعلى غرار الدور الذي أدته أساليب النقل الجديدة في تخفيف هذه القيود المادية في الماضي، تساعد التكنولوجيات الرقمية الجديدة اليوم المدن على التوسع والنمو بطرق جديدة ومعقدة.
يتيح العمل عن بُعد انتقال الموظفين من المدن ذات التكلفة المعيشية الباهظة إلى أماكن أخرى ذات تكلفة معقولة. يُنظر إلى ذلك عادة على أنه لعبة يربح فيها طرف ويخسر آخر، إذ تستفيد المناطق الصاعدة على حساب المدن العالمية الكبرى الراسخة؛ على سبيل المثال، تجتذب مدينة ميامي الأميركية العاملين والشركات من مدينة نيويورك، وتسحب مدينة أوستن المواهب وشركات التكنولوجيا من مدينة سان فرانسيسكو، في حين توظف مدينة بورتو بالبرتغال عاملين عن بُعد من لندن وتحصل كل من دبي والرياض على المواهب من مدن الشرق الأوسط الأخرى.
لكن هذا المنظور يتجاهل الروابط المهمة بين المدن، إذ يرتبط العديد من هذه الأماكن الصاعدة ارتباطاً وثيقاً بالمدن الراسخة. وكما سنرى، تأتي نهضة مدينة أوستن في هذه الناحية باعتبارها تابعة لمركز التكنولوجيا العريق في سان فرانسيسكو؛ أما مدينة ميامي فهي جزء من المجمع المالي والعقاري في مدينة نيويورك. نشهد في نهوض مدن ميتا ما ينافي التفكير البديهي بأن المدن الكبرى الرائدة التي نعرفها ستنتهي، فهي مستمرة بالتوسع بصفتها مراكز اقتصادية على الرغم من هجرة بعض المواهب والقطاعات إلى المدن التي تشكل مراكز تابعة.
تخطيط مدن ميتا الحالية
ترتكز مدن ميتا الشبكية في المقام الأول على مسارات التدفق والاتصالات، والتدفق الأهم في عصرنا الحالي هو تدفق المواهب. وللتعرف إلى هذا الجانب، نستخدم بيانات فريدة من لينكد إن حول مسارات تدفق المواهب المهنية الماهرة بين المدن العالمية. يكشف هذا المقياس بُعداً مهماً للترابط، فيحدد أبرز المدن المركزية في النظام العالمي، أي أنه يميز بين المدن التي تمثل المراكز والمدن التابعة في نظام مدن ميتا.
يصنف الجدول أدناه المدن العالمية بحسب درجة ترابطها بناءً على تدفق المواهب العالمية، إذ نحسب عدد المرات التي تُسجَّل فيها المدينة ضمن أفضل 25 وجهة للمواهب بين 35 مدينة عالمية رائدة. نقسّم هذه المدن إلى 4 مستويات: مدن المستوى الأعلى، أي المراكز العالمية الكبرى (Superstar)، تسجل أكثر من 30 نقطة؛ أما مدن المستوى الثاني، أي مراكز المواهب العالمية فتحصد ما بين 16 و30 نقطة؛ ثم مدن الدرجة الثالثة، وهي المراكز المهمة، وتحصد ما بين 11 و15 نقطة؛ والمدن في المستوى الأخير، وهي المراكز الأقليمية، وتحصد ما بين 5 و10 نقاط.
المراكز العالمية الكبرى. في نظام مدن ميتا، تبرز مدينتان فقط في القمة لأن مستوى تدفق المواهب فيهما أعلى بكثير من البقية، وهما لندن ونيويورك، وذلك ليس مفاجئاً لأن لندن ونيويورك تمثلان منذ زمن طويل المراكز الاقتصادية والمالية العالمية الرئيسية. ومع ظهور مفهوم مدينة ميتا المترابطة رقمياً، يبدو أن الدور المحوري لهاتين المدينتين يتزايد. لا تزال المدينتان مركزين مهيمنين في القطاعين الاقتصادي والمالي، وهما تكتسبان أهمية متزايدة أيضاً بصفتهما مركزي تجمّع للشركات الناشئة التي تنشط في مجال التكنولوجيا الفائقة.
مراكز المواهب العالمية. ثمة 7 مدن مؤهلة لتكون مراكز مواهب عالمية، بعضها مفاجئ، لا سيما المدن الثلاث الرائدة في هذه الفئة: دبي وبنغالور ودبلن. قد لا تكون هذه المدن الأكبر من حيث عدد السكان أو الناتج الاقتصادي، وليست مراكز اقتصادية رائدة، لكنها مهمة لأن كل واحدة منها تُظهر مسارات تدفق المواهب التي تميز مدينة ميتا. أصبحت هذه المدن مراكز رئيسية للمواهب من خلال الاستفادة من عوامل مثل فعالية التكلفة والبيئات الملائمة للأعمال وتوفير نمط حياة ميسور التكلفة -كما في دبي ودبلن. على سبيل المثال، يُظهر افتتاح أكبر مكتب لمجموعة غولدمان ساكس خارج نيويورك في بنغالور الهندية نمو المدينة من مركز متخصص بالتكنولوجيا إلى مركز عالمي حيوي للأعمال التجارية العالمية. تشمل هذه الفئة أيضاً مدناً عالمية مشهورة مثل باريس وبرلين في أوروبا، وسنغافورة في آسيا، ولوس أنجلوس في أميركا الشمالية؛ تشتهر غالبية هذه المدن بتوفير نوعية حياة عالية نسبياً.
المراكز العالمية المهمة. يمكن اعتبار 17 مدينة مراكز عالمية مهمة بصفتها مدن ميتا، وتضم هذه المجموعة مزيجاً من المدن العالمية المعروفة والمدن الصاعدة بصفتها مراكز للابتكار، وتشمل مدناً أميركية مثل شيكاغو وسان فرانسيسكو وسياتل وأوستن وبوسطن وواشنطن وميامي وأتلانتا. تضم المجموعة أيضاً برشلونة ومدريد وأمستردام في أوروبا، وتورنتو في كندا، وهونغ كونغ، وأبوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وسيدني وملبورن في أستراليا. يعكس ترتيب هونغ كونغ في قاع هذه المجموعة تراجعها بسبب سيطرة الصين عليها مؤخراً، وعلى الرغم من تصنيفها الحالي، كان يُنظر إلى هونغ كونغ حتى وقت قريب على أنها مماثلة لمدن مثل لندن ونيويورك، حيث كان يُطلق على المدن الثلاثة معاً مصطلح "نايلونكونغ" في إشارة إلى بعض الأحرف من اسم كل مدينة.
المراكز الإقليمية. تبرز 9 مدن بصفتها مراكز إقليمية أصغر للمواهب والأنشطة الاقتصادية، وتشمل هيوستن وفانكوفر في أميركا الشمالية، وفيينا وميونيخ في أوروبا، وتشيناي (المعروفة باسم مدراس) ونيودلهي في الهند، المدينتان اللتان توفران مصادر أقل تكلفة للمواهب.
تدفق المواهب في مدن ميتا الرائدة
تتيح لنا البيانات المتوافرة لدينا إلقاء نظرة فاحصة على تشكيلات محددة لمدينة ميتا. ركز تحليلنا على وجه التحديد على مدينتي نيويورك ولندن اللتين تتصدران قائمة مدن ميتا العالمية، وكذلك سان فرانسيسكو التي تُعد المركز العالمي الرائد في قطاع التكنولوجيا الفائقة ودعامة منظومتها العالمية للابتكار.
نيويورك. نيويورك هي مركز مدينة ميتا الممتدة عبر العالم، ويوضح الرسم البياني أدناه أنها تتمتع بصلات قوية مع المدن الواقعة على طول ممر أسيلا، مثل بوسطن وفيلادلفيا وواشنطن العاصمة. كما تشهد مسارات تدفق قوية للمواهب إلى مدينتين كبريين رئيسيتين بعيدتين جغرافياً هما لوس أنجلوس ولندن. داخل الولايات المتحدة، تشهد نيويورك مسارات تدفق قوية للمواهب تربطها بمدن سان فرانسيسكو وشيكاغو وميامي وأتلانتا وأوستن (جميعها من بين المدن العشر الأكثر ترابطاً)، ومع مدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا الأميركية، ومدن سياتل وهيوستن ودِنفر. على المستوى العالمي، تشهد مدينة نيويورك مسارات تدفق قوية للمواهب تربطها بعدة مدن في بلدان مختلفة، مثل حيدر أباد وبنغالور ومومباي ونيودلهي في الهند، وباريس، ودبي وأبوظبي في الإمارات العربية المتحدة، وسنغافورة وشانغهاي وهونغ كونغ.
لمدينة نيويورك دور حيوي في فهم سبب نهضة مدينة ميامي بصفتها مركزاً اقتصادياً ومالياً حظي بضجة إعلامية كبيرة. ببساطة، ميامي مدينة تابعة لنيويورك. (استخدمنا هنا بيانات معدّلة بحسب عدد السكان لتقييم العلاقات بدقة أكبر بين مركز كبير مثل نيويورك، ومدينة تابعة أصغر مثل ميامي. ويختلف هذا النهج عن تحليلنا الشامل أعلاه، الذي يستخدم بيانات حول إجمالي تدفقات المواهب من أجل فهم العلاقة بين المراكز المحورية وشبكة المدن التابعة لها بصورة كاملة). يوضح الرسم البياني التالي أن مسار تدفق المواهب الأقوى إلى ميامي، عند تعديله بحسب عدد السكان، يأتي من نيويورك، وفي المقابل أيضاً نرى أن أكبر مسار لتدفق المواهب من نيويورك يتجه إلى ميامي، وبالتالي يكتسب القول المأثور القديم بأن ميامي هي "الحي السادس" في نيويورك مصداقية في هذا الصدد.
لندن. لندن هي دعامة مدينة ميتا عالمية أخرى، فهي وثيقة الارتباط بمدن عالمية مثل نيويورك ودبي وأبو ظبي وهونغ كونغ ولاغوس، بالإضافة إلى المدن الأقرب إليها جغرافياً، مثل دبلن وإدنبره. كما تتشارك المواهب مع المدن القريبة مثل مانشستر وبريستول وبرمنغهام، التي تُعد من المدن العشر الأشد ارتباطاً بها، بالإضافة إلى كامبريدج وأوكسفورد.
سان فرانسيسكو. مدينة سان فرانسيسكو هي دعامة لمدينة ميتا الأكثر تخصصاً في مجال التكنولوجيا الفائقة. على الرغم من بعض التوقعات التي تشير إلى التراجع الوشيك في أهمية المدينة، فهي لا تزال أكبر مركز للتكنولوجيا الفائقة في العالم مع اجتذابها أكثر من 40% من إجمالي استثمارات رأس المال المغامر في شركات التكنولوجيا الناشئة في الولايات المتحدة في الربع الأول من عام 2023. تعكس مسارات تدفق المواهب من سان فرانسيسكو وإليها دورها المركزي في نظام التكنولوجيا الفائقة العالمي، وتربطها مسارات التدفق الأقوى بالمدن الكبرى مثل لوس أنجلوس ونيويورك، وهي من المدن الأميركية التي شهدت أكبر قدر من النمو بصفتها مراكز للشركات الناشئة. كما تتمتع سان فرانسيسكو بمسارات تدفق قوية تربطها بمراكز التكنولوجيا الأصغر مثل سياتل وأوستن وبوسطن وبروكلين وبورتلاند بولاية أوريغون. على الصعيد العالمي، تشهد المدينة مسارات تدفق قوية للمواهب تربطها بمراكز التكنولوجيا العالمية، مثل حيدر أباد وبنغالور ولندن وسنغافورة.
يتجلى دور سان فرانسيسكو المهم في مدينة ميتا التي تركز على التكنولوجيا في روابطها الوثيقة مع مدينة أوستن. على غرار علاقة نيويورك بميامي، من الأفضل اعتبار أوستن تابعة لمجمّع التكنولوجيا في سان فرانسيسكو. يوضح الرسم البياني أدناه أن مسار تدفق المواهب الأكبر إلى أوستن، بعد تعديله بحسب عدد السكان، يأتي من سان فرانسيسكو، وفي المقابل يتجه خامس أكبر مسار تدفق للمواهب من سان فرانسيسكو إلى أوستن. يرجع هذا النمط لتدفق المواهب بين المدينتين جزئياً إلى عوامل تاريخية. حاول قادة أوستن على مدى عقود جذب شركات التكنولوجيا في منطقة باي إيريا إلى المنطقة، وبالنتيجة أنشأت عدة من شركات وادي السيليكون مصانع أو مكاتب أو مراكز ابتكار في أوستن.
تحليل شبكة مدن مِيتا
أضفنا خطوة أخيرة إلى تحليلنا، فقد أجرينا تحليلاً أكثر تفصيلاً لشبكة مسارات تدفق المواهب بين مدن الولايات المتحدة وحدّدنا من خلالها 3 تشكيلات مختلفة من مدن ميتا: الأولى هي مدينة ميتا عالمية مترامية الأطراف ومركزها مدينة نيويورك، الثانية هي مدينة ميتا متعددة المراكز الواقعة في الساحل الغربي معتمدة على مركزين هما مدينتي سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، وتضمّ مدناً في محيطها مثل أوستن وسياتل ودالاس. والثالثة هي مدينة ميتا واقعة في الغرب الأوسط الأميركي ومركزها مدينة شيكاغو، وهي تتميّز بروابط أكثر مرونة وأقل كثافة، فالعديد من مدن الغرب الأوسط التي تضمّها مدينة ميتا هذه مثل دنفر وفينيكس وناشفيل مرتبطة أيضاً بنيويورك، علاوة على ارتباطها بمدينتي سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس. وعلى الرغم من أن شيكاغو تعتبر منذ زمن طويل المركز الاقتصادي والمالي للغرب الأوسط الأميركي فمستقبلها سيكون عرضة للتأزّم إذا استقطبت مدن ميتا ساحلية المزيد من مواهبها.
إعادة النظر في استراتيجية تحديد موقع الشركة بمدينة ميتا
إن فهم أبعاد مدن ميتا أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى قادة الشركات والمدراء الذين يسعون إلى التكيّف مع الواقع الجديد للعمل عن بُعد. في هذا الإطار تجرّب شركات عدّة عبر العالم حالياً مجموعة من الحلول بدءاً بمنح الموظفين مرونة كاملة في العمل من أيّ موقع يريدونه وصولاً إلى إلزامهم جميعاً بالعودة إلى المكاتب للعمل بدوام كامل. أظهر استقصاء أجرته مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) في شهر أغسطس/آب 2023 أن 7% فقط من الشركات فرضت العودة إلى العمل بدوام كامل، في حين أن 8% فقط منها تخلّت تماماً عن مكاتبها. ويتبنى معظم الشركات حالياً نهجاً وسطاً من خلال اختبار مجموعة من استراتيجيات العمل الهجينة مثل السماح للموظفين بالجمع بين العمل في المنزل والمكتب أو فرض حضور الموظفين إلى المكاتب بضعة أيام في الأسبوع.
يؤسّس ظهور مدن ميتا منطقاً جديداً يمكن أن يساعد الشركات على الاستجابة لهذه التغييرات، لكن يتعيّن عليها تجنب اختزال الخيارات إلى الاستعاضة عن المباني الإدارية الكبيرة في المدن الكبرى بالعمل من المنزل. لا تقتصر استراتيجية تحديد موقع الشركة على تقليل التكاليف والتخلص من العقارات التي أصبحت قديمة فحسب، بل يزداد التركيز فيها على مسألة التوازن بين مرونة الموقع والحفاظ على متانة كل من ثقافة المؤسسة وتواصل مكوناتها، ومن ثمّ يجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية إدارة أنواع مساحات العمل المختلفة على مستوى مركز مدينة ميتا ومدنها الفرعية.
يحتفظ المكان والحيّز بأهميتهما لكن وفق رؤية جديدة ومختلفة، ويحتاج قادة الشركات عموماً إلى فهم مسارات تنقل المواهب المهنية المتزايد بين المراكز والفروع والتخطيط للتعامل معها على نحو أفضل، ويتعين عليهم أيضاً إدراك تزايد أهمية التخصّص المتزايد للأماكن؛ إذ يمكن أن يصبح بعضها مراكزَ للعمل، في حين يصبح البعض الآخر أماكن مخصصة للسكن، في حين يجمع عدد قليل من هذه الأماكن بين الوظيفتين.
لم تعد مواقع المراكز في المدن الكبرى أماكن يتحمل الموظفون فيها عناء التنقّل اليومي الطويل للجلوس في مكتب محدّد، بل هي في الحقيقة أشبه بمساحات مخصّصة للتواصل والعمل التعاوني. تشكّل المساحات المخصصة للاجتماعات والعمل التعاوني في الوقت الحالي نسبة 25% إلى 40% من المكاتب الجديدة مقارنة بنسبة 10% تقريباً قبل بضع سنوات، كما توظّف الشركات هذه المساحات باعتبارها حيزاً مكانياً رائداً على غرار متاجر التجزئة الرائدة التي تبني علامة تجارية وتجذب المواهب. ويتجلى هذا في خيارات التسعير المرنة والمتميزة والمساحات المكتبية من الدرجة الممتازة في المدن الكبرى.
ليست الجودة إذاً المعيار الوحيد المعتمد هنا، بل يحظى موقع هذه المساحات في المدن المركزية أو الكبرى بأهمية كبيرة أيضاً. ثمة عامل آخر يشجع العمل عن بعد هو مدّة التنقل الطويلة أو المرهقة التي يقضيها الموظفون في الطريق إلى العمل، لهذا يمكن أن يكون موقع المكتب بالقرب من خطوط السكك الحديدية الرئيسية اقتراحاً جذاباً. على سبيل المثال، تتمتّع المباني الإدارية في محيط محطة غراند سنترال في نيويورك، لا سيّما المباني الراقية مثل مبنى وان فاندربيلت المشيد حديثاً، بمعدلات إشغال وإيجار أعلى بكثير من المباني الموجودة في أماكن أبعد. كما فتحت مجموعة من شركات التكنولوجيا في لندن مقرّاتها بالقرب من محطة كينغز كروس للسكك الحديدية، التي تبعد مدّة 40 دقيقة عن كامبريدج المتميزة بمنظومتها التعليمية العالمية المختصة في العلوم الحيوية والتكنولوجيا وجودة الحياة العالية.
المساحات المكتبية الفرعية ضرورية أيضاً في المدن الثانوية الأصغر في شبكة مدينة ميتا؛ وليس من الضروري أن تكون هذه المساحات أبراجاً مكتبية كبيرة، بل يمكن أن تكون مكاتب صغيرة ومساحات عمل مشتركة في مواقع متعددة مثل المراكز الحضرية والضواحي وكذا المناطق الريفية القريبة من أماكن إقامة الموظفين. لكن يجب على قادة الشركات توخي الحذر، ففي حين تحتفظ المدن الكبرى مثل نيويورك ولندن بأهميتها المحورية فترات زمنية طويلة، تزداد أهمية المدن الفرعية حيناً وتتراجع حيناً آخر. عندما تزداد جاذبية هذه المدن الفرعية بشدة، فإنها تفقد جاذبيتها و(أو) تصبح مكلفة بسرعة كبيرة نظراً إلى صغر مساحاتها أو ضآلة مخزونها من العقارات السكنية أو محدودية شبكاتها المخصّصة للنقل أو ضعف تطوّر أنظمتها التعليمية. وتفوّق مدينة ميامي على مدن نيويورك ولوس أنجلوس وسان فرانسيسكو ذات التكاليف السكنية الباهظة، بناءً على نسبة تكلفة السكن إلى الدخل، هو مثال حيّ يُظهر بجلاء هذا التأثير الفوري للجاذبية العالية.
في بيئة كهذه لا يمكن استثمار جاذبية الموقع للاستفادة من تفاوت التكلفة بين المواقع الجغرافية، لأن مكاسب نقل العمل من مدينة كبرى إلى مدينة فرعية في الولايات المتحدة تصبح أقل أهمية مقارنة بمكاسب تخفيض التكاليف الأكبر التي يحققها توظيف عاملين في مدن الدول النامية حيث الرواتب أقلّ بكثير. لكن إذا تحقّقت زيادة كبيرة في المواهب أو الشركات التي تنتقل إلى تلك المدن الفرعية، فقد تتقلص ميزة التكلفة هذه أو تختفي بسرعة كبيرة. وبالطبع يتأثر العديد من هذه المدن الراسخة أو الناشئة بتغيّر المناخ مع ارتفاع مستويات سطح البحر ودرجات الحرارة (على غرار ما اتّضح في صيف عام 2023) وتزايد خطورة الظواهر الجوية المتطرفة. لذا يتعيّن على الشركات أن تأخذ مخاطر التغيرات المناخية في اعتبارها عند توزيع مواقع مكاتبها أو موظفيها العاملين عن بعد، لا سيّما الذين قد تتأثر الأماكن التي يعملون فيها بالاضطرابات الجوية الشديدة. عموماً، يجب أن توظّف الشركات الذكاء والمرونة في تطوير استراتيجيات تحديد مواقعها وفسح المجال لإعادة النظر في هذه المواقع مع تطوّر الأمور واتّضاح الاختيارات الناجحة وغير الناجحة بمرور الوقت.
لا تقتصر استراتيجية تحديد الموقع على مرافق الشركات أو استخدام مساحات العمل المشتركة فحسب، فمع تزايد العمل عن بعد والعمل من المنزل تصبح مسألة اختيار مواقع منازل الموظفين أو مكاتبهم مهمة أيضاً. في هذا الإطار يجب أن تتعاون الشركات مع الموظفين أو شركاء تجهيز المرافق لضمان تأثيث المساحات المخصصة للعمل في المنازل بأحدث التكنولوجيات الرقمية والمكاتب المريحة لتقليل الإصابات الناجمة عن العمل مع توفير كلّ ما يحتاج إليه الموظفون لأداء أعمالهم بأمان. كما يجب على الشركات أن تحرص على عدم معاناة الموظفين من العزلة والوحدة؛ في هذا السياق كشف استقصاء حديث أن ربع الموظفين الذين يعملون من المنازل يمارسون أعمالهم في الحقيقة من خارجها سواء من المقاهي أو أماكن العمل المشتركة أو المكتبات أو منازل الأصدقاء. وبإمكان الشركات إذاً مساعدة الموظفين الذين يعملون من المنازل في توفير مثل هذه الأماكن وضمان تواصلهم المستمر مع زملائهم لتنظيم الاجتماعات وبناء ثقافة التواصل في مساحات المكاتب الفرعية أو المركزية.
يجب على المدن والمجتمعات بأشكالها وأحجامها المختلفة أن تدرك أيضاً بوضوح أدوارها في شبكة مدينة ميتا والقيمة الفريدة التي يمكنها تقديمها. فمع انفصال أماكن السكن عن أماكن العمل يمكن أن تصبح بعض المدن مراكز اقتصادية في حين تصبح الأخرى مراكز للإقامة السكنية، وقد تتمكن المدن المركزية أيضاً من جذب المزيد من الوظائف الرقمية الأكثر اقتصادية حتى إن فقدت جزءاً من سكانها الذين يلجؤون إلى أماكن ميسورة التكلفة، في حين يتعيّن على المجتمعات الفرعية العمل على تحسين أدوارها في الشبكة من خلال وسائل النقل وغيرها من الخدمات علاوة على تحسين عرض القيمة الذي تقدمه للسكان المحتملين.
تبدو مدن ميتا ذات صلة وثيقة بالأجزاء السريعة التمدّن في العالم. لنأخذ على سبيل المثال مدينة دبي؛ لقد فرضت نفسها باعتبارها مركز الشرق الأوسط التجاري ووحدة أنشطة رئيسية في مدينة ميتا، ينتقل العديد من الموظفين والمهنيين ذوي المهارات المعرفية من بلدان مثل مصر والأردن للعمل هناك على غرار إبراهيم الذي ذكرناه في مثالنا الافتتاحي. تشهد المنطقة تطويراً للتقسيم المكاني للعمل حيث يوفر بعض المدن أماكن للعمل في حين توفر مدن أخرى أماكن للسكن، كما تعزّز مدن أخرى في المنطقة مثل الرياض استثماراتها في هذا المجال للتنافس مع دبي، لذا يمكن اعتبار المنطقة بأكملها واحدة من مدن ميتا الآخذة بالتطور.
يشهد العالم ظهور نموذج جديد لتحديد مواقع الشركات بعد أن توسعت حدود مدننا مرة أخرى وأُعيد رسمها بدلاً من أن تتلاشى تماماً بفعل التكنولوجيا الجديدة. أدّى عصر العمل عن بُعد بعد جائحة كوفيد-19 إلى ظهور نوع جديد من المدن يجمع بين عناصر العالم الفعلي و كذلك الرقمي، وبظهور مدن ميتا تكتسب استراتيجية تحديد مواقع الشركات أهمية أكبر من أي وقت مضى. وسيتمكن القادة الذين يفهمون هذه الروابط الحاسمة بين المدن من جذب المواهب الضرورية لنجاح شركاتهم واستبقائها.