هل تتحول الولايات المتحدة إلى مجتمع بلا نقود مالية؟

5 دقائق

هل ستتحول الولايات المتحدة إلى مجتمع بلا نقود؟

مع انتشار وسائل الدفع الرقمي، بدءاً من المقاهي على السواحل وصولاً إلى المطاعم الريفية، يطرح أصحاب الشركات والمشرعون والزبائن في جميع أنحاء أميركا هذا السؤال. واعتماداً على مكان إقامتك يكون النقاش حول "التعامل غير النقدي" إما نقاشاً ساخناً، وإما نفحة من المستقبل، أو مصطلحاً لم تسمع به من قبل. وحيث يكون الخلاف، يسلط الضوء على التوتر المتنامي بين مشهد مدفوعات المستهلكين المتطور والرغبة في رفع كفاءة الأعمال من جهة، والقلق والمخاوف المتنامية بشأن احتمال تهميش المجتمع غير النقدي للزبائن غير المستفيدين من الخدمات المصرفية أو الذين لا يحصلون إلا على قدر ضئيل منها.

ساهم ظهور المدفوعات الرقمية في التحول المستمر لأساليب الدفع بين الزبائن، بما فيها بطاقات الخصم والائتمان التقليدية، بالإضافة إلى الدفع عن طريق الهاتف النقال. ووفقاً لشركة التأمين على الودائع الفيدرالية (FDIC)، شكّل الدفع النقدي 30% فقط من جميع المدفوعات في عام 2017، وفي العام نفسه حصلت نسبة 68.7% من الأسر على بطاقة ائتمان مقابل 63.8% في عام 2015. ويستجيب أصحاب الشركات الذين يعون هذا الاتجاه وفقاً لذلك، إذ يذهب بعضهم إلى الانتقال كلياً إلى أساليب الدفع غير النقدية سعياً إلى زيادة الكفاءة التشغيلية، وتقليص أوقات انتظار الزبائن، وإنشاء بيئة عمل أكثر أماناً عن طريق الحدّ من خطورة التعرض للسرقة. وربما كان أبرز وأهم مثال على الشركات غير النقدية متاجر (أمازون غو) (Amazon Go)، التي تستخدم تقنية رؤية الكمبيوتر بدلاً من موظفي الصندوق من أجل تسجيل ما يختاره الزبائن وإضافة قيمته إلى بطاقاتهم.

ولكن هل يعني ذلك أننا على مشارف ثورة لا نقدية؟ للإجابة عن هذا التساؤل، تعاونت مع شركة سكوير للمدفوعات والخدمات المالية. وقمنا بتحليل الملايين من تعاملات الدفع من قاعدة بياناتها من أجل تحديد مدى اقتراب الولايات المتحدة من التحول إلى مجتمع بلا نقود. وأشارت النتائج التي توصلنا إليها إلى أنّ التوجه نحو التعامل غير النقدي واضح ولكنه ينطوي على فروق دقيقة، وهو يسلط الضوء على بعض العوامل التي يجب على البائعين أخذها في الحسبان عند التفكير باستخدام أساليب الدفع غير النقدية.

أولاً، يبين تحليلنا تزايد عدد المستهلكين الذين يستخدمون بطاقات الخصم والائتمان في عمليات الشراء الصغيرة، وفي الأعوام الأربعة الماضية، تراجعت نسبة استخدام الدفع النقدي للعمليات التي تقل عن 20 دولاراً من 46% إلى 37%، وفي عام 2015 تحديداً، كان نصف الزبائن في شركة سكوير يستخدمون بطاقاتهم لدفع مبلغ 8 دولارات فقط، لشراء شطيرة مثلاً. وبعد أربعة أعوام، أي في عام 2019، تضاءل حجم العملية إلى النصف تقريباً، وأصبح 50% من الزبائن اليوم يستخدمون بطاقاتهم لدفع مبالغ ضئيلة تصل إلى 4.50 دولار، لشراء كوب قهوة مثلاً.

يمكن أن نعزو هذا التغير في السلوك إلى قيام شركات بطاقات الائتمان بالتسويق لاستخدام البطاقات من أجل القيام بعمليات الشراء اليومية الصغيرة، في حين كانت بطاقات الائتمان في السابق لا تستخدم إلا للقيام بعمليات شراء كبيرة أو خاصة أو طارئة. ولكن لم تعد هذه العقلية موجودة اليوم، فقد أصبح الناس يشعرون براحة أكبر في استخدام بطاقات الائتمان للقيام بعمليات شراء صغيرة في أماكن مثل الصيدليات والمقاهي ومطاعم الوجبات السريعة.

ثانياً، لا يقتصر هذا التوجه على المناطق الساحلية والمدن الرئيسية، ففي المناطق الواقعة خارج أسواق المدن الخمس والعشرين الكبرى انخفض مقدار المبالغ التي يفضل المستهلكون استخدام بطاقاتهم لدفعها من 8 دولارات إلى 5 دولارات على مدى السنوات الأربع الأخيرة. أما داخل هذه الأسواق، فلم يكن الانخفاض كبيراً إلى هذه الدرجة، إذ انخفض المبلغ الذي يفضل المستهلكون دفعه عن طريق البطاقات من 5 إلى 4 دولارات أثناء هذه الأعوام الأربعة. ومع دخول الهاتف الذكي توسعت وسائل الدفع الرقمي، وستتوسع أيضاً القدرات الخاصة بالتعامل غير النقدي.

وثالثاً، يمثل نموذج العمل بلا نقود بالنسبة لبعض مالكي الشركات، خياراً استراتيجياً يقدم فوائد وأرباحاً واضحة. وفي حين تركز معظم التصورات عن المجتمع غير النقدي على جوانبه السلبية، هناك فوائد لكل من مالكي الشركات وزبائنها المستهلكين. ويكمن السر في فهم تفضيلات الدفع لدى الزبائن.

خذ مثلاً ترافاس كليفتون، مالك سلسة مقاهي مودكب كوفي (ModCup Coffee) والبائع لدى شركة سكوير، فقد رأى فوائد استخدام وسائل الدفع غير النقدية بنفسه في المقاهي الثلاثة الجديدة التي افتتحها في مدينة نيو جيرسي. وعندما علم أن 81% من عمليات الدفع في جميع مقاهيه تتم عن طريق بطاقات الخصم أو الائتمان، قرر أن ما تبقى من عمليات الدفع النقدية، أي 19% تستحق المجازفة المحتملة من أجل كسب المزيد من الوقت مع عائلته وأعماله. يقول: "أنا أمضي ساعة ونصف، بدءاً من التاسعة صباحاً، من أجل إيداع المبالغ النقدية في المصرف، وهذا الوقت يعتبر وقت عمل قيم بالنسبة للمقهى، وهو وقت وجودي في أحد المقاهي لتقديم القهوة للناس. ولكن غيابي اضطرني لتوظيف أحد ما للقيام بهذا العمل بدلاً مني، فأدركت أن الأسلوب النقدي يكلفني المال تماماً كاستخدام بطاقات الائتمان، ولذلك قلت لنفسي: إذن، فلنعتمد الأسلوب غير النقدي"، ولم يمانع معظم زبائنه في هذا التغيير.

ولكن على بعد نحو 1,000 ميل منه في مدينة سان لويس في ولاية ميسوري، كانت لورا ليستر مالكة مطعم بيسيز (Pieces) تمر بتجربة مختلفة كلياً في إدارة مطعمها وفق نموذج غير نقدي، فقد قررت اتباع هذا النموذج منذ البداية نظراً لكفاءته وأمانه المتزايدين، ولكنها سرعان ما أدركت أنها تواجه كل يوم تقريباً بعض الزبائن المستائين لأنهم لا يستطيعون الدفع نقداً. تقول:"عندما افتتحت مطعمي كان هناك الكثير من العمل يشغلني، وقد منعني ذلك من إدراك احتمال أني أعزل فئة من الناس في مجتمعي من خلال عدم قبول الدفع النقدي. وعلى اعتباري مالكة مسؤولة للعمل ونظراً لرغبتي بمشاركة بضائعي وخدماتي مع جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية، شعرت أنّ من واجبي أن أبدأ بقبول الدفع النقدي".

وليس هذا التوجه نحو التراجع عن التعامل غير النقدي أمراً تتفرد به سان لويس أو الشركات الصغيرة فقط، خذ مثلاً شركة سويتغرين (Sweetgreen)، وهي سلسلة مطاعم تقدم أنواع السلطات السريعة، إذ توجهت إلى اعتماد النموذج غير النقدي سعياً لتحقيق الكفاءة والأمان. ولكنها اتخذت مؤخراً قرار البدء بقبول الدفع النقدي مجدداً لضمان أن يتمكن الجميع من الدخول إلى مطاعمها. وكذلك الأمر بالنسبة لأمازون، إذ غيرت مبدأ متجرها أمازون غو وبدأت بقبول الدفع النقدي عام 2019 بناء على طلب زبائنها.

والجدير بالذكر أنه في بعض المدن والولايات، هناك قانون مقترح يحظر الشركات غير النقدية، وبالتالي، من الممكن أن يخرج قرار اختيار وسيلة الدفع من أيدي أصحاب الشركات قريباً. وقد اضطرت ثلاثة مقاهي يملكها كليفتون للعودة إلى قبول الدفع النقدي بعد أن أقرت ولاية نيو جيرسي قانوناً يحظر الشركات غير النقدية الربيع الماضي. وفي حين يصف كليفتون هذا القانون بأنه متماد ويسيء للأعمال، تم إقرار قانون مماثل في فيلادلفيا واقتراحه في مدن نيويورك وسان فرانسيسكو وواشنطن العاصمة. ويبين بحث أجراه طرف ثالث بتكليف من شركة سكوير أن 51% من أصحاب الشركات الصغيرة يدعمون حظر الحكومة للشركات غير النقدية، وأن 83% من أصحاب الشركات الصغيرة في أميركا لم يخططوا إطلاقاً لاتباع النموذج غير النقدي، وأن 73% منهم يعتقدون أن الولايات المتحدة لن تكون يوماً مجتمعاً لا نقدياً بالكامل.

وبالنظر إلى هذه البيانات مجتمعة، نجد أنها تشير فعلاً إلى بدء ظهور مجتمع يتعامل بأسلوب نقدي أقل، ولكن لن يتحقق المجتمع غير النقدي بالكامل في القريب المنظور، وخصوصاً مع وجود 70% من الأميركيين الذين يقولون إنهم ما زالوا يلجؤون للدفع نقداً كل أسبوع. إلا أن تحقيق مجتمع لا نقدي بنسبة 50% أو 60% أو 70% هو أمر ممكن بالتأكيد، وقد تحقق فعلاً في عدد من أسواق الولايات المتحدة. وأتوقع أن تأتي نقطة التحول مع قيام الجيل الأصغر الأكثر خبرة بالتقنيات بإدخال عاداته في الدفع الرقمي إلى شركاته في المستقبل، وإذا ترافق ذلك مع الجهود الراسخة من أجل بناء جسور بين الأقسام المصرفية والرقمية، فسيتحقق تحول كبير نحو التعامل غير النقدي.

ولكن في الوقت الراهن، في الأسواق التي لا تضع القوانين والأنظمة فيها قيوداً على خيار اتباع النموذج غير النقدي، يمكن لأصحاب الشركات ومدرائها دراسة بيانات تعاملاتهم من أجل تحديد استراتيجية الدفع التي تحافظ على صحة شركاتهم مع تلبية الاحتياجات الفريدة لزبائنهم في الوقت نفسه. واليوم، في مشهد المطاعم ومتاجر التجزئة شديد التنافس والمتغير باستمرار، يجب على الشركات التقليدية ضمان أمر واحد بسيط: ألا وهو عدم تفويت أي عملية بيع.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي