إليكم هذا المثال الرياضي: عندما خرج الظهير الربعي لفريق بوفالو بيلز، فونتي ديفيس، من الملعب بين شوطي المباراة، كان فريقه خاسراً في مواجهة فريق لوس أنجلوس تشارجرز الذي أحرز 28 نقطة مقابل 6 نقاط فقط لفريق بوفالو. ولكن بدلاً من الاجتماع مع أفراد فريقه، أنهى ديفيس مسيرته في كرة القدم الأميركية فوراً، في تلك اللحظة وفي ذاك المكان، وفي وقت لاحق من مساء ذاك اليوم أعلن تقاعده على مواقع التواصل الاجتماعي قائلاً: "اليوم في الملعب، صدمتني الحقيقة فجأة وبقوة: لا مكان لي في الملعب بعد الآن". شعر كثيرٌ من الناس بالغضب، ومن بينهم لاعب الظهير الخلفي لورينزو أليكساندر الذي قال: "إنّ تصرفه هذا ينم عن عدم احترامه لزملاءه في الفريق". ولكن البعض خالفوه بالرأي فقالوا عن ديفيس أنه: "بطل الطبقة العاملة".
وعلى الرغم من أن تقاعد ديفيس المباغت في منتصف المباراة يبدو غير تقليدي، إلا أنه أثار مشاعر قوية لمجموعة أسباب مختلفة، بما فيها سؤال يطرحه كثير منا: "إلى متى يجب عليّ التمسك بأمر ما؟".
حظيت روح المثابرة في السنوات الأخيرة بتأييد العديد من مدارس البحث، بما فيها علماء النفس الذين يقومون بدراسة الجَلَدْ. فقد وجدوا أن القدرة على التمسك بعمل ما، بالأخص عند مواجهة الصعوبات، هو عامل حاسم في تفسير نجاح كل فرد، بدءاً من الأطفال في مسابقات التهجئة الوطنية وصولاً إلى المجندين في الأكاديمية العسكرية والجامعيين المنتمين إلى "رابطة اللبلاب".
ثم تأتي فكرة أن الإصرار في وجه الشدائد يزيد التعلم وتحسين المهارات. وقد وجد بحث كارول دويك على عقليات النمو أن الأشخاص الذين يعاملون التحديات على أنها فرص للتطور والتعلم يتمتعون بأداء أفضل على المدى الطويل. فهم يثابرون بإصرار عندما يواجهون التحديات ويحصلون بالنتيجة على مجموعة أعمق وأوسع من المهارات.
والفائدة الأخيرة لروح المثابرة هي أننا لا نعلم متى سينقلب حظنا. وجد بحث حديث أجري على ما يقارب 29,000 فنان وصانع أفلام وعالم أن معظمهم حظي بضربة حظ قوية في مسيراتهم المهنية عندما ذاع صيت عملهم على نطاق واسع. ولكن جاءت ضربات الحظ هذه في أوقات عشوائية في مسيراتهم المهنية، ولم ترتبط بأعمارهم ولا خبراتهم ولا لأنهم أكثر إنتاجية. إنما أتت فحسب. ويشير هذا إلى أنك إن كنت تفكر بالانسحاب يجب عليك تذكر أن هناك ضربة حظ وشيكة.
ولكن هناك أبحاث أخرى تختلف مع هذه النتائج. أجري تحليل "ميتا" على دراسات أجريت على أكثر من 66,000 شخص ووجد أن هناك رابطاً ضعيفاً بين الجلَد والأداء. ووجد بحث جديد أجري على أكثر من 5,600 طالب يخضع لاختبارات اللياقة المدرسية أنه لا يوجد رابط بين عقلية النمو والنقاط المسجلة في الاختبار. لم يكن أصحاب عقليات النمو أكثر قابلية للتطور في حال خضوعهم للاختبار مجدداً، وحتى أنهم لم يحاولوا الخضوع له مرة أخرى. ماذا عن الدراسة التي أجريت على ضربات الحظ التي حظي بها الفنانون؟ تبين أن معظمهم حظي بضربة حظ واحدة فقط، وكان من النادر وجود ضربة ثانية بالأخص بالنسبة لصانعي الأفلام. لذلك إن كنت قد حظيت فعلاً بضربة حظ أدت إلى نجاحك مرة، فليس لديك فرصة للحصول على ضربة أخرى.
في الحقيقة، هناك الكثير من الأعمال التي تبين إمكانية وجود جانب سيئ لروح المثابرة. فيمكن أن يعني عدم الاستسلام أن يصرّ الإنسان على المثابرة في عمل على الرغم من عدم وجود ما يجنيه منه. في إحدى الدراسات، أوكلت مهمات مملة لأشخاص يعملون على الإنترنت. وجد الباحثون أن المشاركين الذين قالوا أنهم شديدو الإصرار استمروا بالعمل على المهمة على الرغم من حقيقة أنها مملة دون وجود الكثير ليجنوه من الناحية المالية. وبذلك، وعلى الرغم من أن الإصرار كان قيّماً في الأعمال المهمة والمجدية، إلا أن الذين لا يتمكنون من الانسحاب من أعمال لا قيمة لها والتي تعتبر غير ممتعة ولا مجدية ينتهي بهم الأمر بهدر وقتهم ومواهبهم.
إن إبقاء التركيز على هدف واحد لفترة طويلة من الزمن قد يعني تجاهل بدائل أفضل. وأحد الأمثلة الكبيرة عن ذلك هم لاعبو كرة القاعدة في الفرق الصغيرة، فهم غالباً يتقاضون أجوراً قليلة ولا يتمتعون بالأمان في الوظيفة، ولكنهم يعيشون على أمل أن يتم اكتشافهم ليشقوا طريقهم إلى الفرق الكبيرة، ولكن 11% فقط من اللاعبين بإمكانهم تحقيق ذلك. أما ما تبقى من اللاعبين، أي 89% فهم يبقون في أماكنهم لسنوات. وإذا توقفوا عن ممارسة كرة القاعدة فعلى الأغلب أنهم سيجدون وظائف بديلة أكثر أماناً وأعلى أجراً وسيحظون بمسار مهني محدد. باختصار، بقائهم تحت تأثير سحر حلمهم لن يمكنهم من استكشاف الخيارات الأخرى التي قد تكون مربحة أكثر.
تؤدي عدم رغبة الإنسان بالتخلي عن أمر ما إلى شعوره الدائم بعدم الرضا، حتى عندما يتمكن من تحقيق ما أراده في نهاية المطاف. لقد تم توضيح ذلك بصورة لطيفة في بحث أجري على خريجي الجامعات الجدد الراغبين بإيجاد وظائف، حيث وجد الباحثون طلاباً يميلون إلى "تضخيم" خياراتهم، وكانوا شديدي التركيز على الوصول إلى أفضل وظيفة ممكنة وانتهى بهم الأمر بالحصول على أجور أعلى بنسبة 20%. ولكنهم عموماً لم يشعروا بالرضا عن وظائفهم التي حصلوا عليها بعد معاناة أكثر إيلاماً.
يمكن أن تكون عدم الرغبة بالانسحاب أكثر من مجرد أمر غير مجدي. ففي بعض الحالات يمكن أن تصبح أمراً خطيرة جداً، وذلك عندما يؤدي إصرار الإنسان إلى الاستمرار بأعمال خاسرة أو مضاعفتها. وجدت إحدى الدراسات أن الشخص شديد العناد لا ينسحب عندما يكون خاسراً، وهو مستعد لتحمل المعاناة من الخسائر المالية في سبيل متابعة العمل على أمر ما. ووجدت دراسة أخرى على المخترعين المحتملين أن أكثر من نصف المشتركين مستعدون للاستمرار بالعمل على اختراعاتهم حتى بعد تلقي نصائح موثوقة بأنها معيبة على نحو قاتل، وهدر المزيد من الأموال على المشروع. والعبرة من هذا هي أنّ الأشخاص العنيدين هم من يجدون أنفسهم عالقين في مسارات خاسرة.
قد تكون عدم القدرة على التخلي عن أهداف عزيزة على الرغم من أنها غير قابلة للتحقيق مضرة بصحتك النفسية والجسدية. إذ يشعر الأشخاص الذين يصارعون للتوقف عن محاولة تحقيق أهداف مستحيلة بتوتر أكبر وتظهر لديهم أعراض الاكتئاب بصورة أكبر ويعانون كثيراً من الأفكار المتداخلة ويصعب عليهم النوم. وتعلو لديهم نسب الإصابة بالأكزيما والصداع والمشاكل الهضمية. كما أن التركيز على أهداف غير قابلة للتحقيق مرتبط بأمراض كارتفاع مستوى الكوليسترول في الدم (الذي يرتبط مع مرور الوقت بزيادة الوزن وارتفاع ضغط الدم والمزاج السيئ ومشاكل النوم) ومستويات أعلى من البروتين المتفاعل المرتبط بالالتهابات في الجسم.
لذلك، عندما تتساءل عما إذا كان عليك التمسك بعمل أو هدف، أو التخلي عنه والانسحاب، وازن احتمالات الاستمرار بالتعلم والتطور بصورة متزايدة مقابل ما يمكن أن يترافق مع المثابرة العنيدة من تكاليف ومخاطر وقصر النظر.