إذا قلت اليوم إن الإعلام مهمته نقل الحقيقة أو كشفها، ستسمع من يقول لك "أي حقيقة"؟
لقد تنامت يوماً بعد يوم دعوات التعامل بنسبية مع "الحقيقة" في الإعلام، وقد تصاعد هذا التشكيك بشكل كبير في السنوات الأخيرة. فبعد التدفق الكبير في الأخبار المزيفة والتي ساهم فيها دخول عموم الناس إلى ميدان صناعة الأخبار، وتوفر المنصات المجانية والمؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أُتيحت لحكومات ومؤسسات وأفراد اعتلائها لصناعة بروباغاندا مركزة وقوية، وهو ما أدى مع الوقت لفرض حقائق مزيفة على الوعي العام، كما ترسخّت بقوة التكرار. ولكن على الرغم من ذلك فإن الحقيقة موجودة حتى ولو نسيها بعضنا أو أراد تشويهها آخرون. وهنا، تقول الإعلامية الأميركية الشهيرة في قناة سي إن إن كريستيان أمانبور في تعليقها على تكرار الهجوم الإعلامي من قبل الرئيس دونالد ترامب ضد وسائل إعلامية محددة في الولايات المتحدة واتهامه المستمر للإعلام بالكذب، بأنه عمل "خطير" سيؤدي مع كثرة تكراره لخلق تشكيك كامل فيما تقدمه هذه القنوات أو وسائل الإعلام من قبل شريحة من الناس في أميركا، إذ إن إصراره وتكراره لوصفهم بالكذب، سيجعل الكثيرين من الناس يتساءلون "ماذا لو كان محقاً؟ إنه رئيس الولايات المتحدة أكبر دولة في العالم، يكرر ذلك بإصرار؟".
لقد دخل السياسيون على الخط، وكلنا يذكر جلسات مجلس الأمن الدولي الطريفة حينما كان وزير الخارجية الروسي يقدم عرضاً يشكك فيه ببعض الفيديوهات أو الصور، ويصفها بالفبركة، كاشفاً نفسه أمام هجوم الخبراء في رفع الفيديوهات وتوقيتاتها بين توقيت غرب المحيط الهادئ وشرقه، أو يطرح مسؤول آخر صوراً وفيديوهات يتبين لاحقاً أنها مأخوذة من حوادث مختلفة.
ومع ذلك، لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي لوحدها، ولا تصاعد الاستقطاب السياسي حول العالم، هو السبب الوحيد لتشكل مرحلة التشكيك في الحقيقة، بل عمل التقدم التكنولوجي المتسارع والذي ساهم في صناعة الأخبار المفبركة بطريقة احترافية، إلى دخول تزييف الأخبار والصور والفيديوهات عصر العمل الاحترافي، لدرجة استخدم فيها الذكاء الاصطناعي لخلق حقائق مزيفة.
لقد تغيرت قناعات الناس ومواقفهم تجاه المعلومات منذ أن انطلق عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا بهذه السرعة غير المسبوقة منذ بدء الألفية، فبعد أن كانت الفلسفة السائدة عن "الحقيقة" تتحدث عن صراع مستمر منذ القرن السابع عشر بين رأي الفيلسوف ديكارت القائل أن الناس يشككون بالمعلومات أولاً ثم يقبلون ما يعتقدونه صحيحاً، وبين رأي الفيلسوف سبينوزا القائل أن الناس يقبلون كل المعلومات أولاً ويفترضونها صحيحة حتى يثبت العكس. لقد كانت مصداقية الأخبار والمعلومات عالية في تلك الفترة عندما كان تزويدها محصوراً من قبل المؤسسات المهنية، وكانت المنافسة على أشدها، وهو ما كان يضمن التدقيق الشديد ضماناً لاكتساب الجمهور والمعلنين، ولذلك فقد أثبتت دراسة علمية ميدانية في عام 1990 شارك بها مجموعة باحثين من جامعات تكساس وميزوري نظرية سبينوزا، بأن الناس في تلك الفترة كانوا يتلقون المعلومات على أنها "حقيقة" ثم يخضعونها للتدقيق اللاحق.
لكن الواقع تغير وظهرت فلسفة جديدة مع تصاعد الآثار الجانبية لثورة المعلومات والإنترنت والتكنولوجيا، فلقد ظهر منهج فكري كامل ينعي "الحقيقة" منذ بدايات الألفية الجديدة، حيث ظهر لأول مرة وبقوة مصطلح "ما بعد الحقيقة" في عام 2004، عندما أصدر الكاتب الأميركي رالف كييس كتاباً بعنوان "عصر ما بعد الحقيقة، الكذب والخداع في الحياة المعاصرة" (The Post-Truth Era: Dishonesty and Deception in Contemporary Life)، ذلك الكتاب الذي أرّخ لبدء تصاعد نسبة الكذب في حياة الناس مع تصاعد التقدم التقني والرفاهية. ثم تبلور هذا المنهج بمفهوم ترسخ بقوة منذ عام 2016 باسم "مرحلة ما بعد الحقيقة" وظهر في مقال نشرته نيويورك تايمز عندما كتبت مقالاً بعنوان: "عصر سياسة ما بعد الحقيقة"، حيث رصد المقال تصاعد الكذب في الأخبار والتصريحات السياسية بالتزامن مع انتخاب الرئيس ترامب واستفتاء البريكست لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لقد تفاعل منهج "مابعد الحقيقة" لدرجة أنه تحول إلى محاولة لقتل للحقيقة وإنكار لوجودها. وتكمن الخطورة برأيي في تصاعد نعي الحقيقة واعتبارها وهماً غير موجود. صحيح أنّ الضخ المتكرر غير المحدود للأخبار المزيفة، جعل الإنسان في حيرة من أمره، ولم يعد قادراً على التفريق بين الحقيقة والتزييف، فاكتفى في كثير من الحالات بالعزوف عن الأخبار تحت وطأة ما سمي "الإرهاق من الأخبار"، لكن الإنسان ربما أكل الطعم فقرر أن كل خبر يجري التشكيك به فهو مزيف وأراح دماغه.
وتفصّل مجلة "أميركان ساينس" في مقال كتبته ثلاثة من الباحثين الفرق بين تشويه الوقائع والحقائق بشكل مقصود وغير مقصود، لكن المقال يعتبر أن كليهما "خطير" لأنه يقود إلى إضعاف الثقة بالحقيقة وتحييدها وهذا - بحسب المقال- يمكن أن ينعكس ضرراً على الصحة والمجتمع والممارسة السياسية لأنه ببساطة يتلاعب بالحقائق التي يمارس الناس على أساسها حياتهم.
وأعتقد أننا اليوم أمام محاولات متكررة لقتل الحقيقة، يشنها بشكل مدروس كل من يخاف كشف الحقيقة، ويتبناها كثيرون من الناس تحت وطأة الحيرة التي خلقها التكرار والتزييف، علماً أن مرتكبي هذا التزييف يهدفون بشكل مدروس إلى خلق هذه الحالة من الإرتباك و"الإرهاق" والاستسلام.
ولكن هل هناك "حقيقة" في الحياة أصلاً يمكن أن ينقلها الإعلام؟ لقد بدأ هذا التساؤل يعمم على كل شيء منذ تحدث أينشتاين عن نظريته النسبية. وقد أحب الناس لاحقاً استخدام هذه النظرية العلمية لإسكات من يتحدث عن أي حقيقة، فالأشياء متحركة ومقياسنا للأحداث متغير بتغير البعد الزمني، حيث دمجت النظرية النسبية بين الزمان والمكان للحكم على حجم ما يحدث أو سرعته. حسناً، وماذا يعني هذا؟
لقد ظهرت تفسيرات تدعي أن "كل شيء في الحياة نسبي" وأنه لا حقيقة على وجه الأرض. علماً أن النسبية كنظرية لم تقصد هذا الأمر أساساً، إذ يحدد ما أسمته النظرية "الإطار المرجعي" لتثبيت منظورنا الزمني لكل حدث فقط دون تقييمه أخلاقياً.
وما ساهم ربما في تصاعد الجدل حول "نسبية الحقيقة" انتشار المقولة المنسوبة للرياضي الفرنسي بليز باسكال في القرن السابع عشر بأن "الحقيقة قبل جبال البرينيه، خطأ ما بعدها"، لتعزيز هذا التوجه الذي أراح ضمائر الكثيرين من تحمل العبء الأخلاقي والقانوني لدى ارتكاب بعض الأفعال.
وعلى الرغم من أن باسكال كان يتحدث في هذا الاقتباس عن اختلاف القوانين والقيم من بلد لأخر في الحكم على الأحداث، إلا أن المؤكد هو أن هنالك حدث قد حدث. وسؤالنا في الإعلام هو عن صحة ما حدث بصرف النظر عن تقييمه الأخلاقي. وفي هذا السياق فإنني أورد هذه الإجابة التي أحببتها عن السؤال التالي: "أليست الحقيقة أمراً صعباً، وهي كانت وستبقى منذ الأزل البحث المحموم الذي يسعى إليه رجال الدين والفلاسفة والعلماء؟"، يقول الأستاذ ريموند برادلي (راي) في الإجابة عن هذا السؤال: دعنا نهتم بالبحث عن "الصح" أي "True" وليس بالضرورة البحث الأزلي عن "الحقيقة" أي "Truth".
وما يهمنا في الخبر الإعلامي هو الوصول لتأكيد صحة الخبر أي "True".
لقد خلط الناس على مر الزمن بين حقيقة ما حدث والمتعلقة بصحة حدوث أمر محدد بكل تفاصيل الزمنية والمكانية وفاعلي الحدث، وبين الموقف القانوني والأخلاقي من هذا الحدث، والتي قد تختلف من بلد لآخر وقد يختلف الناس حولها.
وأعتقد أنه على الرغم من الفوضى وعلى الرغم من الضياع الذي يسببه اختلاط بعض الأحداث المحيطة بالحقيقة، فإن إعادة إنقاذ الحقيقة من محاولات الاغتيال المتكررة في الإعلام، يمكن أن يتم عبر إعادة بعث أسئلة الأخبار الخمسة؛ ماذا حدث؟ ومن قام بما حدث وأين ومتى ولماذا؟
نريد في البداية المحافظة على هذه الوقائع دون تدخل ودون تحليل ودون تقييم. وعندما نسجل الإجابات عن هذه الأسئلة الخمسة، وكأننا نملأ قائمة معلومات في جدول مؤتمت لا يحتمل الزيادة ولا النقصان:
ماذا حدث؟ قتل.
من القاتل؟ فلان.
والمقتول؟ فلان.
أين؟ في المكان الفلاني.
متى حدث ذلك؟
لماذا؟ بحسب القاتل، أو من يمثل المقتول.
وعلى الرغم من أن الإجابة عن السؤال الخامس قد تفتح الباب للجدل الذي يوصل للرأي والتقييم، إلا أنه لن يضر على كل حال، لأن الأسئلة الأربعة التي تسبق السؤال الخامس هي الأهم والضرورية للمحافظة على قراءة الحدث في سياقه، والذي سيجعل عملية التقييم والبحث عن جواب السؤال التالي: لماذا؟ أو كيف؟ أمراً أسهل.
عندما تحافظ الرواية الإعلامية على هذه الوقائع الأربعة، فإنها تسجل الحقيقة كما حدثت، وهذا أهم ما يمكن أن يقوم به الإعلام. لكن هل هذا أمر سهل؟ ماذا لو كان الحادث لم يحدث أصلاً ويجري الادعاء زوراً أو عبر فبركات تقنية متطورة ادعاء حدوثه؟ حسناً، تبقى مهمة الإعلام كشف الحقيقة والتحقق مما إذا كان الحدث المزعوم قد حدث فعلاً أم لم يحدث. وهنا عدنا مرة أخرى للبحث عن الأسئلة الخمسة: ماذا حدث؟.
لكن هل إثبات ذلك أمر سهل؟ بالتأكيد لا. وهل إثباته أو نفيه أمر ممكن؟ بالطبع ممكن. فمثلما تطورت التكنولوجيا في مساعدة التزييف والفبركة فقد تطورت في كشفها، وطور الخبراء تقنيات للتحقق من المعلومات والصور المفبركة والفيديوهات بطرق متقدمة.
ونعود للفكرة التي طرحناها قبل قليل؛ هل تبرر صعوبة قدرتنا على التحقق من تزييف خبر أو معلومة أو صحتها، أن نتجاهله ونفترض أنه لم يحدث؟ ماذا لو كان قد حدث فعلاً؟ ماذا لو كان المناخ الذي ساد في هذه المرحلة من فوضى التزييف الإعلامي وبروباغاندا وسائل التواصل الاجتماعي قد جعل مرتكبي الفضائع والجرائم والفساد يجدون ملجأ سهلاً للإفلات من العقاب عبر كلمة بسيطة "مفبرك".
- تقول له: لدينا وثيقة.
- يجيبك: مفبركة.
- تقول له: لدينا صور.
- يجيبك: مفبركة.
- تقول له: لدينا فيديو.
- يجيبك: مفبرك هو الآخر.
تعلمون كم تكرر في السنوات الأخيرة ظهور الصور والفيديوهات المنشورة من بورما وسورية، حول فظائع وجرائم بحق الإنسانية ترتكب علناً، ولم يكن لدى مرتكبيها أي وجل أو تردد حينما يقولون بكل بساطة "إن هذا لم يحدث". حتى أن رئيسة وزراء بورما حصلت على جائزة نوبل للسلام وسط تكتيك وتكذيب لكل الصور والفيديوهات التي تتسرب عن مئات الآلاف من الروهينغا المضطهدين والمبعدين من ديارهم قسراً، ببساطة لقد خدعت بعض السلطات العالم بأسره بكلمة "مفبرك".
ربما يستطيع بعض الناس من قراء ومتابعين للإعلام أو حتى بعض الإعلاميين أن يقولوا لأنفسهم: "حسناً سأتجاهل الخبر الذي ينتابه الشك. ما دامت هنالك أخبار تدّعي حدوثه، وسط إنكار الطرف الآخر الذي ينفي حدوثه".
يمكن لبعض الناس أن يقرروا تجاهل مثل هذه الأخبار، واعتبارها وكأنها لم تحدث بسبب التشكيك فيها، ثم ينظرون إلى أنفسهم في المرآة وينامون بشكل طبيعي، لكن هذا لن يحدث مع الصحفي الحقيقي.
قد ينجح بعض صناع البروباغاندا في قتل خبر. وكيف يقتل الخبر؟ عندما يتم التشكيك به لدرجة إزالته من على الخارطة الإخبارية، بمعنى آخر إزالته من التاريخ، وبمعنى أدق إزالة الحقيقة من التاريخ وقتلها. هل حدث ذلك من قبل؟ هل تم نشر خبر وخضع لحملة تكذيب جعلت الجميع مجبراً على حذفه، على الرغم من أنه كان حقيقة كما اكتشف العالم لاحقاً؟ كم بريئاً تم إعدامه وكم مجرم وفاسد أفلتوا من العدالة، وأصبحوا نجوماً بعدما شككوا في الحقيقة وتلاعبوا بها.
تقول الإعلامية الأميركية أمانبور وهي التي شهدت تغطية حرب البوسنة: "هناك دوماً خطط لتشويه الحقائق، ينشرها مرتكبوها الفظائع وربما يبتلع الإعلام الطعم، عندما يجعلون الناس يصلون إلى استنتاج مريح لضمائرهم حول بعض الأحداث التي تتزاحم الاتهامات حولها بين مدع لخبر ومكذب له، بأن يقولوا حسناً دعنا نقول إنها خصومة أو حرب أهلية أو أناس يقتلون بعضهم، ولا نعلم القاتل من الضحية، إن هذا تورط في الجريمة التي تقع، ولقد بدأ الناس يقولون عن حرب البوسنة أنها "حرب أهلية"، ولكن - تقول أمانبور- مهما حدث لاحقاً من حرب في البوسنة، مهما حدث من قتل وقتل مضاد، فإن الحقيقة والخط الزمني للأحداث هو "أن الصرب بدؤوا قتل البوسنيين، وكانوا هم القوة المرتبكة وليس صاحبة رد الفعل"، ومهما حدث من ردود فعل من البوسنيين فإن الحقيقة هي هذه "الصرب اعتدوا على البوسنيين وقتلوهم".
لا يمكن أن تدع اختلاط الأحداث وكثرة الاتهامات بالفبركة ووجود الفبركة، أن تجعلك تصل لهذا الخيار السهل والمريح والذي يقتل الحقيقة ويحذفها من التاريخ، وتقول لنفسك: حسناً ما حدث في سورية هو حرب أهلية، وفقط.
لكن هل هذا ينفي وجود حقيقة حدثت فعلاً، سواء كشفناها أم لم نستطع؟ ثمة حقيقة دوماً، وتصاعد التزييف وتقنياته، لا يوقف الإعلامي عن الحفر عميقاً لكشفها والتحقق منها.
هل تقول إن عموم الناس لن يتحملوا هذا الخلط، ولن يكونوا متفرغين ولا مستعدين لتعلم تقنيات التحقق من التزييف والتضليل الإعلامي؟ حسناً، هذه مهمة الإعلاميين، ولهذا السبب فإن الخبر ليس أبسط الأنواع الإعلامية كما يظن الكثيرون، ولهذا السبب تضع وكالات الأنباء المحترفة شروطاً ومعايير صارمة للخبر، ويخضع صحفيو الأخبار فيها للتدريب على تقنيات التقصي والتحقيق، ولهذا تزدهر أهمية أقسام الاستقصاء والتحقيق في الإعلام. ولهذا فإن اسمها "مهنة المتاعب".