في كل مرة تحظى تقنية جديدة بالترويج بصورة كبيرة وتجذب الاهتمام العام يتهافت الكثيرون على إدخالها إلى شركاتهم، ثم يذوي جلّ هذا الاهتمام ويندثر بحلول الربع الأخير من العام، ولكن يبدو أنّ ذلك لا يشمل الذكاء الاصطناعي. والذكاء الاصطناعي هو عبارة عن سلسلة أدوات تحويلية يمكنها تسريع الإنتاج واستنتاج الرؤى وفتح الباب أمام عائدات غير مكتشفة بعد، وهي تقنية مهيأة لإحداث تغيير ثوري في طريقة إنجازنا لأعمالنا التجارية ويجب أن يفكر كل من يمارس دوراً قيادياً باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، و بكيفية إنشاء مختبرات الذكاء الاصطناعي.
ولكن هناك عدداً قليلاً من المؤسسات جاهزة لاستخدام الذكاء الاصطناعي بصورة صحيحة. فهناك مفهوم خاطئ شائع بأنّ إعادة الترويج لشركة ما على أنها شركة ذكاء اصطناعي أمر بسيط بساطة امتلاك بيانات وبنية تحتية وبيانات وتحليلات جاهزة. ولكن الحقيقة هي أنّ الذكاء الاصطناعي معقد وعالي الخطورة ومكلف، وغالباً ما يحتاج إلى إحداث تغيير كبير في الشركة. والأهم من ذلك كله هو إنه يحتاج مجموعة مواهب عالية الاختصاص، وهي اليوم تتألف بحسب أحدث التقارير من 22,000 خبير فقط على مستوى شهادة الدكتوراه في جميع أنحاء العالم، وهذه تعد مجموعة صغيرة جداً.
عندما تفكر في أنّ توقعات القيمة السوقية السنوية لتقنيات الذكاء الاصطناعي تتراوح بين 3.5 و3.8 تريليون دولار، يتضح السبب الذي يجعل معركة توظيف أحد هذه المواهب الشحيحة هو التحدي الأبرز في هذا القطاع. وفي الوقت الراهن، تجمع أكبر الشركات في العالم هؤلاء الخبراء لزيادة عدد أفراد فرقها لأنها تعي أنّ سرّ بناء برنامج ذكاء اصطناعي ناجح وقوي هو العثور على المواهب المناسبة والاحتفاظ بها.
تنمية قدرات الذكاء الاصطناعي في الشركات
لذلك، عندما اتصل بي قادة بنك رويال الكندي من أجل مساعدتهم على تنمية قدرات الذكاء الاصطناعي لديهم، أشرت عليهم بأنهم يجب أن يتجاوزوا علوم البيانات ويطبقوا الذكاء الاصطناعي الحقيقي من خلال توظيف الأشخاص المناسبين، واحتضان الأبحاث وتكييف ثقافتكم تبعاً لذلك. فالذكاء الاصطناعي حالياً هو أفق مفتوح على مصراعيه أكثر من كونه مساحة عمل مناسبة لتوظيفها في هذا القطاع أو ذاك، وتطبيقاته حديثة لدرجة تجعل عدد من يطبقونه قليل جداً، وهذا ما يجعل إيجاد المواهب والاحتفاظ بها وتطويرها من أشدّ التحديات الملحة في هذا المجال. وإن كنت ترغب بتوفير هذه القدرات في مؤسستك عليك أن توظف الأشخاص الذين يملكون التوازن المثالي بين استخدام الحدس في تحليل البيانات وأحدث المعارف المتطورة. ويكاد يكون جميع هؤلاء الأشخاص من الأكاديميين.
لا يمكن إيفاء مستوى هذه الخبرات قدره من الأهمية، فنماذج تعلم الآلة تعمل على الرياضيات التي تتطلب بدقة فهماً عميقاً لمجالات البيانات. ويمكن أن تكون المهمات البسيطة في تعلم الآلة مجهدة لمن لا يملكون الخبرات المناسبة. والأخطاء في مجال تعلم الآلة شائعة جداً، ولكنها إذا طبقت على الشركات يمكن أن يكون لها تبعات مصيرية تشمل بجانب ما الحياة والموت.
هاك مثال نموذجي لدرجة سهولة وقوع هذه الأخطاء. في عام 1973، قامت جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي بتجميع أعداد الطلاب المقبولين في الدراسات العليا واكتشفت ما بدا أنه انحياز كبير ضد المتقدمات الإناث. وكانت الأرقام المسجلة على الوثائق أنه قد تم قبول 44% من المتقدمين الذكور في برنامج الدراسات العليا مقابل 35% فقط من المتقدمات الإناث.
قامت الجامعة بداعي الخوف من الدعوى القضائية بنقل البيانات إلى قسم الإحصاء من أجل إجراء فحص أدق. وقام فريق بقيادة بيتر بيكل، الذي أصبح اليوم أستاذ الجامعة الفخري لمادة الإحصاء، بفك شيفرة الأعداد عن طريق تحليل الأقسام بصورة منفصلة. وعندما قاموا بالتحليل على هذا النحو لم تقدم البيانات أي دليل على الانحياز، وإنما كان كل ما في الأمر أنّ النساء تقدمن لبرامج دراسية صعبة وتنافسية وذات نسب قبول متدنية وبأعداد أكبر من نظرائهن الذكور. وفي الحقيقة، حظيت النساء بنسب قبول أعلى بقليل من الذكور على مستوى كل قسم. (وهذا لا يعني عدم وجود تحيز مؤثر، بل يعني ببساطة أنّ الدليل الذي استخدم لادعاء وجود هذا الانحياز، أي انخفاض نسبة قبول النساء، لم يكن بحدّ ذاته مؤشراً للانحياز).
سيعتاد الباحثون هذه الظاهرة التي تدعى مفارقة سيمبسون. إذ ازداد تعقيد تحديات تعلم الآلة بصورة كبيرة منذ ذاك الوقت، وأصبحنا بحاجة إلى سنوات من التدريب من أجل تطوير حدس مصقول جيداً يمكّننا من اكتشاف هذه المشاكل. وفي حالة بيركلي، كان لدى الإدارة فريق داخلي مؤلف من أخصائيين بارعين في الإحصاء. من السهل رؤية كيف كان إجراء التحاليل من دون خبرة سيوقع الجامعة في معركة قانونية طويلة ومكلفة، ولكن الجامعة خرجت من المشكلة بفهم أكثر دقة لإجراءات الالتحاق لديها.
في النظام الاقتصادي القائم على المعرفة، يصبح البحث وسيلة للإنتاج. ويجب أن يضع الإقرار بهذا الأمر نهاية لأي مفاهيم خاطئة تقول إنه بإمكان الشركة القائمة على الذكاء الاصطناعي الاستمرار دون إجراء بحث داخلي. وما يغفل عنه القادة هنا عادة هو أنّ التقدم العلمي الذي أحرزناه في الذكاء الاصطناعي لا يجعل التقنية معدة تلقائياً للاستخدام في أي بيئة. فكل شركة لديها تحدياتها ومتطلباتها الخاصة، بدءاً من أنماط البيانات ذات الملكية الخاصة وصولاً إلى القيود التشغيلية ومتطلبات الالتزام بالقوانين، والتي قد تتطلب تعديلاً وتقدماً علمياً إضافيين.
تحقيق الميزة التنافسية عبر مختبرات الذكاء الاصطناعي
هذا ما يجعل الذكاء الاصطناعي برنامجاً ذا خطورة عالية وعائدات كبيرة. وفي الوقت الحالي، قد يبدو إجراء بحث في هذا المجال عملاً غريباً وجريئاً ولكن يجب أن يكون ذلك هو القاعدة. كما أنّ هناك ميزة تنافسية واسعة تتحقق من امتلاك هذه الحلول في شركتك. فالشركات التي تستثمر في الأبحاث التي تطوع تعلم الآلة لصناعاتها ستخلق ملكية فكرية ذات قيمة كبيرة للغاية.
إحدى طرق التخفيف من مخاطر هذه الأبحاث هي ربط البحث الأساسي (الذي هو علم صرف) ببرامج البحث التطبيقي. والبرنامج العلمي بطبيعته ذو نهاية مفتوحة، أي يمكنك الاستمرار فيه إلى الأبد لتتخطى الحدود وتفتح آفاق المعرفة. (ولهذا السبب لن تتوقف الجامعات عن العمل أبداً). أما البحث التطبيقي فهو مصمم لحل مشكلات واقعية محددة. وما يحققه البحث التطبيقي هو معرفة متى عليك إيقاف البحث والتركيز على إيجاد حل. يفيد كلّ برنامج منهما في إحداث التأثير في الآخر. إذن هي عملية دفع العجلة للأمام بشكل متزامن ومن المستبعد ألا تحقق نتائج مفيدة.
على سبيل المثال، فإنّ معالجة اللغة الطبيعية، المشار إليها بالاختصار (NLP)، هي إحدى المجالات التي ركزنا عليها في قسم "بورياليس للذكاء الاصطناعي" (Borealis AI) (فرع البحث والتطوير لدى بنك رويال الكندي). وحتى الآن، ثبت أنّ معالجة اللغة الطبيعية هي الأكثر قوة في إعراب مقاطع من النصوص وتحليلها بهدف استخلاص أنماط مفيدة. يتضمن اهتمامنا الخاص بهذا النوع من تعلم الآلة التدريب على معالجة اللغة الطبيعية على مجموعات من البيانات الجديدة من أجل توقع إمكانية تأثير الأحداث العالمية على مسارات الشركات. والهدف الأساسي هو بناء برمجيات قادرة على توجيه التحليلات المالية الواقعية نحو المعلومات المفيدة ضمن الشركات التي تطبق فيها هذه التقنية.
من الضروري ملاحظة أنّ أحدث التطورات في تعلم الآلة لم تصل بعد إلى مستوى يمكّنها من حل جميع جوانب هذه المشكلة. ويتحقق أفضل أداء لخوارزميات معالجة اللغة الطبيعية ضمن البيئات المقيدة، كأنظمة السؤال والجواب، حيث يمكن للمستخدمين طرح سؤال على جهاز الكمبيوتر ضمن قائمة محدودة من الأسئلة المحتملة. وبما أنّ جهاز الكمبيوتر يعرف ما يتوقعه في صيغة لغوية، يمكن للبرنامج الإجابة وفقاً لذلك. ولكن عندما يكون الهدف هو فهم أمر حيوي كالأخبار وتطبيق هذه المعلومات على العلاقات بين الشركات والأحداث العالمية، يتطلب ذلك القدرة على تحديد السياق ومن ثم تعقب تطور كل الكيانات المعقدة والقائمة على الوقت. وهنا يأتي دور الارتباط بين البحثين الأساسي والتطبيقي. وفي حالتنا، يهدف البحث الأساسي إلى دفع برمجة اللغة الطبيعية للتقدم إلى مكان يمكّنها من العمل بصورة مستقلة على إجراء استنتاج عالي المستوى قائم على اللغة وفهم العلاقات المركبة بنفس مستوى ما يقوم به البشر. ويعمل أخصائيو البحث التطبيقي لدينا على ضمان أن تصبح هذه الحلول قابلة للتطبيق الفوري على الخدمات المالية. وهكذا نقوم ببناء المنتجات في الوقت الذي ندفع فيه حدود العلم إلى آفاق جديدة.
وتكمن آخر خطوة في بناء برنامج ذكاء اصطناعي في خلق البيئة المناسبة. فالعالم الآن، كما يقال، في قبضة باحث الذكاء الاصطناعي. وفي الأنظمة الاقتصادية غير المستقرة، يكون باحثو الذكاء الاصطناعي من بين القلة القليلة الذين يتمتعون بفرص تتضاعف فوائدها وتتزايد باستمرار. وأفضل بداية هي تقديم مساحة عمل دينامية ومريحة وفريدة للمواهب المحتملة. ويجب عليك أن تكون قادراً على تقديم مجموعات كافية من البيانات وبرامج هامة للعمل. كما يجب توفير أجهزة كمبيوتر جيدة وفريق قوي لتقديم الإرشاد البحثي. ولكن الدافع الأساسي هو القدرة على إجراء بحوث قائمة على الفضول.
عندما تقوم بتعيين موظفين من الأوساط الأكاديمية تكون قد دعوت مجموعة أشخاص قادمين من ثقافة معينة إلى مؤسستك، وهم يتشاركون قيماً مبنية على كلّ من روح حلّ المشكلات الكبيرة المفيدة وامتلاك القدرة على نشر نتائج جهودهم. يفتخر الباحثون بالمساهمات التي يقدمونها، ولذلك يجب أن تتوفر هذه العوامل. ويترجم هذا إلى إعادة إنتاج بعض شروط العمل التي أحضروها معهم من الوسط الأكاديمي مع السماح في ذات الوقت بشفافية التعاون وتعميم النشر الذي يفيد بتطوير مجتمعهم ككل. يجب على الشركات التي تعمل في بيئات مغلقة إعادة النظر في هذه الخطة. وإن كنت تعمل في هذا المجال، فعليك أن تثبت مؤهلاتك وليس العكس.
إنّ تشغيل شركة في الوقت الذي يجري فيه هذا التغيير التقني الكبير فرصة نادرة يجب اغتنامها لاسيما على أعتاب نقطة تحول اقتصادية. وفي حين أنه ليس بإمكاننا بعد توقع طريقة إعادة تشكيل السوق، إلا أنّ الانتشار الكبير للذكاء الاصطناعي، والذي جعله فعلياً جزءاً من تقنياتنا الجوهرية، يجعل الكفة تميل لصالح تبنيه في وقت مبكر.
ولكن على عكس الثورة الصناعية الأخيرة، لن يفي الاستثمار في الآلات الضخمة بالغرض. ولكي تتمكن من التأثير في السوق حقاً والبقاء منسجماً معه، يرجع الأمر للقادة التنفيذيين في بناء الجسر بين البحث العلمي والتسويق التجاري، ولن يزدهر الأثر الحقيقي للذكاء الاصطناعي إلا عن طريق هذا المسار التعاوني.
اقرأ أيضاً: