3 توجهات تميّز الشركات الناشئة في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي

5 دقيقة
مجال الذكاء الاصطناعي
بيبينو دي مار استوديو/ستوكسي

ملخص: يخفي التزايد الكبير في أعداد الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في كافة القطاعات قاسماً مشتركاً بين الكثير منها، وهو أنها تعتمد في تأسيسها على تكنولوجيا معيارية موحدة ابتكرتها الشركات العملاقة القليلة في عالم الذكاء الاصطناعي، وأبرزها أوبن أيه آي وجوجل وميتا، ما يعطي أهمية أكبر لاستراتيجية الشركة وليس للتكنولوجيا التي تتبناها. سيكون على الشركات التي تستفيد من هذه الأدوات التفكير في كيفية تحقيق قيمة تتجاوز ميزاتها التكنولوجية، وفيما عليها اتخاذه من خطوات تميزها عن بقية الشركات، كما أن عليها الاستعداد لتبعات تبني التكنولوجيا، ومنها ارتفاع معدل دوران الموظفين.

وفي ظل استمرار ارتفاع أسعار الفائدة تراجعت استثمارات رأس المال المغامر إلى حد كبير إلا في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ ضخ المستثمرون ما يتجاوز 40 مليار دولار في مشاريع الذكاء الاصطناعي خلال النصف الأول من العام 2023، وتمثل الشركات الناشئة في الذكاء الاصطناعي أكثر من ثلث عدد الشركات الجديدة في المجموعة الأخيرة الحاصلة على دعم مسرعة الأعمال المشهورة، واي كومبينيتور (Y Combinator)، فالجميع تقريباً يسارع إلى ركوب موجة الذكاء الاصطناعي في خوف عارم مما قد يفوتهم من مكاسب.

يخفي التزايد الكبير في أعداد الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في كافة القطاعات قاسماً مشتركاً بين الكثير منها، وهو أن غالبيتها قائمة على التكنولوجيا الأساسية نفسها. كانت الشركات في السابق عموماً تبني نظمها الخاصة وتطورها، أما اليوم فأغلب الشركات الجديدة القائمة على الذكاء الاصطناعي تستند إلى تكنولوجيا معيارية موحدة ابتكرتها الشركات العملاقة القليلة في عالم الذكاء الاصطناعي، أبرزها أوبن أيه آي وجوجل وميتا.

عكفت طويلاً على دراسة تأثير التوحيد القياسي في الابتكار والتنافسية، وتبين لي على الدوام أنه حين تعتمد الشركات كلها الأدوات نفسها فلن يكون للانفراد باستخدام أداة مختلفة بعض الشيء أثراً مهماً، سواءً أكنا نتحدث عن ألعاب الفيديو أو متجر تطبيقات آبل، وأدركت أن الرؤية والاستراتيجية، وليس التكنولوجيا، تميزان الشركة في المنافسة.

وما دمنا في ساحة الذكاء الاصطناعي التوليدي، فبوسعنا توقع 3 اتجاهات سائدة بناء على تزايد انتشار التكنولوجيا الموحدة:

1. ركيزة نجاح الشركة هو نموذج أعمالها وليس ما تمتلكه من تكنولوجيا

تتيح نماذج المنصات موارد قوية للجميع، ما يساعد المطورين الأفراد أو الشركات الناشئة المثابرة على مناطحة كبرى الشركات. ونجد مثلاً أن المطورين في منظومة متجر آبل للتطبيقات لا يبنون المنتج من الصفر بل يستفيدون من الأدوات المتقدمة التي توفرها آبل لهم، ما يخلصهم من عبء مسؤوليات العملية التقنية المرهقة ليكتفوا بحمل جزء يسير منها ويمهد لهم الطريق لطرح مجموعة واسعة من التطبيقات على النحو الذي نراه بين أيدينا اليوم.

التحدي الذي تواجهه أي شركة تعتمد على مجموعة أدوات موحدة هو أن بقية الشركات تستطيع استخدام الأدوات نفسها، وإن توصلت إلى فكرة مجدية فسيكون من السهل على غيرك محاكاتها تقنياً على الأقل لأن أغلب الميزات الجديدة قابلة للاستنساخ، وحتى إن نجح تطبيق ما وحظي بميزة تنافسية فهي لن تدوم له طويلاً؛ توصلت في بحثي إلى أن سبب احتفاظ الشركات بميزة تنافسية أطول أمداً هو امتلاكها استراتيجيات أفضل من غيرها، وليس انفرادها بمنتج مميز.

على سبيل المثال، لم تحقق شركة روفيو انترتينمنت (Rovio Entertainment) النجاح إلا حين طرحت لعبة "آنغري بردز" (الطيور الغاضبة) (Angry Birds)، بعد 51 محاولة فاشلة. لم تنفرد اللعبة بميزة تقنية فريدة، إلا أن روفيو اتجهت إلى ترويج العلامة التجارية للعبة وركزت على شخصياتها، على النحو الذي حولت به ديزني شخصيتي ميكي وميني إلى وجهين معتادين على العديد من المستلزمات المنزلية، ولم يتمكن أحد من استنساخ علامة آنغري بردز التجارية على الرغم من أن اللعبة نفسها استنسخت بالفعل (كما أن الهوس بها خمد في غضون سنوات)،

على الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي إمعان التفكير في كيفية بناء قيمة تتجاوز وظائف منتجاتها الأساسية، سواءً أكان ذلك بتعزيز هوية العلامة التجارية وشهرتها أو تقديم تجربة سلسة مبسطة لعملائها عند خدمتهم. ومع أهمية التنافس على جذب المواهب التقنية في مجال الذكاء الاصطناعي، لا يمكن تجاهل تأسيس بنية تحتية بشرية استراتيجية، فالموظفون الآخرون، بدءاً من مدراء المنتجات وصولاً إلى خبراء التسويق، قادرون على التوصل إلى "سر التميز" في سوق توحدت مقاييسها.

كما أن التكنولوجيا موحدة المعايير تعني أن زمام الأمور يبقى في أيدي كبرى شركات الذكاء الاصطناعي، مثل أوبن أيه آي وجوجل وميتا، وعندما تعتمد شركة بأكملها على منتج شركة أخرى فسيفرض المورد شروطاً صارمة. خذ مثلاً شركة آبل التي تحصل على 30% من كل عملية شراء للتطبيقات، وتحظر على التطبيقات توجيه المستخدمين للشراء خارج منظومة متجرها. كما هو الحال مع بقية المنصات، يعود التوحيد القياسي بالنفع في المقام الأول على الشركات التي تطرح الأدوات.

2. سوف تصبح المنتجات السائدة متماثلة

كانت ألعاب الفيديو تُنتج فيما مضى من الصفر، وكان ابتكار عالم ألعاب أشبه بتشييد منزل من دون الاستعانة بأي موردين، فتجلب المكونات الأساسية أو تعيد صنعها بنفسك. ومع ذلك، طرحت شركة إيبك غيمز (Epic Games) لعبة أنريل إنجن (Unreal Engine) في أواخر التسعينيات، وأعقبتها بلعبة يونيتي إنجن (Unity Engine) في عام 2005. استطاعت الشركة اختصار الزمن اللازم للإنتاج وخفض تكاليفه بتمكين المطورين من تشغيل عمليات المحاكاة والتحريك والتكوين عبر إطار تقني قائم بالفعل.

توصلت في بحثي إلى أن المطورين الذين اعتمدوا على هذه الأدوات القياسية في إنشاء الألعاب تمكنوا من الاقتصاد في الموارد وتحقيق مبيعات أعلى، بعد أن ركزوا جهدهم على تحسين منتجاتهم بدلاً من إنشاء وظائفها الأساسية. وفي المقابل، كانت منتجاتهم الجديدة أقل حداثة وشابهت منتجات أخرى تستخدم الأدوات نفسها، الأمر الذي قد يستدعي مفاضلة محتملة بين الكفاءة والإبداع.

قد نصل إلى الوضع نفسه مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، فربما تتشابه المنتجات التي صنعت بواسطة النماذج اللغوية الكبيرة، مثل تشات جي بي تي، لأنها اتخذت مسار البيانات والعمليات نفسها التي تشترك فيها النماذج اللغوية الكبيرة.

وفي الوقت نفسه، عندما تصبح التكنولوجيا الجديدة أرخص، يصبح بمقدور العديد من الشركات تحمل تكاليف تجربة أفكار مبتكرة تنطوي على مخاطرة، وبالتالي سيمتلك أصحاب الأفكار الجديدة الجرأة على تجربتها، وتتاح لهم الفرصة ليصبحوا رواد أعمال. على سبيل المثال، حولت شركة شوبيفاي (Shopify) بيع المنتجات عبر الإنترنت إلى تجربة ميسرة وسلسة حين اهتمت بتطوير واجهة المتجر وخطوات التسليم والتوزيع، فأتاحت دخول البائعين إلى السوق بسهولة أكبر.

سوف يبرز بين الحين والآخر تطبيق ذكاء اصطناعي متخصص فينتشر ويصيب حظه من النجاح، وأصبحت الشركات الصغيرة اليوم مهيأة لاستكشاف تلك الأفكار بعد أن خفضت التكنولوجيا القياسية التكاليف وخففت حواجز الدخول إلى الأسواق. ولكن الأرجح أن التكنولوجيا الموحدة قياسياً ستجعل منتجات الذكاء الاصطناعي السائدة متماثلة.

3. سوف تعاني الشركات ارتفاع معدلات دوران الموظفين المسؤولين عن إنشاء منتجات الذكاء الاصطناعي وإدارتها

توصلت في بحثي إلى أن وتيرة تنقل الموظفين بين الشركات تتزايد عقب طرح أداة قياسية، وقال باحثون آخرون إنه بمجرد أن شاع الاعتماد على برامج البيانات، مثل إكسل (Excel)، في العديد من العمليات المحاسبية، تراجعت قيمة مهارات مثل الحساب بينما ارتفعت قيمة مهارة استخدام تلك البرمجيات، الأمر الذي مكّن الموظفين المتمرسين على البرنامج من التنقل بين الوظائف بسهولة، لأن الطلب كان كبيراً على مهاراتهم. ونجد اليوم تأثيراً مشابهاً وإن كان على نطاق أضيق في برامج تُستخدم على نطاق واسع، مثل برنامج شركة سيلز فورس (Salesforce) التي تصدر شهادات اعتماد للموظفين الذين يجيدون استخدامه يقدمونها للشركات التي يعملون بها.

إن بُنيت معظم منتجات الذكاء الاصطناعي على الأسس نفسها فلن يضطر الموظفون إلى تعلم برامج جديدة من الصفر عندما ينتقلون من وظيفة إلى أخرى، وبالتالي تتزايد فرصهم في سوق العمل، ومن شأن ذلك أيضاً أن يحدث تغييراً في مجموعة المهارات المطلوبة؛ سوف يكون الطلب مستقبلاً على الموظفين الذين يمكنهم استخدام أدوات بارد (Bard) أو جي بي تي (GPT) بفعالية بدلاً من بناء أنظمة الذكاء اصطناعي من الصفر.

ومن منظور الموارد البشرية، على الشركات وضع استراتيجية لاستبقاء الموظفين والاستعداد لمواجهة ارتفاع معدل دوران الموظفين الذين يتممون بمهاراتهم عمل الذكاء الاصطناعي. إن الأدوات القياسية تخفف عن الشركة عبء الاستثمار في موظف لتزويده بما يلزمه من معارف ومهارات، ولكنها تزيد حجم الموارد المخصصة لتوظيف الأفراد واستبقائهم.

مع تزايد منتجات الذكاء الاصطناعي التي تبنى بالاعتماد على مجموعة أدوات موحدة، تكتسب الاستراتيجية أهمية أكبر من أهمية التكنولوجيا التي تملكها الشركة. سيكون على الشركات التي تستفيد من هذه الأدوات التفكير في كيفية تحقيق قيمة تتجاوز ميزاتها التكنولوجية، وفيما عليها اتخاذه من خطوات تميزها عن بقية الشركات، كما أن عليها الاستعداد لتبعات تبني التكنولوجيا، ومنها ارتفاع معدل دوران الموظفين.

سوف يتواصل تطور مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، وربما يزداد الاعتماد على النماذج اللغوية الكبيرة مفتوحة المصدر، وربما تنفجر فقاعة التمويل الهائلة التي تحيط اليوم بصناعة الذكاء الاصطناعي. لكن الحجم غير الطبيعي للموارد اللازمة لبناء نماذج ذكاء اصطناعي توليدي من الصفر تفرض على معظم الشركات الاعتماد على أحد أشكال التكنولوجيا القياسية الموحدة. ومن حسن حظنا، في ظل حالة عدم اليقين هذه، أن نمتلك تصوراً لما سوف يعنيه التوحيد القياسي للشركات والمنتجات والموظفين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي