هل تشعر بأنك مثقل بالديون الطلابية، وترى أن الخيارات الوظيفية المطروحة أمامك قليلة جداً؟ من الطبيعي أن تشعر بالقلق، فالاقتصاد يمر بمرحلة تحول جذرية تشهد تغيّر طبيعة العمل، وهناك بعض الوظائف التي تختفي تماماً من الوجود بسبب ظهور التكنولوجيا. وما يزيد الأمر تعقيداً أن معظم القطاعات تخضع لسيطرة حفنة من النجوم العملاقة، وهي شركات لامعة تغدق على موظفيها بأكبر الأجور. إذا عملت في إحدى هذه الشركات، فسوف تحصل على علاوات أكبر، وتتعلم مهارات مفيدة، وتحظى بخاتم القبول الذي يوفر لك الموثوقية طوال مسيرتك المهنية. أما إذا لم تكن تعمل فيها، فقد تصاب مسيرتك المهنية والأجور التي تحصل عليها بالجمود.
إن اختيار المسار الوظيفي المناسب هو العامل الحاسم والأهم لتحقيق نجاح يستمر طوال حياتك. ولكن لا تهب شيئاً – حيث يمكنك اتخاذ القرار الصحيح عن طريق تطبيق بعض أدوات تقييم المخاطر الأساسية على أثمن أصولك: وهو الدخل المستقبلي.
أبسط أدوات تقييم المخاطر وأكثرها فاعلية هي تحديد أهداف واضحة
قد يكون هذا أصعب دور تضطلع به، لأن معظم الناس لا يعرفون ماذا يريدون بالتحديد. ولا يزال هؤلاء الأشخاص الذين التقيتهم في الجامعة والذين كانوا يعرفون، وهم لا يزالون في الثانية والعشرين من العمر، أنهم يريدون أن يصبحوا محللي أبحاث الأسهم، وينجبوا ثلاثة أطفال، ويعيشوا في ضواحي المدينة. وقد حصل الكثير منهم على ما كانوا يريدون، ولا أعلم إن كانوا سعداء أم لا، ولكن لا شك أن رؤية الأهداف واضحة أمامهم زادت من احتماليات حصولهم على ما يريدون.
ولكن لا يتمتع معظمنا بمثل هذه الرؤية الواضحة في سن الثانية والعشرين، ولا حتى الثانية والخمسين، ولا بأس، فأحد أساليب البحث عن إجابة أن تفكر ملياً وبتأن حيال ما تريد أن تصل إليه خلال مسيرتك المهنية، غير المسميات الوظيفية والإنجازات المحددة.
ينصحك البعض أن تُطارد شغفك، ويقول آخرون إنك في حاجة لأن تنضج أولاً، وأن تحصل على وظيفة معقولة، وأن تكتسب هوايات ممتعة. وأنا أميل إلى موافقة معسكر من يتبعون شغفهم مع التحلي بقدر كبير من الواقعية. فإذا كان شغفك هو كتابة الروايات، فهناك طرق من شأنها تحقيق ما يثير شغفك ولا يشترط أن تكون روائياً. ما الشيء الذي تحبه بشأن الكتابة: هل هي عملية الكتابة نفسها؟ أم أنه الإبداع الذي يكتنف الكتابة؟ أم أنك تحب الكتابة لأنك تعمل حينها وحدك؟ قد تكون هناك مسارات تقدم لك هذه الأشياء دون المجازفة بأن تصبح روائياً – مثل التسويق، والعلاقات العامة، ووسائل الإعلام، والتدريس.
فكّر في المخاطر التي تواجهها وأنت في طريقك نحو تحقيق أهدافك
بشكل عام، هناك نوعان من المخاطر يجب عليك التعامل معها: المخاطر غير الاعتيادية (وهي المخاطر التي قد تكون ذات طابع خاص بالنسبة لك أو لوظيفة بعينها) والمخاطر الاعتيادية (وهي المخاطر التي تنطبق على منظومة العمل ككل).
من أمثلة المخاطر غير الاعتيادية أن تعمل في شركة تضطر إلى إيقاف نشاطها بسبب سوء الإدارة، أو ربما أنك تقدم استقالتك، لأن ثقافة هذه الشركة غير مناسبة لك. يمكنك تقييم هذا النوع من المخاطر بالطريقة نفسها التي يستخدمها المستثمرون – عن طريق تنويع مهاراتك والخيارات الوظيفية المتاحة أمامك.
ومن أمثلة المخاطر الاعتيادية أن تفقد وظيفتك (وكذا راتبك) إذا ما أصيب الاقتصاد بحالة من الركود. قد يكون هذا النوع من المخاطر أكثر تدميراً لأنك قد تخسر وظيفتك في أسوأ الأوقات: عندما تنخفض سوق الأسهم، وترتفع معدلات البطالة، ويصعب إيجاد فرص عمل جديدة.
الخبر السار هنا هو أن الأشخاص الذين يواجهون المخاطر الاعتيادية أكثر عرضة لتقاضي رواتب أكبر، وهذا هو أحد الأسباب التي تفسر سبب ارتفاع الرواتب في وظائف القطاع المالي – فالشركات العاملة في القطاع المالي تدفع لموظفيها علاوات كبيرة عندما تسير الأمور على ما يرام، وتسرّحهم عندما تكون الأمور على غير ما يرام.
فهل يستحق الأمر أن تواجه المزيد من المخاطر الاعتيادية من أجل الحصول على مقدار أكبر من المال؟ هذا سؤال شخصي تتوقف إجابته على تفضيلاتك، وعلى أسلوب حياتك، فبعض الأشخاص يفضلون الاستقرار الوظيفي على الحصول على أجور أعلى، وهي الطريقة التي يتبعها الكثير من المستثمرين بالامتناع عن الحصول على مكاسب كبيرة في سبيل الحصول على محفظة استثمارية آمنة، لذا فكر في المخاطر التي تستطيع تحمّل عواقبها.
إن هذه الأنواع من المخاطر موجودة دائماً، إلا أن المخاطر الاعتيادية والمخاطر غير الاعتيادية اتخذت بُعداً جديداً في الاقتصاد المعاصر، فهناك مخاطرة اعتيادية بتعرض وظيفتك للاختفاء من الوجود، لأن الآلة ستحل محلك، وهناك مخاطرة غير اعتيادية بالتحاقك في نهاية المطاف بعمل في شركة لا تستطيع التنافس في السوق. ويتطلب التعاطي مع هذه المخاطر اتباع استراتيجيات أكثر تعقيداً.
اختيار وظيفتك الأولى
في كتابه "كيف تفوز في عالم يحظى فيه الفائز بكل شيء" (How to Win in a Winner-Take-All World)، يقول نيل إيروين، مراسل صحيفة نيويورك تايمز إن العمل لدى شركة من نوعية معينة يشبه اختيار سهم من نوع معين، ويتوقف الاختيار المناسب على مدى تحملك للمخاطر، وعلى مقدار الدخل الذي تحتاج إليه، وعلى ما يمكنك الحصول عليه. واختيار أحد هذه الأنواع من الشركات (أو إذا وقع اختيارها هي عليك) إنما هي الخطوة الأولى، وكأي استراتيجية استثمار، فإنك في حاجة أيضاً إلى خطة لتقييم المخاطر.
يرى إيروين أن الشركات الكبرى هي المعادل الوظيفي لأسهم النمو – فهي تسيطر على القطاعات التي تعمل بها، وتبدو مؤهلة للمزيد من النمو في المستقبل. وإذا كنت محظوظاً بالقدر الكافي لأن تكون وظيفتك الأولى في إحدى هذه الشركات الكبرى (مثل "جوجل"، أو "وول مارت"، أو "غاغوسيان") فقد تكون هذه بداية رائعة وكبيرة لحياتك المهنية.
ولكنك ستخطئ في حق نفسك إذا ظننت أن مثل هذه الفرصة تذكرة ذهبية للحصول على مسيرة مهنية رائعة طوال حياتك، فهذا النوع من الوظائف في الشركات الكُبرى قد لا يكون مناسباً للجميع، حيث لا يكون هناك المزيد من فرص النمو – كان أفضل وقت للالتحاق بالعمل في شركة "جوجل" في بداياتها، وتلك أيام ولت منذ زمن بعيد، فالشركات الكُبرى أصبحت كُبرى بالفعل، ولكي تحقق النجاح، عليك أن تجتاز بيروقراطيتها وسياساتها وأن تتجنب التقيد بالوظيفة نفسها. وللشركات الكُبرى أثر إيجابي هائل على موظفيها، لأنها تتمتع بثقافة من المفترض أن تكون ممتناً للعمل فيها. هذا يعني أنك قد تجد صعوبات لنيل التقدير، أو احتلال مكانة رائدة أو الترقي في مناصب الشركة. أيضاً ليس معنى أن الشركة كبيرة وبارزة أنك لا تواجه بعض المخاطر غير الاعتيادية، فالشركة الكبرى اليوم قد لا تكون كذلك غداً.
ثمة خيار آخر، وهو أن تتوجه نحو شركة ناشئة، التي تتيح بعض الإيجابيات إذا كانت ستحذو حذو "جوجل"، وإن كان هذا احتمالاً مستبعداً، ولكن في الشركات الصغيرة لن تُصبح حبيس دور معين تضطلع به، وستزداد فرص تحملك للكثير من المسؤوليات وتعلم مهارات جديدة. أما سلبيات العمل لدى مثل هذه الشركات، فتشمل مواجهة الكثير من المخاطر غير الاعتيادية – واحتمالات فشل الشركة الناشئة قائمة. ثمة احتمالية قائمة أيضاً بسوء إدارة هذه الشركات، واكتساب القليل من المهارات القابلة للنقل والمزيد من العادات السيئة. وهناك أيضاً مخاطرة أن تقضي سنوات في الشركة الناشئة دون أن تتلقى أجراً كافياً ويمسي الأمر كله في النهاية بلا جدوى. تطرح الشركات الناشئة أيضاً المزيد من المخاطر الاعتيادية، لأن مثل هذه الشركات في طور البداية تكون في حاجة إلى تمويل خارجي يتوقف على الدورة الاقتصادية.
والخيار الثالث المتاح أمامك هو ما يشبهه إيروين بأسهم القيمة: الشركات منقوصة القيمة، التي يغلب على الظن أن أفضل أيامها، ولكنها تحاول جاهدة أن تحافظ على مكانها وسط القطيع (أو ربما تتخلف عنه بالفعل). وميزة الحصول على وظيفة في هذه الشركات أنها تقدم فرصة لشاب طموح يفتقر إلى مؤهلات الكفاءة، كما أنك تتعلم الكثير من الأشياء عندما تكون في شركة تسير فيها الأمور بشكل خاطئ، حيث إن معرفة ما لا يُجدي نفعاً لا يقل أهمية عن معرفة ما يجدي نفعاً بالفعل. ولكن هناك احتمالات بأن تضل طريقك في بيروقراطية هذه الشركات، لأن الشركات الأقدم عمراً تتصف بالتزمت ومقاومة للتغيير، كما أنك قد تواجه احتمالية كبيرة بفقدان وظيفتك.
لو كنت تمتلك بلورة سحرية، لكان أفضل مسار وظيفي على الإطلاق يتمثل في البدء بالعمل مع شركة ناشئة مقدر لها النجاح، وأن تظل معها حتى تقطف ثمار نجاحها، ثم تتوجه إلى أخرى غيرها، ولكن وكما هو حال الاستثمار في سوق الأسهم، فإننا لا نعلم مستقبل شركة بعينها، لذا عليك أن تخوض المخاطرة، وأفضل رهان لديك أن تختار الشركة التي تشعر بأنها أكثر ملاءمة لك، والتي تشعر فيها أيضاً بأنك ستتعلم الكثير، وستجد فيها معلمين رائعين. في الأغلب الأعم، فإن وظيفتك الأولى هذه لن تكون الأخيرة، وأنك ستعمل لدى شركات من نوعيات مختلفة على مدار حياتك، ولكن البدء بالطريقة الصحيحة سيكون بمثابة أساس متين تستطيع الاستناد عليه لخوض المخاطر الصحيحة والتعامل مع مختلف أشكال التقلبات التي تلاقيها في ظل ذلك الاقتصاد المتغير.