بدأ الابتكار في مجال الرعاية الصحية منذ آلاف السنين، وساهم في تغيير طريقة حصول المرضى على رعايتهم الصحية، وساعدنا جميعاً في الاستمتاع بحياة سليمة. إنه أمر استثنائي نعاصره في حياتنا اليومية.
دعونا نبحث في قصة ابتكار الأشعة السينية، التي جاء اكتشافها بمحض الصدفة في عام 1895. كان حينها العالم الفيزيائي فيلهلم كونراد رونتجن يختبر التفريغ الكهربائي عندما لاحظ التأثيرات الضوئية الصادرة من كلوريد الباريوم الذي كان يستخدمه لدراسة أثر التيارات الكهربائية التي تمر من خلال الغاز. لاقت فكرته في البداية رفضاً من جانب أخصائيي الرعاية الصحية، وبعد مرور 126 عاماً لم نكن نتخيل أبداً أن التشخيص والعلاج الدقيق للكسور سيكون ممكناً من دون الاستعانة بالأشعة السينية، إلى أن أصبحت هذه الأشعة مستخدمة بصورة يومية لمساعدة ملايين الأشخاص حول العالم.
لقد أحدثت أدوات مثل الجراحة الروبوتية والذكاء الاصطناعي ثورة في العلوم، ونشهد في عام 2021 مرحلة تحول على مستوى العالم في الطريقة التي تقود بها التكنولوجيا قطاع الرعاية الصحية. لقد أصبح بمقدور التقنيات الجديدة إحداث أثر ملموس في الطريقة التي نعيش بها، بدءاً من الطريقة التي نوزّع بها الأدوية وحتى تحسين الدقة في الكشف المبكر عن الأمراض. إن الوعد الحقيقي الذي يحمله لنا هذا الابتكار هو عندما تسنح لنا الفرصة لتغيير حياتنا اليومية.
استجابة القطاع الصحي لجائحة فيروس كورونا
من أبرز الأمثلة الحديثة على التكنولوجيا التي أدخلت تحسينات ملموسة على صحتنا هي سرعة استجابة العالم لجائحة فيروس كورونا، فقد أصبح بين أيدينا عدة لقاحات قيد التطوير، التي نال الكثير منها موافقة الجهات التنظيمية ويتم توزيعها على ملايين الأفراد على مستوى العالم، وهو ما يُعد إنجازاً علمياً مذهلاً. وبفضل التكنولوجيا في مجال علم المناعة، تمكنت قطاعات التكنولوجيا الحيوية والصناعات الدوائية من تحديد تسلسل جينوم الفيروس وتطوير لقاحات مرشحة وإجراء التجارب بعد أشهر من تفشي الفيروس.
ولكنَّ السؤال هو: كيف أصبح ذلك ممكناً؟
تكمن الإجابة في أن علماء هذا العصر أمضوا سنوات عديدة في تصميم تقنيات جديدة للاستعداد لهذه الأحداث، وخضعت إمكانيات علم الوراثة الحديثة للبحث والاستكشاف، وأصبح من الممكن استخدام تسلسل الجينوم للتنبؤ بمكونات الفيروس. كما أتاحت البنية الأساسية للتجارب السريرية اختبار سلامة هذه اللقاحات وفعاليتها على مستوى العالم بوتيرة غير مسبوقة، ونتيجة لذلك، يحظى سكان دولة الإمارات العربية المتحدة بامتياز ليحجزوا مكاناً لهم بين أوائل الأمم التي حصلت بالفعل على لقاح فعال وآمن مصمم لحمايتهم من فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19".
التطبيب عن بُعد
يُعد التطبيب عن بُعد مثالاً آخر على التكنولوجيا التي تمكّنت من إحداث تحول في تقديم خدمات الرعاية الصحية خلال العام الماضي. إذ لم يكن تقديم الرعاية الطبية عن بُعد عن طريق تكنولوجيا الاتصالات متاحاً على نطاق واسع قبل الجائحة، وعندما كان متاحاً، كان المرضى يفضلون عادة الاستشارات التقليدية وجهاً لوجه، وعندما تفشت الجائحة، أصبح هذا النوع من الاستشارات غير ممكن، ولهذا نجحت الزيارات الافتراضية في سد الفجوة.
وعلى الرغم من ذلك فقد انتاب المرضى حالة من التردد، وكان هناك حاجة إلى بث روح الطمأنينة، وجاءت وتيرة التغيير في طريقة تفاعلنا مع أخصائيي الرعاية الصحية بطريقة سريعة وجديدة، وبالتالي كان اكتساب ثقة المرضى أمراً ضرورياً.
إن التطبيب عن بُعد أدى دوراً أكبر من مجرد تقديم حل قصير الأجل، فقد ساهم في توفير الرعاية الصحية بصورة أكثر سهولة، ووفر سبل الراحة للأشخاص المعرضين للخطر، وجعل المرضى يشعرون بالاسترخاء في بيئتهم الخاصة. كما جعلهم أكثر تقبلاً لمشاركة معلومات عن حالتهم الصحية، ولهذا جاءت الجائحة بمثابة دفعةٍ عجلت باعتماد التطبيب عن بُعد، وهذا التحول من المرجح أن يكون دائماً.
جهود منصة "ملفّي" لتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الرعاية الصحية
من بين المزايا المهمة الأخرى التي وفرها الابتكار لصحة شعبنا الكريم هي تعزيز تبادل بيانات جهود الاستجابة التي أتيحت خلال ذروة الجائحة، وجاء رد صناع القرار فورياً وحاسماً. إذ تمكنت "دائرة الصحة – أبوظبي" بفضل توافر منصة "ملفّي" التي سهلت عملية مشاركة البيانات من ربط مؤسسات الرعاية الصحية التي قدمت خدمات الرعاية المباشرة لمرضى "كوفيد-19" وإنشاء قاعدة بيانات مركزية لكل نتيجة اختبار في الإمارة، والتي بلغت أكثر من 43 مليون اختبار حتى تاريخه.
ويبقى السؤال: ما هو النفع الذي عاد علينا؟ حسناً، يمكن لمقدمي الرعاية الصحية اتخاذ قرارات أكثر دقة وكفاءة بشأن الرعاية التي نقدمها، مع ضمان إمكانية تقييم المخاطر على كل مريض، فضلاً عن حماية موظفيها والمرضى الآخرين. لقد أتاح توفر هذه البيانات في الوقت الفعلي لدائرة الصحة تعزيز استجابتها للجائحة بشكل سريع، فقد استطعنا تنفيذ تدابير أفضل لمكافحة الجائحة، وكما ذكرت سابقاً فإن السبيل لتحقيق التقدم في مجال الرعاية الصحية هو تعزيز التعاون بين القطاعين الخاص والعام. إذ تنشئ "ملفّي" قاعدة بيانات مركزية لسجلات المرضى الموحدة، ما يحسن جودة الرعاية الصحية والنتائج المتحققة للمرضى. كما أن الوصول الفوري إلى السجلات الطبية المهمة، التي يمكن مشاركتها بأمان فيما بين مقدمي الرعاية الصحية في جميع أنحاء الإمارة، يضمن تقديم رعاية أكثر أماناً وسرعة وكفاءة يوماً بعد يوم.
نتيجة للتكاتف المستمر لكافة المعنيين في هذه الرحلة، نجحت دولة الإمارات العربية المتحدة في تطعيم 79.04% من سكانها بالجرعة الأولى على الأقل، بينما تلقى 70.69% منهم جرعتين كاملتين من اللقاح، بحسب أحدث الإحصاءات الصادرة عن حكومة دولة الإمارات. وهذا ما يجعلنا في مصاف الدول ذات أعلى معدل تطعيم في العالم، وفي إمارة أبوظبي تحديداً، قدمت منصة "ملفّي" جميع بيانات اللقاحات في الإمارة لدعم برنامج التطعيم الرقمي عالي الكفاءة التابع لدائرة الصحة، وستكون أنظمة إدارة المخاطر السكانية فيما يخص الرعاية الصحية ذات قيمة قصوى بالنسبة للتحذيرات المبكرة وزيادة الجاهزية للتعامل مع أي تفشي مستقبلي محتمل لسلامة السكان على الصعيدين المحلي والعالمي.
المعلومات الطبية كقاعدة بيانات للمرضى
قبل إنشاء منصة "ملفّي"، كان يتم الاحتفاظ بالمعلومات المهمة حول صحتنا بمعزل عن بعضها، وتحميلها على نظام السجلات الطبية الإلكترونية (EMR) الخاص بالمستشفى أو العيادة، ولأننا نزور بالتأكيد العديد من المختصين في الرعاية الصحية، في مختلف المرافق وعلى مدار حياتنا، لا يتمكن المتخصصون من مشاركة هذه البيانات، ما يؤثر في أحيان كثيرة على تنسيق الرعاية. وكان يقع العبء على المرضى الذين يجب أن يتذكروا جلب سجلاتهم معهم في كل موعد.
ومع اعتماد منصة "ملفّي"، التي تُعد جزءاً من الأولويات الاستراتيجية لدائرة الصحة وعنصراً رئيسياً في التحول الرقمي لنظام الرعاية الصحية في أبوظبي، يمكن أن تكون هذه السجلات الطبية الإلكترونية بمثابة لغة مشتركة. إذ تتيح المنصة التبادل الهادف والآني للمعلومات الصحية المهمة بين مختلف مقدمي الرعاية الصحية في أبوظبي، فعندما يذهب المريض إلى طبيب أو ممرض أو أي مقدم آخر للرعاية الصحية، فإنهم سيتمكنون من الوصول إلى معلومات مهمة ومحدثة باستمرار حول التاريخ الطبي للمريض في نقطة الرعاية. وبذلك لا يقلق المرضى بشأن تذكر تفاصيل من تاريخهم الطبي أو حمل سجلاتهم الورقية، وتقدم للمرضى رعاية محسّنة وأكثر أماناً وفاعلية وتنسيقاً.
التزامنية في مشاركة السجلات الطبية
تربط منصة "ملفّي" الآن 94% من جميع حالات المرضى، و98% من المستشفيات في أبوظبي، وما يقرب من 1,300 منشأة مختلفة من حيث النطاق والحجم، فمع المشاركة الكبيرة من جميع المرافق في جميع أنحاء الإمارة، سيتم تسجيل جميع الزيارات والإجراءات الطبية والتشخيصات والنتائج المخبرية وتقارير التصوير بالأشعة والأدوية التي يتناولها المريض، ما يضمن استمرار الرعاية أياً كان المكان الذي اختار المريض الذهاب إليه لتلبية احتياجاته الطبية.
الجدير بالذكر أن منصة "ملفّي" حصلت على الاعتماد من هيئتين عالميتين وهما، "المنظمة الدولية للمعايير" (آيزو ISO) في مجال إدارة أمن المعلومات، و"لجنة اعتماد شبكة الرعاية الصحية الإلكترونية" (EHNAC)، ويؤكد هذا الإنجاز تميز المنصة بمعايير خصوصية البيانات إضافة إلى أفضل الممارسات الأمنية المتبعة فيها.
إن مستقبل وإمكانات الابتكار في مجال الرعاية الصحية أمر مذهل حقاً، ويمكن أن يكون قطاع الرعاية الصحية في بعض الأحيان أبطأ في تبني التكنولوجيا الجديدة مقارنة بالقطاعات الأخرى، ولكن في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبفضل رؤية قيادتنا الحكيمة، وباعتبارنا من أوائل المتبنين لدمج التكنولوجيا الصحية، أصبحنا في وضع يمكننا من الاستفادة من هذا التحول، مع رؤية التحسينات في الرعاية التي نتلقاها كل يوم.